فسكت الكل سكوتا تاما، وظهرت على وجوههم علامات الاكتئاب والكدر إلا البارون فركنباك، فإن وجهه امتلأ سرورا، وإن عينيه طفحتا حبورا، وكأن رفض لويزا جاء مطابقا لإرادته، موافقا لأفكاره، فأخذ يلاطفها ويؤانسها، ثم قال لها: أتذهبين معي إلى الأوبرا في هذا المساء؟ - أية رواية يمثلون اليوم؟ - رواية الفتاة المجنونة، وهي ذات ثلاثة فصول، وفيها ألحان مؤثرة حسنة التوقيع. - أذكر أنني قرأت هذه الرواية في صغري، ويسرني جدا أن أرى تمثيلها. - سوف تطربين منتهى الطرب، وتجدين في تمثيل رواية الفتاة المجنونة، وألحانها آيات توجب العجب، وتأخذ بمجامع الألباب، وتنتهب الأسماع أيما انتهاب، ولا جرم أن أمك جونريت تود أن تقاسمنا هذه المسرات وتشاطرنا هذه الملذات.
فعبست جونريت، وقالت: دعني من روايات المجانين، فقد شاهدت اليوم رواية لا تقل عن تلك حقيقة ومعنى، وأبصرت عيني اليوم فتاة أجن من فتاة الرواية وأكثر اغترارا منها.
فأجابتها لويزا من فورها، وقالت: إذا أنزلت الحكمة منزلة الجنون، وعرضت الدراية لسهام السب والملام، فقولي على الحكماء العفاء وعلى الحكمة السلام.
فلم تجبها أمها على أنها ضحكت ضحكة مستغربة، ثم التفتت إلى البارون، وقالت إني أسمح لها بالذهاب معك إذا وعدتني أنك تردها عن غيها وتحول أفكارها ولا تفارقها غرارا.
فقال لها البارون: كوني ناعمة البال مطمئنة الخاطر؛ لأني سوف أداريها، وأبذل وسعي لأسليها، وأشرح صدرها، ثم نظر إلي وقال: قم بنا يا مكسيم إلى المكتب، فإن عندنا شئونا كثيرة نقضيها اليوم.
فقمنا للحال ومضينا، وبينما كنا على الطريق قال: إني مدعو للرقص مع جوزيفا في هذا المساء، وقد ضربنا موعدا، وقلنا الحر ينجز ما وعد، فيجب أن أذهب إليها، وأتمتع برؤية عينيها، ولو كنت أعلم أن جونريت تعتذر عن المجيء إلى الأوبرا؛ لما دعوت لويزا وشددت عليها، فكيف العمل الآن؟ وما هي الحيلة للهرب؟ وأي عذر أتنصل لأفلت منها؟
فقلت: إن هذا الشكل صعب يجب أن تحله على وجه حسن مقبول؛ لأنك إذا أخلفت وعدك إلى لويزا تسيء إليها فتسيء الظن بك، ثم إنك تحرك أفكار البارونة، وتوله أفكارها إليك، وربما أفضى بك هذا الأمر إلى ما لا تشتهيه.
فقال: عونك يا مكسيم، فأنا الآن بين نارين، وكيفا أصنع ألام، وبينما أنا أفي بوعد أخلف بوعد، وبينما أقضي حقا واجبا أهمل حقا آخر؛ لأنها (ثم فكر قليلا)، وقال: نعم، نعم، وجدت حلا لهذا المشكل لا يكون أحسن منه، وهو أن تجيء إلى الأوبرا يا مكسيم، وتنتظرنا هناك إلى أن نجيء، فأعهد إليك مؤانسة لويزا ومحادثتها، ريثما أروح إلى جوزيفا وأعود، وإن هذا الحل على ما أرى بقدر ما يسرني يسرك؛ لأنه من حيث يمكنني من الاجتماع بحبيبتي يجمعك بحبيبتك، ثم أطرق هنيهة، وقال: إن لويزا تهواك وتميل إليك، وقد اتضح لي ذلك اليوم من رفضها ابن فرفيل؛ لأني لا أصدق أن امتناعها كان لعلة من العلل التي ذكرتها، بل إن ذلك لأمر دفين في صدرها، قد تغلب على عواطفها، وقيد إرادتها، وهذا الأمر هو الغرام.
وإذ ذاك وصلنا المكتب، فجلس كل على طاولته، وبدأنا بالعمل حتى عصاري النهار، فانصرف كل إلى حيث شاء.
ولما هبطت حجب الظلماء، وزحفت جيوش الدجنة على بقيات الضياء، ونشر الليل رواقه في الفضاء، ونابت عن شمس السماء نجومها الوضاءة، قمت إلى الأوبرا لأكحل عيني بمنظر الحبيب، وأفتح لها قلبي الأشد وجدا من جميع القلوب، وأريها بماذا أصيب، وأسأل قلبها الطاهر الشريف، الرفق والرحمة بقلبي البائس الضعيف، فرأيت الناس يهطعون من كل أوب إلى الأوبرا زمرا وفرادى، هذه تتيه في دلها، وتلك تتهادى بين عشاقها، فسرحت طرفي في هذا السواد العظيم عل أن أرى مليكة الفؤاد، فارتد الطرف كليلا، دون أن يعرف إليها سبيلا، ولم يفده البحث فتيلا، فكثرت تأوهاتي، ولجت بي حسراتي، واشتد علي البلبال، وأخذ مني الخيال، وهلع قلبي حتى كأني لست من الرجال، فندمت على إسراعي بالمجيء قبل اللزوم، وهكذا المرء إذا جد إلى شيء، ولم يجده تتناوله الهموم.
অজানা পৃষ্ঠা