جرى الحديث بلا توقف، وما يزداد إلا حدة وعنفا، ولكن المرأتين لاذتا بالصمت إشفاقا ورهبة، لم تستطع زينب أن تدرك بواعث هذه الثورة العاطفية فلم تفهم لها معنى، نفي سعد ورجاله معه، ومن المؤكد أنهم لو عاشوا كما يعيش «عباد الله» ما فكر أحد في نفيهم، ولكنهم لم يريدوا ذلك، أرادوا أمورا خطيرة مرادها وخيم العواقب، دون ثمة ضرورة تدعو إليها، ومهما يكن من أمرهم، فماذا يبعث فهمي على هذا الغضب الجنوني كأن سعدا أبوه أو أخوه؟! بل ماذا بعث ياسين - وهو الرجل الذي لا يأوي إلى فراشه إلا مترنحا من السكر - على هذا الأسف؟! أيحزن حقا من كان مثله على نفي سعد أو غيره من الناس؟! كأن حياتها في حاجة إلى مزيد من التنغيص، حتى يعكر فهمي عليها صفو الجلسة القصيرة بهذه الثورة التي لا معنى لها. جعلت تفكر في هذا كله وهي تلحظ زوجها من آن لآخر متعجبة ساخطة، ولسان حالها يقول له: «إن كنت صادقا حقا في حزنك فلا تذهب هذا المساء - هذا المساء فقط إلى الحانة!» ولكنها لم تنبس بكلمة، كانت أحكم من أن تلقي بأفكارها الباردة في هذا التيار الناري، في هذه الناحية الأخيرة شابهتها الأم التي سريعا ما تفقد شجاعتها حيال الغضب وإن هان؛ لذلك لاذت بالصمت وانطوت على ضيق شديد وهي تتابع مشفقة الحديث الثائر الهائج، ولكنها كانت أعظم من زوج ياسين إدراكا لبواعث هذه العواصف، فإن رأسها لم يخل من ذكرى عرابي كما أن قلبها لم يخل من أسف على أفندينا، أجل لم تكن كلمة «المنفى» عاطلة من المعاني في نفسها، بل لعلها خلت من الأمل الجدير بأن يداعب شخصا كفهمي، فقد اقترنت في ذهنها - كما اقترنت في ذهن زوجها وأصحابه - باليأس من العودة، وإلا فأين أفندينا؟ ... ومن أجدر منه بالعودة إلى وطنه؟ ... ولكن أيظل فهمي على حزنه ما امتد النفي بسعد. ترى أي نحس في هذه الأيام يأبى إلا أن يبيتهم بنبأ ويصبحهم بنبأ، حتى زلزل أمنهم وكدر صفوهم؟! كم تتمنى أن يعود السلام إلى ربوعه، وأن تطيب هذه الجلسة كما طابت العمر كله، وأن تنبسط أسارير فهمي ويلذ الحديث، كم تتمنى ... - مالطة! ... هذه هي مالطة!
هكذا صاح كمال فجأة وهو يرفع رأسه عن خريطة البحر الأبيض، وقد ثبت أصبعه على رسم الجزيرة، ونظر إلى أخيه بظفر وسرور كأنما عثر على سعد زغلول نفسه، ولكنه وجد منه وجها متجهما كالحا، لا استجاب إلى ندائه ولا أعاره أدنى اهتمام، فباخ الغلام وأعاد بصره إلى رسم الجزيرة في ارتباك وحياء، ومضى يتأمله طويلا وهو يقيس ببصره المسافة بينه وبين الإسكندرية، وبينه وبين القاهرة، ويتخيل صورة مالطة الحقيقية ما شاء له الخيال، ومنظر أولئك الرجال الذين يتحدثون عنهم وهم مسوقون إليها. ولما كان قد سمع فهمي وهو يقول عن سعد إن الإنجليز انتزعوه على أسنة الرماح، فإنه لم يسعه أن يتصوره إلا محمولا على أسنة الرماح، لا متألما أو صارخا كما يتوقع في مثل تلك الحال، ولكن «ثابتا كالطود» كما وصفه أخوه أيضا في مرحلة أخرى من الحديث، وكم ود لو يستطيع أن يسائل أخاه عن كنه ذلك الرجل الساحر العجيب الذي يثبت على أسنة الرماح كالطود، ولكنه حيال ثورة الغضب التي التهمت سلام المجلس كله أجل تحقيق رغبته إلى فرصة أنسب، وأخيرا ضاق فهمي بمجلسه بعد أن أيقن أن ما بصدره من عاطفة أكبر من أن تروح عنها محادثة أخيه في هذا المكان الذي يقف من شعوره موقف المتفرج إن لم يكن موقف الإنكار، نازعته نفسه إلى الاجتماع بإخوانه في قهوة أحمد عبده، حيث يظفر بقلوب تستجيب لقلبه، ونفوس تسابقه إلى الإعراب عما يضطرم في قراراتها من الإحساس والرأي، هناك يسمع أصداء الغضب المتقد في قلبه، ويستأنس بإيحاءاته الجسورة الملتهبة في جو باهر من التعطش إلى الحرية الكاملة، مال إلى أذن ياسين وهمس: إلى قهوة أحمد عبده.
فتنفس ياسين من الأعماق؛ لأنه كان بدأ يتساءل - وهو من الحرج في غايته - عن وسيلة لبقة ينسحب بها من المجلس، ليمضي إلى سهرته، دون أن يزيد من غضب فهمي اشتعالا، لم يكن ما به من أسف تصنعا، أو لم يكن تصنعا كله، هز النبأ الخطير قلبه، ولكنه لو ترك إلى نفسه لتناساه بغير جهد كبير، ولما فرض على أعصابه ما فرض من تكلف مجاراة لفهمي، ومجاملة له، واحتراما لغضبه الذي لم يسبق له أن رآه على مثله من قبل، غادر الحجرة وهو يقول لنفسه: «حسبي اليوم ما بذلت من جهد في سبيل الحركة الوطنية، فإن لبدني علي حقا.»
54
على ضربات العجن المتصاعدة من حجرة الفرن فتح فهمي عينيه، كانت الحجرة مغلقة النوافذ، في شبه ظلام إلا ما لاح من نور باهت وراء خصاص النوافذ، ترامى إلى أذنيه همس أنفاس كمال المترددة، فعطف رأسه إلى فراشه القريب، ثم انثالت عليه ذكريات الحياة، هذا صباح جديد، إنه يستيقظ من نوم عميق سلمه إلى تعب شمل النفس والجسم، وإنه لا يدري إن كان يستيقظ صباح الغد بهذا الفراش أم لا يستيقظ أبدا، لا يدري ولا أحد يدري، فالموت يجوب شوارع القاهرة طولا وعرضا، ويرقص في أركانها، يا للعجب، ها هي أمه تعجن كعهدها منذ قديم، وها هو كمال يغط في نومه ويتقلب في أحلامه، وذاك ياسين يدل وقع قدميه فوق سقف الحجرة، على أنه انتزع نفسه من الفراش، أما أبوه فلعله الآن منتصب القامة تحت ماء الدش البارد، وها هو نور الصباح ذو البهاء والحياء تستأذن طلائعه في رقة بالغة، كل شيء يواصل حياته المعهودة كأن شيئا لم يحدث، كأن مصر لم تنقلب رأسا على عقب، كأن الرصاص لا يعزف باحثا عن الصدور والرءوس ... كأن الدم الزكي لا يخضب الأرض والجدران. وأغمض الشاب عينيه وهو يتنهد مبتسما إلى تيار مشاعره الزاخر بما يحمل في موجاته المتلاحقة من حماس وأمل وحزن وإيمان. حقا لقد حيي في الأيام الأربعة المنطوية حياة عريضة لم يكن له بها عهد من قبل، أو أنه لم يعرفها إلا أطيافا في أحلام اليقظة، حياة طاهرة رفيعة، حياة تجود بنفسها عن طيب خاطر في سبيل شيء باهر أثمن منها وأجل، تتعرض للموت بلا مبالاة، وتستقبله بعناد، وتهجم عليه باستهانة، وإذا أفلتت مخالبه مرة عادت إليه كرة أخرى متنكبة عن ذكر العواقب جانبا، شاخصة طوال الوقت إلى نور رائع عنه لا تحيد، مدفوعة بقوة لا قبل لها بها، مسلمة مصيرها لله وهي تشعر به محيطا بها كالهواء يغمرها من كل جانب. هانت الحياة كوسيلة حتى لم تعد تزن ذرة، وجلت كغاية حتى وسعت السموات والأرض، تآخى الموت والحياة فكانا يدا واحدة في خدمة أمل واحد، هذه تؤيده بالجهاد وذاك يؤيده بالفداء، لو أن الانفجار الرهيب لم يقع لمات غما وكمدا، فما كان يحتمل أن تواصل الحياة سيرها الهادئ الوئيد على أطلال الرجال والآمال، كان لا بد من انفجار ينفس عن صدر الوطن وصدره كالزلزال الذي ينفس عن أبخرة باطن الأرض المتجمعة، فلما وقعت الواقعة وجدته على ميعاد، فألقى بنفسه في خضمها ... متى حدث هذا؟ ... وكيف حدث؟ ... كان راكبا ترام الجيزة في طريقه إلى مدرسة الحقوق، فوجد نفسه بين شرذمة من الطلاب يتناقشون ملوحين بقبضاتهم: نفي سعد وهو يعبر عن قلوبنا، فإما أن يعود سعد ليواصل جهاده، وإما أن ننفى معه، وانضم الراكبون من الأهالي إليهم في الحديث والوعيد حتى الكمساري أهمل عمله ووقف ينصت ويتكلم، يا لها من ساعة! ... فيها أشرق بنفسه الأمل من جديد بعد ليلة من الحزن واليأس قاتمة، فأيقن أن هذه النار المتقدة لن تبرد، ولما أقبلوا على فناء المدرسة وجدوه مكتظا صاخبا مرعدا فسبقتهم قلوبهم إليه، ثم هرعوا إلى زملائهم تحدثهم نفوسهم بحدث وشيك، وما لبث أن انبرى أحدهم مناديا بالإضراب! ... شيء جديد لم يسمع من قبل، بيد أنهم هتفوا بالإضراب، وهم يتأبطون كتب القانون، وجاءهم ناظرهم المستر والتون في لطف غير معهود، ونصحهم بالدخول إلى الفصول، فكان الجواب أن صعد شاب منهم إلى أعلى السلم المفضي إلى حجرة السكرتير، وراح يخطب بحماسة فائقة، فلم يسع الناظر إلا الانسحاب. وأنصت إلى الخطيب بمجامع روحه وعيناه شاخصتان إلى عينيه، وقلبه يتابع دقاته في سرعة ونشاط، ثم ود لو يصعد إلى موقفه فيفيض من معين قلبه المستعر، ولكنه لم يكن ذا استعداد قوي للخطابة، فقنع بأن يردد غيره هواتف نفسه، وتابع الخطيب بانتباه حماسي حتى وقف عند مقطع من خطابه، فصاح مع زملائه جميعا في نفس واحد: «يحيا الاستقلال» ثم تابع الإنصات باهتمام بث الهتاف فيه حيوية جديدة، حتى انتهى الخطيب إلى مقطع ثان، فهتف مع الهاتفين: «لتسقط الحماية»، ووالى الإصغاء بجسم متصلب من الانفعال ، وهو يعض على أسنانه ليحبس الدمع الذي زفره جيشان نفسه، حتى إذا بلغ الخطيب المقطع الثالث هتف مع الهاتفين: «يحيا سعد»، هتاف جديد، وكل شيء جديدا بدا ذلك اليوم، بيد أنه هتاف مطرب رجعه قلبه من الأعماق، وظل يردده مع دقاته المتتابعة، كأنه صدى للسانه، بل هتاف لسانه كان صدى لقلبه، فإنه ليذكر كيف ردد قلبه هذا الهتاف في صمت مكظوم طوال الليلة السابقة للانفجار التي باتها مغموما محسورا، كانت عواطفه المكبوتة، حبه وحماسه وطموحه وتطلعه إلى المثل الأعلى، وأحلامه تائهة مبعثرة حتى انطلق صوت سعد مدويا، فانجذبت طائرة إليه كما ينجذب الحمام السابح في الفضاء إلى صفير صاحبه، ثم ما يدرون إلا والمستر إيموس نائب المستشار القضائي البريطاني لوزارة الحقانية يشق طريقه بين جموعهم، فقابلوه بهتاف واحد: «لتسقط الحماية ... لتسقط الحماية.» فتلقاهم الرجل ببرود لم يخرق به حد اللطف، ونصحهم بالعودة إلى دروسهم داعيا إياهم إلى ترك السياسة لآبائهم، هناك تصدى له أحدهم قائلا: إن آباءنا قد سجنوا، ولن ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون.
وتعالى الهتاف من أعماق القلوب كهزيم الرعد، فانسحب الرجل مسرعا. ود الشاب مرة ثانية لو كان هو القائل، لشد ما تنثال المعاني على روحه، ولكن يسبقه السابقون إلى إعلانها، فيشتد حماسه، ويتعزى بأن فيما ينتظره عوضا عما يفوته، وجرت الأمور سراعا، دعا الداعي إلى الخروج، فخرجوا متظاهرين، وتوجهوا إلى مدرسة المهندسخانة، فسرعان ما انضمت إليهم، ثم إلى الزراعة، فهرع طلبتها إليهم هاتفين كأنهم على ميعاد، ثم إلى الطب فالتجارة، وما بلغوا ميدان السيدة زينب، حتى انتظمتهم مظاهرة كبيرة انضمت إليها جموع الأهالي، وتعالى الهتاف لمصر والاستقلال وسعد، وكلما تقدموا خطوة ازدادوا حماسة وثقة وإيمانا بما يلقون في كل مكان من مشاركة تلقائية واستجابة بديهية، وما يصادفون من نفوس متحفزة تصدعت بالغضب حتى وجدت في مظاهرتهم المتنفس. تساءل - ودهشته لحدوث المظاهرة تكاد تغلب انفعاله بالتظاهر نفسه - «كيف حدث هذا كله؟!» لم تكن مضت إلا بضع ساعات على الصباح الذي شهد قنوطه وانهزامه، ها هو الآن، قبيل الظهر، يشترك في مظاهرة ثائرة يكاشفه فيها كل قلب بأنه صدى لقلبه، ويردد هتافه، ويناشده بإيمان لا يتزعزع أن يسير إلى النهاية، فأي سرور سروره، وأي حماس حماسه! ... لقد انطلقت روحه في سماء من الأمل لا تحدها الآفاق، نادمة على ما اعتورها من قنوط، خجلة بما رمت به الأبرياء من ظنون، وفي ميدان السيدة زينب بدا له منظر جديد من مناظر ذاك اليوم العجيب. رأى مع الرائين جماعات من فرسان البوليس، وعلى رأسها مفتش إنجليزي تتقدم ساحبة وراءها ذيولا من الغبار، والأرض تضطرب تحت وقع السنابك، إنه ليذكر كيف مد بصره نحوهم في ذهول من لم يسبق له أن وجد نفسه عرضة لمثل ذلك الخطر الداهم، وتلفت فيما حوله فرأى وجوها يلمع في محاجرها الحماس والغضب، فتنهد في عصبية ولوح بيده هاتفا، أحاط الفرسان بجموعهم ولم يعد يرى من الخضم الهائل الذي يضطرب فيه إلا رقعة محدودة يغرق بين رءوسها المشرئبة، ثم ترامى إليهم أن البوليس اعتقل طلابا كثيرين ممن تصدوا لمخالفته، أو كانوا على رأس المظاهرة، فللمرة الثالثة ذلك اليوم تمنى، وكان تمنيه أن يكون بين المعتقلين، ولكن من دون أن يخرج من الدائرة التي يتحرك فيها بجهد جهيد.
على أن ذاك اليوم كان يوم سلام بالقياس إلى اليوم الذي تلاه، بدا يوم الاثنين منذ مطلع الصباح يوم إضراب شامل اشتركت فيه جميع المدارس بأعلامها، وحشود من الأهالي لا يحيط بها الحصر، بعثت مصر بلدا جديدا يبكر إلى الاحتشاد في الميادين للحرب بغضب طال كتمانه، وألقى هو بنفسه بين الجموع في نشوة فرح وحماس كأنه تائه ضال عثر على أهله بعد فراق طويل، وسارت المظاهرة مسيرا مشهودا مارة بدور المعتمدين السياسيين، معلنة احتجاجها بمختلف اللغات، حتى بلغت شارع الدواوين، وهناك سرت بين الجموع موجة اضطراب عنيفة، وصاح صائحهم: «الإنجليز!» وما لبث أن فرقع الرصاص مغطيا على أصوات الهاتفين، فسقط أول القتلى، وواصل قوم تقدمهم في حماس جنوني، وتسمر آخرون، وتفرق كثيرون يلوذون بالبيوت والمقاهي، وكان هو ضمن الآخرين، اندس وراء باب وقلبه يبعث ضربات فزعة، متناسيا كل شيء إلا حياته، ولبث على ذلك زمنا لا يدريه، حتى شمل السكون الدنيا جميعها فمد رأسه، ثم قدمه، ومضى إلى حال سبيله غير مصدق بالنجاة، وعاد إلى بيته فيما يشبه الذهول، وفي وحدته الحزينة تمنى لو كان من الذاهبين أو في الأقل من الثابتين، وفي وقدة الحساب العسير وعد ضميره الفظ بالتكفير، ومن حسن الحظ أن بدا ميدان التكفير متسعا وقريبا.
وجاء الثلاثاء والأربعاء فكانا كالأحد والاثنين، أيام متشابهات في أفراحها وأحزانها، مظاهرات فهتاف فرصاص فضحايا، ألقى بنفسه في خضمها جميعا يندفع بحماس، ويسمو إلى آفاق بعيدة من الإحساس النبيل، ويضطرب بالحياة ويعضه ندم على النجاة! ثم ضاعف من حماسه وأمله انتشار روح الغضب والثورة، فما لبث أن أضرب عمال الترام وسائقو السيارات والكناسون، فبدت العاصمة حزينة غاضبة موحشة. وترامت الأخبار حاملة البشرى بقرب إضراب المحامين والموظفين. إن قلب البلاد يخفق حيا ثائرا ولن تذهب الدماء هدرا، ولن ينسى المنفيون في منفاهم، لقد زلزلت اليقظة الواعية أرض وادي النيل.
تقلب الفتى في فراشه فاسترد وعيه من لجة الذكريات، وجعل يتابع دقات العجن مرة أخرى مقلبا ناظريه في أركان الحجرة التي أخذت تستبين على النور المشرق رويدا وراء النوافذ المغلقة. أمه تعجن! ولن تزال تعجن صباحا بعد صباح، هيهات أن يشغلها حدث عن التفكير في إعداد الموائد وغسل الثياب وتنظيف الأثاث، إن كبار الحادثات لا يعطل صغار الأعمال، وسيتسع صدر المجتمع دائما للجليل والتافه من الأمور، فيرحب بها جنبا إلى جنب، ولكن مهلا، ليست أم على هامش الحياة هي التي أنجبته والأبناء وقود الثورة، وهي التي تغذيه والغذاء وقود الأبناء، الحق أن ليس ثمة شيء تافه في الحياة ... ولكن ألا يجيء يوم يهز فيه الحادث الكبير المصريين جميعا، فلا تتفرق عنده القلوب كما تفرقت في مجلس القهوة منذ خمسة أيام؟ ألا ما أبعد هذا اليوم! ثم جرت على شفتيه ابتسامة إذ وثب إلى ذهنه هذا السؤال: «ما عسى أن يصنع والده إذا علم ب «جهاده» المتواصل يوما بعد يوم؟ ماذا يصنع أبوه الجبار المستبد، وماذا تصنع أمه الرقيقة الحنون؟» ابتسم في حيرة وهو يعلم أن المتاعب التي قد تعترضه في تلك الحال ليست دون المتاعب التي قد تعترضه إذا نمى سره إلى السلطة العسكرية نفسها. ثم أزاح الغطاء عن صدره وجلس في الفراش وهو يغمغم: «سيان أن أحيا أو أن أموت، الإيمان أقوى من الموت، والموت أشرف من الذل، فهنيئا لنا الأمل الذي هانت إلى جانبه الحياة، أهلا بصباح جديد من الحرية، وليقض الله بما هو قاض.»
55
অজানা পৃষ্ঠা