فصرخ الأزهري، وقد جن جنونه: أدبوهم جميعا.
عند ذاك علا صوت قوي يقول بلهجة آمرة: انتظر يا سيدنا الشيخ ... انتظروا جميعا.
فاتجهت الأنظار إلى الصوت، فإذا بأفندي شاب يبرز من بين الجموع إلى الدائرة المحصورة يتبعه ثلاثة في مثل سنه وزيه، تقدموا في خطوات ثابتة توحي بالثقة والعزم، حتى وقفوا بين الشيخ وبين المتهم وذويه، تهامس كثيرون متسائلين: «بوليس ... بوليس؟» بيد أن التساؤل انقطع حينما مد الأزهري يده إلى يد قائد الجماعة، وشد عليها بحرارة. ثم سأل الأفندي الأزهري بنبرات حاسمة: أين هذا الجاسوس؟
فأشار الشيخ إلى ياسين بازدراء وتقزز، فالتفت الشاب إليه، وثبت عليه عينيه متفحصا إياه بدقة وقسوة، وقبل أن ينبس بكلمة تقدم فهمي خطوة إلى الأمام كأنما ليسترعي انتباهه فلمحه الآخر ... وسرعان ما اتسعت عيناه دهشة وإنكارا، فغمغم قائلا: أنت ...
فابتسم ابتسامة شاحبة، وقال بلهجة لا تخلو من تهكم: هذا الجاسوس أخي!
فالتفت الشاب إلى الأزهري متسائلا: أأنت متأكد مما تقول؟
فبادره فهمي قائلا: ربما صدق في قوله ... إنه رآه يحادث الإنجليز ولكن أساء التفسير أيما إساءة، إن الإنجليز معسكرون أمام بيتنا، وهم يتعرضون لنا في الذهاب والإياب، فنتورط أحيانا في محادثتهم على كره .. هذا كل ما هنالك.
وهم الأزهري بالكلام، ولكن الشاب أسكته بإشارة من يده، ثم خاطب الجمع قائلا وهو يضع يده على منكب فهمي: هذا الشاب من الأصدقاء المجاهدين، كلانا يعمل في لجنة واحدة، فكلامه عندي مصدق ... أخلوا سبيلهم.
لم ينبس أحد بكلمة، انسحب الأزهري بلا تردد ومضى الناس يتفرقون، صافح الشاب فهمي، ثم ذهب يتبعه رفاقه، ربت فهمي على رأس كمال حتى كف عن البكاء، ساد الصمت فأخذ كل يضمد جراحه، انتبه السيد إلى وجوه نفر من معارفه قد أحاطوا به وراحوا يواسونه، ويعتذرون إليه عن الخطأ الكبير الذي وقع فيه الأزهري، ومن ضل به من الناس، ويؤكدون له أنهم لم يألوا جهدا في الدفاع عنه فشكرهم، وإن كان لا يدري متى جاءوا ولا كيف دافعوا عنه، وعدل عن الزيارة لما استحوذ عليه من انفعال، فاتجه صوب الباب مطبق الفم، متجهم الوجه، وتبعه الأبناء في صمت ثقيل.
62
অজানা পৃষ্ঠা