إهداء الرواية
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
إهداء الرواية
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
بين نارين
بين نارين
تعريب
جرجي مطران
إهداء الرواية
إلى حضرة العالم المفضال الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر
هذه يا سيدي باكورة أعمالي أرفعها إليكم إيذانا بخدمتكم الجليلة للوطن، وإقرارا بما لكم من عظيم الفضل، وألتمس أن تتكرموا بقبولها هدية ود واحترام من المخلص.
جرجي مطران
الجزء الأول
الفصل الأول
قيل: إن متوشالح
1 - عليه السلام - عمر ما ينيف على 969 سنة، ولو قضي لي أن أعيش مثل هذا العمر الطويل، لما نسيت في آخره سنة 1878؛ إذ إن من الحوادث ما لا ينسى، وقد كانت هذه السنة مبدأ ما جاءني به مستقبل الأيام من السعادة والشقاء.
دخلت نحو الساعة العاشرة إلى مكتب فركنباك الصيرفي الشهير بباريس، وكنت أحمل إليه كتاب وصاة من عمي، فصدني عن الدخول حاجب ذو غلظة، تلوح على وجهه دلائل الخبث، يلبس صدرة موشاة بالطراز المذهب، ورداء عاتما إلى الخضرة مذهبا أيضا، وقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد مقابلة البارون فركنباك، فهل هو هنا؟ فقال: الأفضل أن تعود إليه مرة أخرى.
وظهر لي من خشونة الحاجب أن البارون كان قد أمره بأن لا يأذن للناس بالدخول عليه.
فقلت له: إني قادم من افريه ومعي كتاب إلى البارون من أحد أصدقائه، لا بد لي من تسليمه له قبل مساء اليوم، ففي أي وقت أتمكن من مقابلته؟
فلما سمع هذا الكلام تبسم بعد التقطيب وأجابني بما في وسعه من الرقة والتلطف: تفضل يا سيدي، وأعطني بطاقة باسمك والكتاب الذي تحمله، وسآتيك بعد هنيهة بالجواب، فدفعتهما إليه.
فمضى وما عتم أن عاد وسألني أن أنتظر البارون ريثما يفرغ من بعض شأنه فيحضر، ثم قال: اجلس يا سيدي، وإن شئت فاقرأ هذه الجريدة، وكان قد تحول من الخشونة إلى النهاية في التأدب واللين.
فشكرته وأخذت الجريدة أقلب نظري فيها ولا أعي شيئا من معانيها، وكنت أفكر في أمس الدابر، وما جرى لي فيه من الأمور، وكيف فارقت الأهل والأحباب امتثالا لأمر عمي؟ وكيف كانت ساعة وداعهم المؤلمة؟ وكيف مرت تلك الساعة مرور لحظة؟ ثم ترحلت عن البلاد كاسف البال، شجي الفؤاد، فاغرورقت مقلتاي بالدموع، وتعذر علي إقرار نظري على الصحيفة التي أصبحت لا أرى إلا بياضها، وقد خيل لي أن كل هذه الأمور جرت منذ عهد بعيد لا في أمس؛ لما في نفسي من الوحشة.
ولا أزال أذكر عمي إذ دخل علي بكرة ووضع يده على كتفي وأيقظني، وكان وجهه متوردا، عليه سمة الانشغال والاضطراب، وكان منديله مجموعا في قبضة يده علامة أنه يكظم أمرا في نفسه، فجلس على كرسي هناك، ثم سألني: في أي يوم من الشهر نحن؟ فأجبته وقد أدهشني هذا السؤال: إذا صدق الرزنامج وكانت عيناي غير حسيرتين، فاليوم الثامن من شهر أكتوبر، ولكن علام باكرت إلي يا عمي العزيز تستفهم عن شيء لا تعز معرفته على أجير لو سألته؟
فعبس بي وتغيرت شارات وجهه ويديه ثم قال: اعلم يا مكسيم أنك صرت منذ صبيحة اليوم رجلا راشدا مطلق الحرية والإرادة، ولك أن تتصرف بأموالك كيف تشاء، وأن ترتكب كل المنكرات بلا اعتراض؛ ولذلك أحب أن تطلعني على ما تنويه. فلم أجب، ولكن عجبت أن يكون بلوغي الرشد مما يقتضي تغيير نظام معيشتي، فألح علي فأجبته بعبس، فقال: إن هذا يدلني على قلة اهتمامك بمستقبلك، فاعلم يا ولدي أني قيم عليك، وأن عهدتك أثقلت عاتقي، وقد آن لي أن أتخلص منها، وكانت قيامتي هذه عليك تضطرني إلى مراقبتك واستغلال مالك، أما الآن وقد شببت بعون الله تعالى فأنا أعرض عليك حسابات ما تملك، وهذه سفاتج، وسندات، وحجج، ودفاتر تتضمن دخلك وخرجك، فعليك أن تجمع وتطرح وتضرب وتقسم، ثم تعطيني بعد ذلك ورقة بتبرئة ذمتي ورفع أمرك عني.
فوعدته بذلك محاسنة، ثم تركته وذهبت إلى المغسل لا يخطر على بالي شيء سوى أن عمي يريد أن يجعل في يدي زمام الشيء القليل الذي أمتلكه، ولما لبست ثيابي نظر إلي من فوق بلورتيه، وقال سألتك فلم تجب، فأعيد عليك أنني في شغل من أمر مستقبلك، وإنما أتيت إليك لأرد لك مالك ولأعلم ما تنويه؛ لأني عاهدت نفسي أمام الله وأمام أبيك يوم كنت طفلا أن أرعاك بعنايتي، وأمهد أمامك العقبات، فما الذي تنويه؟ فسألته عن الموجب لهذا السؤال؟ وقلت: ما عساني أن أفضل على حالتي هذه وأراني محفوفا بعنايتك، وعناية أمي، وإن كان لا بد لي أن أسير سيرة أخرى، فأمهلني ريثما أفكر فيها قليلا، فحدق بي ثم قال: لا إخالك تشك في أني عاملتك إلى الآن معاملة ابن لي، فيجدر بك أن تصغي إلى ما أقدمه لك من النصح «فاعلم أن دخلك زهيد لا يبلغ ستة آلاف فرنك نصفها لأمك، فأنت لا تستطيع به تجارة ولا مزاولة أي عمل كان، ولا أظنك تلقيه في معرض الخسران؛ لأن العاقبة لا تحمد، فلم يبق لك إذن للكسب غير باب واحد، وهو أن ترحل عن افريه، فإن لم تفعل فاعلم أن حياتك تنقضي محصورة في هذه البقعة، لا ترى غيرها، ولا يمضي عليك القليل من الزمن حتى تستكين إلى الكسل واللهو، فتصرف أيام شبابك بين الصيد، والرسم، والحقيقة، والوهم، ثم تأتيك أمهات ذوات دهاء، فيصفن لك جمال بناتهن إلى أن تؤخذ على غرة فتتزوج وهناك الحياة المرة، فتلد لك امرأة أولادا كثيرين ...»
فضحكت لكلامه ضحكا عاليا وقطعت عليه الكلام، وقلت: إني عاقد النية على مغادرة افريه؛ للسعي إلى عمل ما في بلدة غير هذه، ولكن إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل؟ فقال : لا تهتم بهذا يا بني، فلا صعوبة في وجود عمل لك، والصعوبة بانتقاء البلدة التي يجب أن تقصدها، وعندي أن ليس للشباب الذين يطمعون في المراتب الرفيعة إلا مدينة واحدة فيها خطر عظيم على الضعفاء، وفوز لذوي العزائم والجد وهي باريس، فقلت: ومن يكون مرشدي في تلك المدينة العظيمة التي أخاف أن أضل فيها بلا معين ولا مرشد؟ فضمني إلى صدره وقال: إن في كلامك يا بني حكمة ودليلا على توقد قلبك واهتمامك بالمستقبل فبورك فيك، ولكن خفض عليك فقد تولت أمرك في ذلك الأقدار، فإني بينما كنت في الصيف الماضي في مدينة مون دور التي أذهب إليها كل سنة؛ للاستشفاء من الداء العصبي الذي أنا مصاب به التقيت بصاحب لي، كان معي في المدرسة منذ أكثر من خمسين عاما فتحدثنا طويلا، وكنا في كل يوم نتنادم بذكرى أيام الصبا، وبقينا كذلك زهاء شهر حتى غدونا يشق على الواحد منا أن يفارقه الآخر، ولما انتهى فصل الصيف هممت بالعودة إلى هنا، فاستاء واغرورقت عيناه حزنا، ثم قبلني وسألني أن أكاتبه بلا انقطاع، وقال: إنه مستعد ليخدمني بما في وسعه فكتبت إليه منذ أيام أسأله عما إذا كان يوجد لك عنده عمل تعمله؟ فأجابني على كتابي بكتاب ودي ارتاح إليه قلبي، ثم إن عمي تبسم وقال لي: «اعلم أن لذلك الرجل امرأة جميلة ...» فقطعت عليه الحديث وقلت: «وما اسم ذاك الرجل وما هي حرفته؟» فضحك لقلة صبري وقال: «اسمه جيستاف فركنباك وهو صيرفي من كبار صيارفة باريس، وذوي الكلمة النافذة فيها، فهل ترضى بالاستخدام عنده؟» فشكرته وقلت له: ومتى موعد سفري فأستعد له؟ فقال: اليوم، وإن شئت غدا، لكن يجب ألا تتردد في أمر أقدمت عليه؛ لأن في التردد ما لا تحمد عقباه أحيانا، فأذعنت له بعد جدال ووعدته أني أسافر في أول قطار.
ولما كان المساء جلست على المائدة وعمي إلى جانبي، وجلست أمي تجاهي وهنأتني ودعت لي بالنجاح، ولو لم تخنها بقية دمع سالت من محاجرها لما علمت بشيء مما في نفسها من الألم، وكانت تتكلف التجمل ما أمكن، وتشغل نفسها عن البكاء بإعداد معدات السفر، وكانت أيضا تكتم خوفها علي من الأخطار التي كنت معرضا لها، وتظهر لي الفرح التام، وتكذب ما كنت أسمعه من زفرات صدرها، وما كنت أراه على وجهها من دلائل الكآبة، وبينما كانت تطوي ملابسي وتنضدها في صندوق السفر، ذهبت فودعت أصدقائي ومعارفي، وكنت أشعر أن هذا الوداع يمنعني من العود إلى افريه فيما إذا لم أفلح في باريس؛ مخافة سوء الأحدوثة، ولما كان المساء جاء عمي ودعاني إلى الرحيل فبكت أمي وبكيت معها كثيرا، ثم ركبت عربة عمي وكان قلبه يخفق بشدة من ألم الفراق، وإذ وصلنا إلى المحطة أخذنا نتمشى في انتظار مجيء القطار، فقال لي عمي: وعدتك يا بني بأن لا أوقر سمعك بما يقوله الآباء عادة لأبنائهم قبل السفر ولا أخلف، والشاب في غنية عن كل المشورات والنصائح؛ لأن الدهر يعلمه ما لا يعلمه أبوه، فالاختبار هو المدرسة الكبرى التي يتلقى فيها بنفسه علم معرفة الائتلاف وكيفية المعيشة، وأنت جدير بأن تقرأ في ساعات الفراغ رواية هاملت لشكسبير، فأنعم الفكر فيما ينصح به بولونييس لابنه ليرت قبل ابتعاده عنه، ثم إن عندي أمرا آخر ذا بال أشرحه لك موجزا، وهو أن للنساء شأنا مهما بين الناس في هذه الأيام، ولهن المقام والتجلة، وهن محركات نظام الكون الآن، وسبب علله وأدوائه، فأحذرك من المرأة الأولى التي ستراها في باريس. ومن الناس من يقولون: إن المرأة على الغالب هي الواسطة الفعالة لنيل المآرب، وأنا أقول لك: إن كلامهم حبالة ينصبونها للجهلة، بل هو قيد يقيدون به أرجلهم، بل هو ذريعة للانصراف إلى الملاهي عن الشغل، وأقل أخطار العشق تلازم المعشوقين، بحيث لو فصلا آلا إلى الشقاء أو إلى الفناء، وأنت يا ولدي مع تحليك بكثير من الصفات الحميدة، فإن لك خلة وهي أن قلبك ضعيف لدى النساء، ثم عاد إلى الكلام عن مدام فركنباك فقال: إنها ذات عينين نجلاوين، يضل معهما الناسك عن قصده وسوف تلتقي بهذه السيدة فلا تخرج في حديثك معها عن جادة ما يجيز الأدب؛ لأنها بديعة وفي جمالها خطر على الشبان، وأظنها ذات ذكاء، ولكن معرفتي قليلة بقدر عقلها.
وما قدم القطار حتى دخلته وانتقيت فيه موضعا لي، ثم عدت إلى عمي فانتهرني وقال: لم ذهبت قبل أن تستأذن مني؟ ألا تزال نزقا فخذ هذا كتاب وصاة بك لفركنباك، فقبلته تقبيل الشكر والوداع، وإذ ذاك قرع الجرس وآذن القطار بالرحيل، فركبته وسار بي مبتعدا عن افريه.
كل تلك الذكرى مثلها خاطري لناظري في ساعة انتظاري لفركنباك، وكان فؤادي يضطرب آسفا على ما مضى وخوفا مما سألاقي.
ولما طال علي الانتظار نظرت في الجريدة التي كانت بيدي، فإذا فيها أسماء الذين جاءوا باريس بالأمس من الأغنياء وذوي المناصب، ثم وقع نظري على اسم البارونة ريتا مدام فركنباك فقلت: «إن التي يخشى منها على الشبان تدعى ريتا.» ولكن يخيل لي أني كنت أشهد التمثيل ذات يوم، ورأيت ممثلة سلبت عقلي كانت تدعى ريتا، فهل هي التي أصبحت الآن البارونة فركنباك؟ وبعد هنيهة قرع الجرس الكهربائي فأتاني الخادم مسرعا، وأخبرني بكل احتشام أن البارون يستقبلني فمضيت إلى غرفته وكانت مفروشة بالطنافس الأزميرية النفيسة، وفيها كانون موقد، وما لبثت بعض دقائق حتى جاء البارون ومد لي يده فسلمت عليه.
فقال: أعتذر إليك يا عزيزي جوشران، فإن كثرة أعمالي منعتني عن مقابلتك عاجلا فلنتحدث الآن في الشأن الذي جئت له، وليكن كلامنا بصريح ما في الضمير.
فشكرته وجلست على كرسي عينه لي بالقرب من الكانون، فقال لي: قد عرفت سبب زيارتك لي مما قرأته في كتاب صديقي فرنسوا.
وساعتئذ فتح باب معارض للباب الذي دخلت منه، وخرج منه شاب أشقر اللون مرتد حلة سوداء وفي يده ورقة زرقاء، فقال له فركنباك: ماذا تريد يا وليم؟ ألم أنه عن مكالمتي في هذه الساعة؟ فخفض الشاب رأسه وحنى ظهره أمام البارون وقال محتشما: عفوا يا سيدي، فهذا تلغراف ورد لنا الآن من لندره، ويطلب مرسله الجواب حالا.
فقرأ فركنباك التلغراف مرارا وقدر كل كلمة قدرها، واستنتج من قليل الكلام معنى كبيرا، ثم نهض لكتابة الجواب مستأذنا مني.
وبينما كان يكتب جعلت أترقبه بمؤخر طرفي، فرأيت أن وجهه الضحوك البشوش قطب لصعوبة حل المسألة التي كانت بين يديه، وكان الرجل ربعة ذا سمن، أحمر الخدين، قوي البنية، صحيح الجسم، يناهز الستين، وفي جملته ما يدل على جودة قلبه، ودماثة الأخلاق، وحرية الضمير، وصدق الود، وما يدل أيضا على أنه أسرف في التمتع بملاذ الدنيا، وإنما بقي كذلك معافى لقوة بنيته، وتوهمت أننا إذا توثقت الرابطة بيننا، فلا يطول علينا الزمن حتى تستحكم منا المودة، ولما فرغ من كتابة جوابه قال: خذ يا وليم جواب التلغراف، ولا يقابلني أحد بعد الآن.
ثم قام من محله وجلس على كرسي إلى جانبي، وقال لي وهو يفرك يديه: هل أطلعك عمك على الكتاب الذي أرسلته له من بضعة أيام أخاطبه فيه بشأنك؟ فقلت: لا يا سيدي، وإنما أمرني أن أتقدم إليك بالنيابة عنه، وأكلمك بصراحة كما يكلم الصديق الصديق. - وأنت عالم أنك آت لتكون في خدمتي. - نعم يا سيدي، وإني أرغب في ذلك وأعده شرفا لي. - ليس في الأمر مانع ولا صعوبة، ولكن اعذرني إذا قلت لك لست محتاجا إليك، بل إن حبي لعمك ولك يحملني على إجابة طلبكما، فأنعم الفكر وانظر بعين الروية فيما إذا كان عندك ميل إلى الشغل؛ لأن ذلك أمر مهم، وإلا فلا يجمل بمثلك أن يضيع زمن الشباب عبثا؛ حتى إذا ضعف يوما وشاخ قتلته الندامة على ما فقد من الوقت الثمين. - لقد فكرت في ذلك زمنا ولست أعلم إذا كنت أفلح في شئون التجارة، ولكن عندي رغبة في تعلمها وجلدا عظيما على تحمل المتاعب التي تتأتى لي منها. - نعم الجواب! فقد حسن ظني بك، وأنا عازم على أن أتولى تدريبك بيدي، فاعلم أن أشغال البنك سهلة جدا وعلى المستخدم أن يألفها ويتقن دراستها.
ثم سألني متحببا أليس كذا؟
فانقشعت ظلم الفكر والأوهام من مخيلتي ، وارتحت للطف ذاك الرجل، وتوهمت أن عمي يخاطبني، ثم سألني هل تعرف لغة غير لغتك؟ - نعم، أعرف اللغتين الإنكليزية والألمانية. - حسن، سأعهد إليك المكاتبات الخارجية، فإنها أسهل عليك من الحسابات، وسأجعل راتبك مائة وخمسين فرنكا، وهو ما أعطيه لكل من يدخل حديثا في خدمتي.
وإذ كنت لا أؤمل أن أعطى راتبا مدة تعلمي عددت ذلك كرما منه فشكرته كثيرا، فتظاهر بالغضب، وقال: لا ينبغي أن تشكر لي فعلي إذ إني أدفع الدرهم، ولكني أطلب أن أخدم به، والدرهم يحمل على العمل والمثابرة، ولا منة في الشغل، فإما أن أنتفع من عملك فآجرك عليه، وإما أن لا أنتفع منه فأفتح لك باب بيتي وأقفل عليك باب مكتبي. فشكرته ثانية ولم أطل مخافة أن يستأنف الكرة علي، وبعد هنيهة قال لي: شغلتنا مسألتك عن السؤال عن صديقي العزيز عمك فكيف هو؟ - إنه مريض وكان في وده أن يرافقني ليزورك. - يسوءني ذلك، وحبذا لو استطاع أن يأتي فنسر بتذكر الماضي، وإن في هذه الذكرى ما يلذ الشيوخ.
فأعدت عليه كل ما قاله لي عمي بالأمس عما لقيه عنده من حسن الوفادة فقال: لقد غادر باريس رغما عني، ولولا ذلك لاستبقيته شهرا أو أكثر، وقد أحبته قرينتي لحسن خلقه ولطف حديثه، وإني أدعوك لتناول العشاء معنا في هذا المساء؛ لأن البارونة تود أن ترى ابن أخي صديقها ... وموعدنا الساعة السابعة، وبعد هذا الكلام وقفنا واستأذنته في الذهاب، فشيعني إلى باب غرفته وقال: إياك أن تنسى موعدنا في الساعة السابعة.
وبعد هذه الزيارة تبددت عني شواغلي، وانزاح عني ما كان قد تولاني من الخوف، وطابت لي الحياة بعد الوجل، وهذا النجاح الذي صادفني لأول مرة قوى آمالي بإدراك مستقبل حسن، وثراء قريب فهنأت نفسي ووطنتها على إدمان السعي وراء الضالة التي أنشدها، وبينما كنت أهيم في عالم الأوهام كانت رجلاي تسرعان بالمشي، كما لو كنت على موعد حبيب أخاف أن يفوتني مع أني كنت أسير إلى حيث لا أدري، ولما كانت الأفراح الشديدة إذا توالت على الإنسان يضيق بها قلبه فينكسر كالكأس، وكانت - كما يقول العلماء - تتمدد وتطلب الهرب من القلوب خفت أن ينالني كرب على أثرها، فأستوحش في غربتي حيث لا قريب يعزيني ولا خل أشكو إليه، فثبت إلى نفسي من الخيالات التي كنت فيها، وعزمت على أن أكتب إلى عمي وأطلعه على ما كان من أمري مع صديقه، فدخلت إلى مطعم على الطريق.
وبعد أن أخذ الخادم مني قبعتي ودثاري، قال لي: ماذا تريد أن تأكل يا سيدي؟ فأجبته عابسا: ورق كتابة، وقلما، ودواة، فابتسم الخادم وقال: سأحضر لك ذلك، ولكن إذا شئت أن تأكل شيئا فعندنا بيض مقلي، ولحم مشوي ومسلوق، وألوان كثيرة غير هذه، فقلت: هات ما تشاء وبادر بإحضار الورق والقلم.
ثم جعلت أكتب بسرعة غريبة ما تمليه علي خواطري الكثيرة، والله أعلم بما حشوت به الكتاب من الغرائب، وأظن أني بنيت فيه قصورا باذخة من الأمل في عالم الخيال، ولشدة اشتغالي بالكتابة لم أتنبه للطعام الذي وضعه الخادم أمامي، وكانت تنبعث منه الرائحة الذكية.
على أن تحمسي بالكتابة أحدث بي ما يحدث للذين يبالغون بأعمال رويتهم، وذلك أن قريحتي لم تلبث أن جمدت بعد أن سالت نهرا متدفقا، ووقفت يدي وحرن القلم فختمت الكتاب.
وإذ كان قد بلغ الجوع مني وخلت معدتي، شعرت بشهوة للأكل لم أشعر بأكثر منها قبل ذلك.
وبعد الغداء ذهبت إلى غاب بولونيا أتبع حافات السواقي، وأتلذذ بخرير مائها الجاري، فجلست إلى أصل شجرة أتأمل ذاك اليوم الرقيق الحواشي المعنبر النسمات، الذي لبست فيه الطبيعة أبدع ملابسها وتجلت بأحسن حليها، فالأرض موشاة بأوراق الشجر المتساقطة، والرياض مخضوبة بدماء الشفق، وكانت الشمس تسير التؤدة إلى منامها، ترسل أشعتها على مياه البرك الوسنى، وكانت العجلات متتابعة كأنها خيوط سود في بياض تموج تحت البصر، ورأيت فيها قوما هم أسعد خلق الله، ورأيت فرسانا على خيول مطهمة، ونساء يفتن النواظر بالمحاسن والأزياء، وجماعات مئين وألوفا يتمشون فرقا يحدث بعضهم بعضا بأطراف الأحاديث، فهناك تحار الفكر وينبهر البصر.
ثم قلت: لم لا أكون مثلهم؟ ولم لا يكون عندي مثل عرباتهم وخيلهم؟ بل ماذا يجب أن أصنع لأنال منالهم إذا كان لي ذكاؤهم، وكانت لي مقدرتهم؟
وكانت أنامل الأمل الودية تحجب عني مشاق المستقبل وتريني باريس والعيشة فيها جنة ونعيما، وانقلبت أميالي كل الانقلاب، فصرت لا أفكر بغير المال، ونشطت بهمة سامية لإدراك مأملي، وتأهبت للمستقبل كما يتأهب الفارس للحرب.
والآن كلما أذكر تلك العهود ألوم نفسي، ولا أتمالك من الضحك على حين أني أود لو تعود تلك الأوقات؛ لأنها أوقات الشباب.
أما قصر فركنباك فهو شامخ الارتفاع متقن البنيان، بناه في غابر الزمان رجل بارع لامرأة من عائلته كان يهواها، وطالما صحب الأشراف وصبر على محاربة السياسة والثورات، وكان كلما ازداد عمره يزداد رونقه وبنيانه، فقد أضيفت إلى جوانبه غرف جميلة على الطرز العصري، اعتنى بها رجل حسن الذوق بارع بالهندسة، وفي سقوف القصر تماثيل ونقوش متنوعة، كلها مغشاة بالذهب، وعلى جدرانها في الجهة الداخلية رسوم ناتئة، ورسوم محفورة، وزخارف غريبة الشكل، كلما خرب الدهر شيئا منها اعتاض فركنباك عنه بآخر، والسقوف معقودة كلها وسطوحها من الآجر، وعلى الجدران إلى الجهة الخارجية صور رجال تصطاد وتحصد، وصور أخرى متنوعة تدل على عادات الأعصر التي بنيت فيها، وفي القصر آنية أكثرها من الذهب والفضة، وتحف لا تزال على جدتها على طول مدتها، وحول القصر حدائق معلقة مكسوة بالخضرة والأشجار ذات الأرج والثمر تحيط به من أربع أطرافه، والقصر ثلاث طبقات.
ولما كانت الساعة السابعة جئت القصر، فوقفت على الباب قليلا ريثما يزول خفقان قلبي، ولما قرعت جرس الباب شعرت كأن صوته دوى في رأسي، وكنت أقول في نفسي: إن وراء هذه الجدران لأمرا عظيما لي، وستمثل رواية حياتي، وسأكون منذ هذا المساء موضوع البحث والكلام، ففتح الخادم الباب ودخلت وراءه في مكان مستطيل مبلط بالفسيفساء، وإلى جانبه حيطان البستان يترامى من فوقها الزهر من الأغصان، ولما صرت على مقربة من الباب الداخلي رأيت البارون مقبلا إلي فقال: إن مشيتك كمشية الجندي، ووقفتك كوقفة الممثل، وهذه صفات تحببك إلينا فتعال أقدمك للبارونة.
وكانت البارونة جالسة في غرفتها على مقعد من الحرير الناعم، إحدى يديها مسندة إلى المقعد، والأخرى تلعب بشعرها المنسدل، فقال لها البارون: أقدم لك المسيو مكسيم جوشران ابن أخي عزيزنا فرنسوا جوشران، فقد أتى اليوم من افريه وهو يبلغك سلام عمه، فقالت لي: أهلا ومرحبا، إن عمك ترك عندنا ذكرا حسنا، ويسرني أنك تذكرنا به، فتلعثم لساني عن الكلام ولم أجبها بشيء، وذكرت عندئذ ما قاله لي عمي من أن هذه المرأة جميلة وجمالها خطر، وكأني كنت أرى على جبينها تلك العبارة.
وكانت ريتا جميلة يبرز من كمي مطرفها الأسود زندان، كأنهما من العاج غاية في حسن التكوين، ولم يكن جمالها جمال طفلة لم يتم تكوينها، ولا جمال صورة تقبل التنميق، ولا جمال وردة لم تتفتق أزرارها، بل هو الجمال التام الذي لا جمال فوقه.
أما مقاطع وجهها فنادرة المثل، ومجموعها حسن أيضا بخلاف ما يرى فيمن حسن تكوين مقاطعهم، فإنما هي ملك مرسوم أعارتها الحور معانيها، فلما رأيتها مال قلبي إليها ميلا شديدا، وجعلت أخالسها نظر العاشق الولهان، فسرت مني وأجزلت حركاتها.
لا أعلم كم جلست إليها دون أن أكلمها، ولا أعلم أألفت سكوتي بلها أم احتراما لجمالها، ولو لم يأت الخادم ويدعنا للعشاء لضحكت مني مليا، فقالت: هات يدك يا مكسيم وسر بنا إلى المائدة فأجلستني إلى جنبها، وكانت في حديثها على المائدة تسألني أسئلة تقصد منها اختباري، واكتشاف نياتي، فأجيبها بكل سكينة وحكمة، ورسمت لها عادات أهل بلدتنا الصغيرة رسما حقيقيا، وأضفت إلى كلامي أقاصيص ونوادر راقت لها فقالت: يظهر أنك لم تأت باريس قبل هذه المرة؟ - لا يا سيدتي، وما ذهبت إلى غيرها أيضا؛ ولذلك ترين عاداتي كعادات أهل القرى. - إذن عليك أن تحذر من باريس، فإن فيها خطرا على أمثالك. - شكرا لك يا مولاتي على نصحك! - ولست أشاء لك أن تبالغ في ذلك إلى حد يلحقك معه ضرر، وإنما أعني أن باريس بلدة معشوقة السكنى، تحسدها عواصم الدنيا أجمع؛ لكونها أغنى المدن التي تقدمتها في التاريخ، ولكون الذي يأتي إليها تتغير أخلاقه من الحدة إلى اللين، ومن البلادة إلى الظرف والرقة، وينفسح مجال أفكاره، فيجب على الشاب أن يقتصد في معيشته ... قل لي أين ذهبت اليوم؟ - إلى غابة بولونيا. - لم أشك في ذلك ولو قلت إلى مكان آخر لاستغربت هذا الأمر، ولكن هل رأيت عربة هناك بخيل دهم فيها امرأة مكتحلة قليلة الذكاء تسمى ... نعم، إنها ذات مهارة وذوق في اللبس، لكنها قبيحة تتخطر في الغابة ذهابا وإيابا في الليل والنهار؛ لتصطاد رجلا غنيا مثل فركنباك أم شابا جميلا مثلك، وفي باريس من أمثال هذه نساء لا تحصى.
فقال لها فركنباك: مالك وللخطابة دعيها للقسيسين، أو هل تحسبين الإرادة آلة تدور كيف تشائين؟ إن الأم تقول مرارا لولدها إن النار تحرق وذلك لا يمنع الولد من الاقتراب من النار. - ولكن الشاب غير الكهل فهو كالغصن إذا قومته يتقوم. - لا تصدقي ذلك؛ لأن الفطن يطمع في كل شيء مهما كان أليس كذلك يا مكسيم؟
ثم التفت إليها وقال: إن مكسيم شاب حسن الوجه، ظريف المعشر، متين البنية، فهو قادر على عشق أجمل النساء، وعلى اتباع كل سنن العشق «وأظنه عاشقا».
فخجلت وتوردت وجنتاي؛ إذ مرت في فكري حادثة غرام جرت لي مع امرأة في افريه، فلم أنبس ببنت شفة، ثم قمنا عن المائدة فقال لي همسا: لا تلق بالا لما تقول البارونة؛ لأنها تبالغ في النصح، أنحن قديسون أم آلهة؟ وعندما عدنا إلى القاعة أوقدت لفيفة من التبغ المصري، وجعلت تشرب وتنفخ الدخان من فمها وأنفها بتأوه كالعاشق المستجد، ثم ألقتها في النار وهي تضحك، كمن تقول إنها تشرب الدخان على سبيل التسلية، لا على سبيل العادة، فضحك منها البارون وأخرج من جيبه علبة من تبغ هافاني، وقال لي: إني أقتدي بالبارونة في كل شيء.
فدار الحديث بيننا على أمور شتى كالموسيقى، والروايات، والآداب، والمعاني، والبيان، فسرها اطلاعي على تلك الأشياء، وسرها أكثر من ذلك قوة ذكائي، ونزاهة كلامي.
وسألتني عن كتبة الإنكليز، فأخبرتها عن أشهرهم، وعن مؤلفاتهم المعروفة التي ترجمت والتي لم تترجم، ثم قابلت بين كتبة الإنكليز وكتبة الفرنسويين، وتداولت معها مداولة لا يكون أرق منها.
وبينما نحن في الحديث نام البارون على المقعد فقطعتني عن الكلام، ونظرت إلي بعينيها السوداوين كمن تريد استقصائي، ثم قالت: ما رأيك في الحب؟
فبهت وكدت أفشل كما يفشل أحد المتثاقفين إذا عاجله خصمه بضربة أمضى من البرق، ولم أفهم يومئذ مرادها من هذا السؤال، هل كان تطفلا نسائيا محضا؟ أم كان وسيلة لاختبار أخلاقي؟ على أني مراعاة للأدب قلت والحياء باد على وجهي: اعذريني يا سيدتي، إذا خبطت في الجواب خبط عشواء؛ لأني لم أعرف الحب بعد، ويصعب علي جدا أن أشرح لك عن أشياء لم أحس بها، ولم تخطر لي على بال، فقالت: هذا نفور وأظنك تتجاهل تجاهل العارف.
فلما رأيت أن لا مناص من الجواب قلت:
القلوب والمقل
هن للهوى رسل
لسن للهوى عللا
بل به لها علل
ربها وآمرها
يقتضي فتمتثل
حاكم مشيئته
لا تردها الحيل
الوجود دولته
أرضنا بها عمل
والأمير خادمه
والحكيم والبطل
والنجوم في يده
تغتدي وتنتقل
والحياة موطنه
والطبيعة السبل
والدوام مبدؤه
والنهاية الأزل
والسنى تبسمه
وهو ضاحك جزل
والدجا عبوسته
والخطوب والوهل
والسرور في فمه
والعذاب والأجل
والحب أسمى العوامل البشرية، وهو النور الذي يبتهج به كل مولود، وهو مولد الأفكار والانفعالات من حزن وفرح، والناس يسعون وراءه كما لو كان من مقتضيات الوجود، والحب يقوي قلب العاشق، وإذا لم تصل شراراته إلى كل من قلبي العاشق والمعشوق، فلا عشق هناك وبالحب السعادة، وبما أن السعادة هي منتهى آمال البشر فهم إذن يرصدونه كما يرصد الكوكب عابد النار، فقالت بتنهد: نعم، وإذا طال العهد ولم تصل شرارة الحب إلى قلب المعشوق، يضيق على العاشق وجه الفضاء، فيرمي بنفسه إلى الطويل العريض من عالم الفناء إلى حيث يضمه القبر وهو الأب الحنون ... ثم أخذت تشير بيدها إشارات مختلفة الشكل ، ثم وقفت، ثم قعدت، والتفتت إلي وقالت كمن استفاقت من غشوة: إن في رأسي هموما كثيرة تقيمني وتقعدني رغما عني فاعذرني.
وكان صدر فركنباك إذ ذاك ينتفخ وينقبض، وأنفه الضخم العظيم يهلل ويرنم، ولما استيقظ نظر إلى البارونة نظرا طويلا، فقرعت الجرس الكهربائي وللحال جاء الخادم مسرعا فأمرته بإحضار الشاي، فقال لنا: يظهر أني نعسان، فقالت: أتظن ذلك فأجابها: وهل في ذلك ذنب؟ - كان يجب عليك أن تحترم ضيفك وتجلس إليه، ولا تدعني وحدي.
فاستأذنتهما عندئذ بالذهاب وخرجت، فضغطت على يدي وابتسمت لي ابتسامة غرامية، وقالت: إذا كان حديثي يلذك فلك أن تزورني في كل يوم سبت.
الفصل الثاني
إن القادم لباريس يدهش لكثرة ما يرى من المناظر البهيجة، وكأنه حين يأتي هذه العاصمة ينتقل من عالم إلى عالم أسمى، فيقف عند كل شيء وقفة المفتتن، وينظر لكل منظر نظرة المعجب على أن نظره لا يلبث أن يألف رؤية الغرائب، فيود لو يكون عاشقا يتهادى مع معشوقته في غابة بولونيا.
نبض دمي نبضا لم أشعر بمثله حين لمست ريتا يدي، وحسبت أني أحبها وأنها تحبني.
وفي اليوم الثالث لوصولي استأجرت غرفة في شارع لافييت، وجعلت دراهمي قسمين: قسما للغرفة والملابس، وقسما للنفقة.
وفي اليوم الثاني لدخولي البنك بدأت في العمل الذي في عهدتي على أحسن ما يرام، وكان الجميع مسرورين من اجتهادي، ولا سيما لامبون رئيس القسم الذي كنت فيه.
لما توفى الله لامبون بكيت عليه؛ لأنه كان يحبني، ولامبون هذا كان أقدم مستخدمي البنك، وكان البارون يعتمد عليه في معضلات الأمور، ويثق به تمام الثقة، وحين كانت الظروف تدعوه إلى التغيب عن البنك كان يقيمه مقامه، فيدبر شئونه على أحسن ما يكون.
وكان في مدة حياته يميل إلي فولعت به، وكنت أمازحه بقدر ما يسمح الأدب، ويجيزه تفاوت العمر، وقد طالما أكلنا معا، وتنزهنا في الغابات على مجاري المياه.
وبينما كنا ذات يوم نتناول الطعام في بيته قال: ما قولك في أكلة شهية في غابات جوانفيل؟ فقلت: خير ما يشتهى على بخيل.
فقال للسائق سر بنا إلى محطة فنسين، ومن هناك إلى نوجان، ثم نقطع المرن ماشين؛ لأن بالمشي تزداد شهوتنا للطعام، فسارت بنا العربة على ميسرة نهر المرن، حتى بلغت نوجان، ومنها سرنا ماشين إلى جوانفيل، فمن يعلم كم تحدثنا على الطريق وكم أنشدنا؟
وكانت سماء ذاك اليوم صافية، ونسيمه عطرا، وفي الرقيع غيوم رقيقة مفوفة كالقطن المندوف، تطوف فيه متئدة من فوق أشجار البساتين وأزهار الرياض، وكنا في تلك الآجام المظلة نسمع الأنغام والأغاني الغرامية، وأصوات القبل التي كان الشبان يختلسونها على غفلة من الغادات، والقبل التي كانت الغادات تستردها من الشبان كذلك، ونسمع صوت الرقص والضحك، ووقع أقدام العشاق ... فهناك الحياة الحقيقية وهناك السعادة الحية.
ولما أن شبعنا من المآكل اللذيذة جعلنا نمج الدخان، فسألته إذا كان يعرف شيئا عن تاريخ بيت فركنباك؟ فقال: إني أعرفه أحسن من البارون نفسه؛ لأني لما استخدمت في البنك كان البارون حديث السن جدا وهذا تاريخه.
ولد جوهن فركنباك في فروينفيلد من أعمال خرغونيا، ولما شب وأدرك سن الرجال سافر من بلده إلى الغربة، وهيأ لنيل أمانيه قوى ثلاثا: النشاط، والصبر، والاقتصاد، وبلغ من اقتصاده أنه لما سافر من سويسرا إلى فرنسا قطع تلك المراحل العديدة ماشيا يأكل الخبز الناشف مع الرحالة، ويشرب الماء الكدر، وإذا فرغت معدته يعدها بالأكل، وإذا خارت يعلمها الصوم، وبقي على هذا المعاش ثلاثة أشهر، يمشي حافيا كيلا يتمزق حذاؤه إلى أن وصل البلد التي كانت تشوقه من زمن بعيد، فوثب على الشغل يترامى المشاق كأنه يؤانس مغنما.
ولما كانت الثورة إذ ذاك قد استهلكت أكثر الرجال العظام والتجار الأكابر، وأبادت أهم الشركات، اغتدت البلاد وهي بحاجة إلى رجال أذكياء ينشرون حياة تجارتها فتعتاض بهم عن أسلافهم.
وما من أحد يعلم حقيقة عن فركنباك بعد وصوله لباريس، والبعض يقولون: إنه كان خادما في أول أمره ثم تاجرا، ومهما يكن من أمره فقد جمع قدرا من المال تمكن به من فتح بنك كبير.
وكان مهيبا يخافه الكتبة خوفا عظيما، فإذا أقبل ارتعدوا، وإذا رأى أحدهم متقاعدا أهانه، وكان لا يمضي عليه أسبوع دون أن يعيد حسابه، ويرى رصيد ماله، وبينما كان في هذا التعب والكد كان الموت فوقه ممدود اليد.
وذلك أنه لما حدثت الثورة الشهيرة في سنة 1848، خاف وتحولت شجاعته التي أظهرها في الثورة الأولى إلى جبن وفرق، ولما رأى الأسلاب والسرقات التي تحدث في باريس، والثائرين المنتشرين في كل صوب يفتكون بهذا، ويختلسون مال ذاك، خاف منهم على نفسه وماله، فأصابته حمى شديدة في الرأس قضت عليه.
وكانت امرأته طاهرة جليلة، ولدت له ولدا اعتنت في تربيته كل الاعتناء، ولما مات أبوه خلفه ولده جورج المذكور، وكان إذ ذاك يراهق الستة والأربعين من عمره، فقام بواجباته حتى القيام وحقق المأمول فيه، وكان يتصدى بقلب ثابت لكل ما كانت الثورة تهدده به.
وكان أبوه جوهن قد أرسله في ربيع سنة 1834 إلى فردنفلد لحاجات فذهب إليها، ولما لم يجد فيها ما كان يتصوره من المسرات، سئم الإقامة وطلب إلى أبيه أن يرده إلى باريس، وبينما كان ذات يوم يجول في ضواحي المدينة رأى شابا جميل الوجه، تلوح عليه مخايل النجابة والشرف، لا يكاد يناهز العشرين من عمره فتقدم منه قصد أن يعرفه، وقال: أرجوك يا مولاي أن تخبرني لمن هذا القصر القريب؟ فأجابه الشاب بلطف: هذا قصر ادنانبرج وهو اليوم لجدتي، فهل تشاء أن أعرفك بها؟ ثم قال: أظنك فرنسيا مثلها، وكان هذا الشاب لويس بونبرت الشهير.
فتمكنت صلات الحب بين الشابين وجعل كل يزور الآخر، ويذهبان للصيد والنزهة معا، ولو لم يستدع جوهن ولده من فردنفلد، لبقي عند البرنس الأسير طول عمره، وبعد مضي عشرين سنة من ذلك العهد أمرت الحكومة بإطلاق الأسراء، فعاد لويس بونبرت إلى باريس حيث استقبله صديقه جورج بكل ترحاب وسرور.
وجعل لويس بونبرت يعمل لاسترجاع الملك إلى عائلته وأخبر صديقه جورج بذلك، فأمده هذا بقدر عظيم من المال، وهداه بمشوراته ودربه الحسنة، إلى أن تم الفوز لبونبرت واسترد التاج والصولجان ، ففرح جورج فرحا شديدا لا يحتمل مزيدا.
فعرض عليه الإمبراطور لويس وظائف شتى سامية فرفضها، ثم منحه لقب بارون، وجعل هذا اللقب لأولاده من بعده، وأحال إليه كل مشروعات المملكة، وخصه بالامتيازات الجليلة.
ودعي فركنباك إلى مرقص أعده الإمبراطور في قصره، فأخذه هذا وانفرد به في غرفة صغيرة وقال له: قد أمرت أن تصنع لك شارة شرف تعلق على بابك، فماذا تحب أن يكتب عليها؟ فأجابه فركنباك من فوره: «أبقى مخلصا ما حييت»، فسر الإمبراطور، وفي اليوم الثاني طار الخبر إلى جميع الأنحاء، فكتبت الجرائد وأطنبت بمدح المحسن والمحسن إليه.
ولما وصل جورج فركنباك إلى هذه المكانة من الثروة والرفعة، زعم أن وقت الراحة قد جاء، وأن الزمن الذي أنفقه في الجهد والتعب آن أن يبدل بأقل منه في المسرات واللهو، فانغمس بياض شيخوخته بالشهوات السوداء، وأضله الهوى ما شاء، ولم يمض عليه القليل من الزمن حتى اعتل وصار كأنه ميت بصورة حي، ثم مات أيما ميتة.
فبكيت الدموع ملء المحاجر، ورثيته بما استطاع الخاطر، وشيعت معه كل عبارات الأسى والأسف، هذا تاريخ بيت فركنباك، ولم يبق منهم غير جستاف الحالي، وإنك تعرفه أحسن مني فقلت: أريدك أن تفيدني عن شئونه الداخلية، فإنك أدرى بها مني، فقال: إن لجستاف اجتهاد جده وأخلاق أبيه، على أن حديثه ألطف من حديثهما، وهو أحب إلى الناس من كليهما، وقد يكون من أسعد البشر لو رزقه الله ولدا.
فسألته عن امرأته فقال: إنها من انجة، وقد تزوج بها عن غرام رغم إرادة أبيه، وكان زواجه بها أشبه بتمثيل رواية، على أنهما عاشا سعيدين في الدنيا واستقبلا الأيام بهناء ونعمى.
وكانت الشمس قد قاربت الغروب، وكست غيوم السماء بردا قرمزية، وكأنها شاءت أن ترينا بقية ما عندها من البهاء قبل أن تتوارى في لجتها، وتهبط في غير هذه السماء، فغيرنا الحديث.
الفصل الثالث
يحدث للإنسان في ظروف أنه يغيب في عالم الخيال، فيسافر إلى الشمس تارة، وإلى القمر أخرى، وطورا يرى أنه يطوف في أقاصي الدنيا، بين أجم ملتفة تفوح عطرا وندا، ويرى أسراب الطيور شتى هنا وهنالك، تتغنى بألحان هي نهاية ما عند الموسيقات الطبيعية من الألحان الحسنة التوقيع الشديدة التأثير، وبينا هو على تلك الحال من المغيب، يحدث له ما يعيده إلى ذاته ويرده إلى حاله المعتادة، فينظر إلى ما حوله نظرة المفيق ويودع العيد بحزن شديد.
فلما عدنا من جوانفيل رأيت على مكتبي كتابا من عمي فقرأته، وبعد أن تأملت ما فيه من النصائح الأبوية، وقفت وقفة من كان متغيبا في مثل الغيبوبة التي وصفناها.
وكان في الكتاب سلام من عمي إلى البارونة، ففرحت فرحا شديدا وعزمت أن أبلغها سلامه بأقرب وقت.
وكان اليوم التالي يوم سبت فقصدت بيت فركنباك نحو الساعة الرابعة، ولما دخلت أعلمها الخادم بقدومي، فخرجت لملاقاتي وهي تتيه عجبا، فشممت منها رائحة طيب ممزوجة برائحة الزهور التي كانت على صدرها وشعرها، وكان عندها امرأتان من نساء الأعيان؛ إحداهما شابة صغيرة السن شقراء، بديعة بالجمال، جالسة على كرسي من الخيزران، والأخرى كبيرة ذات شعر مبيض وصحة تامة، فعرفتني إياهما، ثم التفتت إلي وقالت همسا: سأنفرد لك، وقالت لهما: إن المسيو مكسيم جوشران من أحد كتبتنا، ومع أن له زمنا يسيرا عندنا، فقد برع في العمل، والبارون مسرور منه جدا، فقالت لي الصغيرة: أهنئك بهذا النجاح، وأتمنى أن يدوم رضى البارون عليك، فشكرتها على تلطفها.
إن المركيزة دي سيمين وهي الصغيرة، كانت أحب الصديقات إلى البارونة ريتا، وكانت مثلها عاقرا لا تحبل ولا تلد، وهذا هو السبب الذي جعل البارونة تحبها، وتجتمع بها في أكثر الأحيان؛ لأن حالتهما كانت واحدة من حيث الاحتياج إلى الملاهي والمسرات، والفرق بينهما أن المركيزة كانت تحب اللهو، فلا تضيع نزهة ولا فرصة سرور بخلاف البارونة ريتا؛ فإنها كانت أميل إلى العزلة والسكينة، فقالت المركيزة للبارونة: إن حياة المرأة في الدنيا عناء، يلعب بها القدر، وتعبث بها ألوف من الأمور الجائرة، فإذا هي لم ترد لتتسلى برؤية الناس والمناظر الجميلة والملاهي تخسر وجدانها الثمين، وملاهي المرأة كثيرة من بعضها التحلي، والتحسن، وسماع الموسيقى، والأصوات الشجية ... - أتعرف الموسيقى يا مكسيم؟ - كنت أضرب الكمنجة في صغري، والآن أظن أني نسيت. - إذن راجع ما نسيته، وأنا أدلك على المسيو ليكرم الموسيقي الشهير، فإنك تسمع منه ألحانا عجيبة.
ثم همت الكبيرة بالذهاب فودعناها وعدنا، فنظرت البارونة من النافذة وقالت للمركيزة: آه ما أجمل السماء! أظنك تذهبين إليها عن قريب دون أن تمري على المطهر، فضحكت المركيزة ضحكة كبيرة وأجابت من فورها: حيث أجتمع بك تحت أقدام أمور «إله الغرام»، ثم همت بالذهاب أيضا وقبل أن تخرج قالت: إنك جميل رقيق الحديث، فيجب أن تزورني في كل ثلاثاء وهو يوم موعد مقابلاتي، وإن أنت لم تأت آمر بقتلك.
وبعد انصراف المركيزة أخرجت كتاب عمي وقرأته عليها فاضطربت، وتغيرت ملامح وجهها، وجعلت تنظر إلي كأنها تستطلع ما إذا كانت نصائح عمي غيرت أفكاري وصرفتني عن حبها، وإذ لم تر على وجهي دليلا لذلك، اقتربت مني وقالت همسا: سأذهب غدا إلى كنيسة القديس اغوسطينوس فلاقني إلى هناك فودعتها، وذهبت مستغربا أفكر في كيف أن امرأة مثل البارونة معروفة في باريس بجمالها وذكائها ولباقتها، تضرب لي موعدا لم أطلبه منها؟ مع أني مستجد في خدمة زوجها، وملزم أن أعتبرها وأجلها ... وما معنى ذلك الموعد؟ وما المقصود منه؟ ... على أنه أحدث عندي روح الكبرياء والتغطرس، وأوهمني أني شيء عظيم في الدنيا.
وعندما استلقيت على فراش النوم أخذت تتجاذبني الأفكار، وتقلبني الأوهام، فأسمع تارة أقوال عمي، وتارة أنظر الأخطار التي تنجم عن حب هذه المرأة ... وطورا أنظرها تبتسم لي، وتقبل فمي بحب وشوق، فأنسى كل شيء، وبينا أنا أخاف على مصلحتي أن تفقد مني، وعلى كرامتي أن تشان، كنت أشعر بميل عظيم لحب تلك المرأة وضمها إلى صدري، وأقول: إن جميع الأخطار هينة بجانب وصلها، ثم أرجع فأذكر قول من قال: «إن أول الحب ميل، وثانيه هيام، وثالثه قتل» ... ثم قلت: لا بد أن الوصل يضعف قوة الحب، ولكن قد قال العلماء: إن الهواء يطفئ النار إذا كانت خادمة، أما إذا كانت مشبوبة قوية فإنه يصليها.
ورأيت في الليل حلما أني بين شياطين كثيرة، هذا يحاول قص لساني، وذاك يضغط علي، وآخرون يقفزون من فوقي، ورأيت بين أولئك الشياطين امرأة مجردة من ثيابها، ذات جمال بديع، مفتوحة اليدين تدعوني إليها، ثم استيقظت فلم أر أحدا.
ولما قربت ساعة الميعاد جعلت أفرق بين الأخطار المحدقة بي، وبين السعادة المهيأة لي، وبينما كنت كذلك ذكرت الشعر الذي يقول فيه هوراس: إن الحكيم ينتفع من كل شيء بحكمته، وحكمت أن ذهابي إلى الكنيسة واجب، وفتحت شباك غرفتي فرأيت السماء ملأى بالغيوم الكثيفة، ومدامعها تنهال طورا طلا وطورا وبلا، والأسواق سائلة بالمياه والحوانيت مقفلة، والناس مختبئون إلا نفرا مشمري الذيول في أيديهم المظال يمشون مسرعين، ورأيت الحدائق خالية يسقيها الله من فيضه العميم، فظننت أنه يكون لي عذر إذا لم أذهب في مثل هذا الوقت، وقلت من المحتمل أن تكون البارونة قد عادت إلى بيتها؛ لعدم صفاء النهار، فإذا ذهبت أكون حللت هذه المشكلة على طريقة مستحسنة.
فركبت عربة من العربات المقفلة وسرت إلى الكنيسة، وقبل أن أصل إليها أمرت السائق بالوقوف فوقف، فذهبت ماشيا، ولما دخلتها كانت النجوم الذهبية التي تضيء أمام الهيكل تنطفئ واحدة بعد واحدة، والكهنة ينصرفون بالتتابع تاركين الكنيسة كمغارة مهيبة، بل كقبر مخيف، فتقدمت قليلا وإذا بها على بعد عشر خطوات راكعة تتأمل، ولما رأتني أتت إلي وقالت بثغر باسم وهي تكاد تقبلني في الكنيسة: هل معك عربة؟ قلت: نعم، فقالت: إذن اسبقني فأتبعك للحال، كل ذلك كان بوقت وبشكل غريبين، بحيث لم يلحظ أحد ما كان منا، فقالت للسائق سر بنا إلى حديقة منسو، ثم إلى كورسيل، ومنه إلى شارع قبة النصر، ثم جلست إلى جانبي وأحنت رأسها أمامي مثل جلستها في الكنيسة وانحنائها رأسها، وكان العطر يفوح من ثيابها، وفمها، وشعرها، فرفعت الخمار عن وجهها، وبينا كنت أفكر في حديث أفاتحها به، افتتحت الحديث بشجاعة وقالت: الآن أنا آمنة من أن لا أرى وأن لا تسمعني جدران بيتي ونوافذه، فتفهم هاتين الكلمتين، لا بد أنك استغربت كيف أني استقبلتك منذ يوم معرفتي بك، كمن عرفتك من زمن بعيد، وكيف أني لاطفتك وأظهرت لك التودد والميل، كمن اختبرتك وعرفت أنك تقدرها قدرها فلأي شيء تنسب تلك الجاذبية التي جعلتك تمتلك قلبي؟ وجعلتني أكبر حبك؟ ... هذا لغز أترك لك حله يا حبيبي، قد استوليت على قلبي وقيدته بهواك، ولأول مرة رأيتك شعرت بشيء لم أشعر بمثله قبل، وحدثتني نفسي بأنك أنت الحبيب المنتظر.
ثم ألقت رأسها إلى ذراعي وأمسكت يدي، فاستنشقت أنفاس فمها العطرة، وقرأت في عينيها شوقا عظيما لتقبيلي، وشعرت بمثل هذا الشوق لتقبيلها، فهاجني الغرام، وأقامني وأقعدني وحبذا لو أغمي علي؛ لكنت تخلصت من تنازع الخوف والهوى، ولكن سلطان الهوى تغلب على سلطان الخطر فقلت: إذ قد حصل لي الشرف بأن أستحق حبك وهواك، فاسمحي لي أن أثني عليك، وبما أن الغرام هكذا اقتضى فإني أسلم إليه قياد نفسي، وهنا ذكرت نصائح عمي، فتوقفت بغتة، وقلت لها من فوري: ولكن يا سيدتي أنت أرفع منزلة من هذا الغرام، وأرقى عقلا من اتباع هذا الهوى ويجب علي أن أحترمك لا أن أحبك، ثم ماذا يكون من الحب يا ترى غير عذاب وغيرة وإهمال للواجبات؟ فأرى أن نتجنب هذه الأضحوكة السيئة العواقب ونهرب منها، فذلك أشرف لنا وأبقى.
فلما سمعت هذا الكلام نفرت مني وبرد جسمها وقالت لي: قل للسائق أن يعود إلى شارع جبرائيل، ولما بلغناه هممت أن أعينها على النزول، فأبت وابتعدت عني قائلة: كفاك تتعب لأجلي ...؟ ما أقسى قلبك وما أجبن أرباب العقول! قالت هذا بغضب ومضت.
الفصل الرابع
إذا كان جرح الشرف صعب الشفاء، ومس الكرامة يثبت في الفكر ما دام في الجسم دم شريف، فكيف السبيل لمراضاة ريتا وعفائها عني؟ بعد أن جرحت شرفها جرحا عميقا وعاملتها بالقسوة الجائرة، وقابلت تنازلها بالكبر وسوء التصرف ... ولكن أي ذنب أذنبت إليها إذا اتبعت الجادة الحسنى؟ ونظرت في أمر مستقبلي نظرة الفطن اللبيب، إلا أن هذه ظروف تصغر ذنبي بعينيها ... ولكن لا لا، فإن من الخمول والجبن رفضي طلب حسناء تحسد العذارى خدها الأحمر، وقدها الميال، وتطمح إلى جمالها عيون النساء، والأطفال، والرجال، وإن جبني هذا يجعل بيني وبينها حاجزا حصينا.
وإذا شئت أن أستغفرها، وأطلب عفوها فكيف؟ ومتى؟ فإذا كتبت إليها عرضت نفسي لخطر عظيم؟ وإذا ضربت لها موعدا فربما ترفضه، وإذا زرتها فلا جرم أن لساني يتلعثم عن الكلام، وأن فؤادي يجبن، ولما أن أتعبتني هذه الأفكار المقلقة تركت الأمر للقدر، وفي صباح النهار التالي عاودتني أفكار أمس، وهاجتني حوادثه، فأكمد وجهي وفقد طلاقته، فشعر لامبون بحزني وانقلابي، وسألني عن مسبب أكداري وموجب حزني، فلم أجب، فقال: أظنك عاشقا، فقلت: ربما كان ذلك، قال: ذلك كائن بالفعل، وآخر دواء لذلك هو أن تشرح هواك لحبيبتك، ولكن قل لي - ناشدتك الله: هل حبيبتك عذراء؟ قلت: لا، قال: لا غرو أنها جميلة فتانة؛ لأن كل محب يرى حبيبته كذلك، فقلت: والله يا لامبون، إنها من أجمل مخلوقات ربك:
حرة الوجه والشمائل والجو
هر تكليمها لمن نال غنم
وحديث بمثله تنزل العص
م رخيم يشوب ذلك حلم
سلب القلب دلها ونقي
مثل جيد الغزال يعلوه نظم
ونبيل عبل الروادف كالفو
ر من الرمل قد تلبد فعم
ووضيء كالشمس بين سحاب
رائح مقصر العشية فخم
وشتيت أحوى المراكز عذب
ماله في جميع ما ذيق طعم
هكذا وصف ما بدا لي منها
ليس لي بالذي تغيب علم
غير أني أرى الثياب ملاء
في يفاع يزين ذلك جسم
وقد ضربت لي موعدا فجلست إليها أكثر من ساعتين في عربة مقفلة، خرجت منها كما دخلت بدون حادث يذكر، ولم أعد أراها، فقال: إنك يا مكسيم أسأت الأدب إلى هذه المرأة وأراك لم تعشق قبل الآن، ألا تعلم أن من الظروف ظروفا يجب على الإنسان أن يخلع فيها الأدب واللياقة مع النساء؟ فيجب عليك أن تذهب إلى تلك الحبيبة وتترامى على أقدامها، وتقبل يدها بذلة وانكسار، وتظهر لها حبا شديدا، تلتزم معه أن تستلم إليك وترضى عليك، فقلت: سأفعل حسب أمرك.
وقبل أن يودعني التفت إلي التفاتة الحكيم وقال: يجب أن تستعمل الوقاحة مع النساء «دائما الوقاحة».
الفصل الخامس
رقاني فركنباك إلى أهم خدمة في مكتبه، وهي فض الأمانات، ففي كل صباح كانت تأتيني رسائل ألمانيا، ورسائل الولايات المتحدة فأترجمها لفركنباك، وبحسب أمره أجيب عليها، فبقدر ما تكون الرسائل كثيرة أو قليلة يكون شغلي كثيرا أو قليلا.
فبينما كنت ذات يوم عنده أحمل إليه رسائل الخارج وأنتظر أن تمسكها تانك اليدان اللتان تنثران درا حين الكتابة، إذ دخل الخادم وفي يده بطاقة دفعها إليه، فلما قرأها ترك ما كان في يديه وأمرني أن أجلس على مكتبه، وأطوي الكتب وأرسلها لأربابها، وقال: أنا ذاهب، أستودعك الله وأرجوك أن تذهب إلى البارونة وتقول لها ألا تنتظرني؛ لأني مدعو للأكل عند صاحب لي في أمستردام وهو يلح علي بالذهاب إليه.
كان هذا الوقت أنسب وقت وأقرب وسيلة لاختبار مبدأ لامبون، وما كاد البارون يخرج من الباب حتى طويت الكتب وأرسلتها، ثم ركبت عربة وسرت إلى قصر فركنباك، فذهب الخادم وأعلمها بحضوري، ثم عاد وقال لي: البارونة ترجوك أن تنتظرها ريثما تنتهي من بعض شأنها، فانتظرتها زمنا طويلا ولم تأت فخفت، وارتبكت أفكاري، وقلت: إذا قصرت زيارتي على إبلاغ ما كلفته يعظم البلاء، وأجلب علي غضبها المؤبد، وإذا فاتحتها بغير ذلك فأي إظهارات تظهرها لي ...؟
وإذا بها مقبلة وعلامات الغضب على وجهها، فأمرتني أن أجلس، ثم قالت بازدراء: طلبت مقابلتي، فماذا تريد قلت: إني آت من قبل البارون لأخبرك أنه مدعو للأكل في أمستردام في هذا المساء عند صاحب له، فضحكت مني ضحكة معنوية، وقالت: إن الهولندية التي يحبها البارون تدعى جوزيفا، وهي أستاذة في أكاديمي الموسيقى، وبيتها في شارع أمستردام ... إنك تنقل الحديث بحروفه، فماذا يعطيك البارون مكافأة على هذه الخدمة؟
فدار في رأسي غدير دم كاد يقتلني لهذه الإهانة، وأجبتها بوجه صفعته الشماتة، أقسم بالسماء وبالأرض، وأقسم لك بكل عزيز لدي أني أجهل كل هذه الشروح، وفاضت عيناي بالدموع.
فقلت لها والعبرات تتسابق من عيني: لقد عاملتني بالقسوة الزائدة، ولو كانت هذه الإهانة من غيرك، لهانت علي، ولكني لا أحتملها ممن أهواها وأفتديها بروحي، بماذا أذنبت إليك يا سيدتي فتقابليني بهذا الجفاء؟ فقالت: وقد أخذت عبوستها بالزوال: أرجوك أن تعذرني فقد غلبت علي الانفعالات النفسانية، وإني أصدق مقالك، فقلت برقة وتذلل: قبل أن أذهب من هذه القاعة التي ربما منعتني عن دخولها مرة أخرى أقر إقرار المدنف أني أهواك، وأني من يوم رأيتك على هذا المقعد الذي أنت عليه الآن جميلة كالصبح، شعرت بشيء خرج منك واستولى على قلبي فأخذه مسحورا:
سجد الجمال لحسن وج
هك واستراح إلى جمالك
وتشوقت حور الجنا
ن من الخلود إلى مثالك
فعشقت وجهك إذ رأي
تك واعتمدت على وصالك
وعندما وضعت يدك في يدي لأول مرة حسبت أني أهواك هوى فوق كل هوى، وحينما فتحت لي قلبك الطاهر وأطلعتني على أسراره ومكنوناته، شعرت بقوة لا أعلم ما هي، وأعلم فقط أنها هاجت دمائي، وأثارت أعصاب يدي التي كانت بيدك فاضطربت اضطرابا غير مألوف، ولم أنم كل ذاك الليل، فإن صورتك البهية كانت دائما نصب أفكاري وعيني، وإذا كانت القلوب على القلوب شواهد، فلا بد أنك شعرت شعوري، على أني خفت عقبى هذا الغرام، وخفت أن يعود علينا بالوبال، وهذا ما جعلني أسيء إليك الأدب:
إن كان غاظك شيء لست أعلمه
مني فعفوا وإني نادم ندما
ما تشتهين فإني اليوم فاعله
والقلب صب فما جشمته جشما
فقالت: صدقت يا مكسيم فقد رأيت على وجهك تلك الدلائل؛ ولهذا لم أشدد النكير عليك، ولكن ساءني منك هذا الجبن الذي لم أكن لأظنه فيك، مع ما أعهدك عليه من الذكاء.
وكانت جفوتها تزول شيئا فشيئا، وبقدر ما كنت أتذلل إليها وألاطفها كان غضبها يقل، وينحل، ثم عدت للحديث، فقلت: أرى على وجهك هيئة امرأة تحسبني أمثل رواية وتظن أني أستخف بالحب، فاسمحي لي يا سيدتي أني أركع على قدميك وأشرح لك ما قاسيته من العذاب في محاربة أميالي ... وإذا كنت امتنعت عن تلبية طلبك فيما مضى وفضلت أن أتعذب عذابا اختياريا؛ فذلك لأني لم أشأ أن أبادلك عواطف قلبي في عربة معرضة لأبصار المارة، فإذا كنت مخطئا فسامحيني، ثم إني تراميت على أقدامها وملأت يدها بالقبل الحرى، وقلت بصوت يقطعه خفقان القلب وزفرات الفؤاد: أستحلفك بالحب وآياته، وبالطبيعة وكل شيء جميل بألا ترفضي قلبا أقدمه لك على كفي، وأن تقبلي حبا سعى إلينا من نفسه دون أن نسعى إليه.
وكأنها رثت لحالي، فأخذت يدي وقالت: قف يا حبيبي، فربما يباغتنا أحد على هذه الحال، فارتميت عليها وقبلتها، فقبلتني قبلة اقشعر لها جسمي وجسمها:
قبلتها ودموعي مزج أدمعها
وقبلتني على خوف فما لفم
قد ذقت ماء حياة من مقبلها
لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم
ثم جلست على المقعد وقد دار ماء الحياء في وجهها المشع الإلهي، فقالت: اذهب يا حبيبي، فقد طالت زيارتك وأخاف أن يتنبه الخدام. فقلت: سمعا وطاعة، ولكن متى أجيء إليك بإرادتك التامة؟ ومتى تفتحين لي إنجيل الغرام الذي كان ممنوعا علي؟ فوقفت ووضعت يدها على رأسها كأنها تحارب ميلين مختلفين، كل واحد يعمل لاكتساب إرادتها ثم قالت: أتكتم السر؟ قلت: كالقبر، قالت: أتكون مخلصا؟ قلت: جربيني. قالت: وإذا أخلصت:
فلك الله والأمانة والمي
ثاق أن لا نخونكم ما بقينا
ثم أن لا يزال حبك عندي
مثله اليوم في الفؤاد مكينا
ثم لا تخرب الأمانة عندي
أغدر الناس من يخون الأمينا
ثم أن نفعل المناسب حتى
نترك الناس يرجمون الظنونا
فقاطعتها وقلت:
ثم أن أرفض النساء سواكم
هل رضيتم؟ قالت: نعم، قد رضينا
قالت: إذن يجب أن تكون عندي قبل منتصف الليل ... سأرسل الخدام من البيت، وأبقى وحدي، فخذ هذا مفتاح باب الخارج فافتحه بلين، وإياك أن تدق الجرس.
قالت هذا وقرعت ذر الجرس، فأتى الخادم فقالت له: افتح الباب وشيع المسيو مكسيم، ثم أحنت لي رأسها بسكينة ولطف، كأن لم يك بيني وبينها أشياء .
الفصل السادس
أثمرت نصائح لامبون ثمرا جنيا، وكذبت ساعة الوصل ما كنت أتوهمه في الغرام من الأكدار والتعساء، وغدوت لا أفكر إلا بأن لي حبيبة أحبها وتحبني، وتغار علي كما أغار عليها فقلت أخاطب طيفها:
أذعن للحسن عصي العنان
وحاولت عيناك أمرا فكان
يعيش جفناك لبث المنى
أو للأسى في قلب راج وعان
يا قمرا في التيه ما ينتهي
أخاف أن يفنى علينا الزمان
ويا كثير الذل في عزه
لا تنس لي عزي قبيل الهوان
ويا شديد العجب مهلا فما
من منكر أنك زين الحسان
رضيت لم أجزع ولكنما
من الرضا سخط ومنه امتنان
مضى القليل النزر من حيلتي
والجلد المذخور ولى وخان
اجتمعت بريتا وافترقنا، وما كان منا فلا يغبى عن أحد؛ أما وصالها فبدلا من أن يخفف شدة الغرام أصلى قلبينا بنار أحر نار الجحيم أبردها، وكأنه بدل كبدينا وقيدهما بقيود من حديد، فصار قلبي ملكها وصار قلبها ملكي. •••
ولكن ما ذاك الرخاء الذي شعرت به حينما كانت إلى جانبي أضمها مرة وتضمني مرات، كأننا غصنا دوحة تضمهما الطبيعة ويحركهما الهوى! ... بل، كيف لا أشعر بذلك وأنا لست خشبة بغير حياة، ولا حجرا بغير إحساس؟ وريتا أجمل النساء وألطفهن وأوفرهن ذكاء وعلما.
ولما رأيت لامبون شمخت كالطاووس حين ينتفض ويفرش ريشه، ويعجب بجماله، وضحكت ضحكة المسرور بطالعه المفتتن بنجمته فضحك بي، وبعد نظر طويل إلي قال: ما للأرض تضيق بك؟ أراك تنتفخ كالبعير فهل استعملت الوقاحة مع حبيبتك؟ - الوقاحة والتذلل. - وهل كانت النتيجة حسنة؟ - فوق ما كنت أرجو. - ذلك كان منتظرا ... والآن، إذ قد فزت بطلابك ونلت مشتهاك وتبدل لون وجهك الترابي بلون آخر وردي، فهل لك أن تدلني على حبيبتك؟ - ذلك فوق مقدرتي. - قل لي على الأقل من أي طبقة من الناس هي؟ - لا أعلم. - أظنها امرأة شيخ مسن تغار عليه وتخدعه كما يخدعها. - لله درك ما أبرعك بحل الألغاز وإدراك الأسرار! - نعم، عندي بعض الخبرة بهذه العلوم، وقد درست على يد الزمان فعلمني ما لم يعلمه غيري، فعندي نصيحة أخرى لك، وهي أن تحرص على سعادتك حرصا شديدا، وتسهر عليها من خطر المخاوف التي قد تعتريها. - لا خطر علي؛ لأني أحبها ولا أحب سواها، وهي كذلك لا تحب سواي، وأنا لا أخاف غيرتها، ولا أظنها تهوى غيري، فأغار عليها؛ لأنها تهاب زوجها وتخاف أن ينكشف أمرها إذا كثر عشاقها، وعليه فيكون الخطر على سعادتها أكبر منه على سعادتي.
وفي المساء عدت إلى البيت فوجدت على مكتبي كتابا منها بخط يدها تقول فيه:
حبيبي
تمارض غدا وانتظرني في البيت ... في الساعة الحادية عشرة أكون عندك، أقبلك قبلات كثيرة والسلام.
الإمضاء ...
فأخذت الكتاب وجعلت أقرؤه وعيناي تذرفان الدمع سجاما من الفرح، وأن هذا الكتاب كان أول كتاب أرسلته إلي، وبينما أنا في هذه السكرة سمعت حمامة تنوح على غصن بان قرب الشباك نواحا محزنا فقلت:
هل تيم البان فؤاد الحمام
فناح فاستبكى جفون الغمام
أم شفه ما شفني فانثنى
مبلبل البال شريد المنام
يهزه الأيك إلى إلفه
هز الفراش المدنف المستهام
كذلك العاشق عند الدجا
يا للهوى مما يثير الظلام
له إذا هب الجوى صرعة
من دونها السحر وفعل المدام
يا زمن الوصل لأنت المنى
وللمنى عقد وأنت النظام
لله عيش لي وعيش لها
كنت به سمحا رخي الزمام
وقد تولتني فرحة شديدة أنستني أنه كان يجب على ريتا أن تكتب لي أكثر من سطرين؛ نظرا لما بيننا من الغرام، فشمخت بأنفي وملأني حب الذات، وجعلت أنظر إلى ذينك السطرين نظر البنية إلى لعبها، وأضمها إلى صدري ضم تلك لعبتها، حتى تعبت فجلست على المقعد والكتاب في يدي أحسبه كنزا ثمينا.
واتفق في الغد أن رسائل الخارج كانت قليلة فسررت جدا، وبعد أن أجبت عليها بترو وحكمة، أتيت السوق فاشتريت طاقات من الزهور المتنوعة وفرشت بها بيتي المعتم، وبينما كنت أسرح الطرف من النافذة إذا بها في ملتوى الطريق تنزل من العربة، فأقبلت نحوي تتهادى بين إدلال وابتسام، فقلت أناجيها عن بعد:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
أو فابتغي فلكا تأوينه ملكا
لم يتخذ شركا في العالم الفاني
السر يحرسه والذكر يؤنسه
والشهب حوليه بالمرصاد للجاني
ينساب في النور مشغوفا بصورته
منعما في بديعات الحلى هاني
إذا تبسم أبدى الكون زينته
وإن تنسم أهدى أي ريحان
وأشرفي من سماء العز مشرقة
بمنظر ضاحك اللألاء فتان
عسى تكف دموع فيك هامية
لا تطلع الشمس والأنداء في آن
وكانت مرتدية بثوب مثل ثياب أهل القرى كيلا يعرفها أحد، ومسدلة على وجهها نقابا ثخينا يستر جمالها وما هي إلا دقيقة حتى:
سفر الحبيب فقلت يا عين انظري
وتنزهي في حسن هذا المنظر
وبدا يميس فلاح لي قمر على
غصن رطيب بالمحاسن مثمر
رشاء إذا هز النسيم قوامه
أزرى بغصن البانة المتخطر
متمايل الأعطاف ورد خدوده
يغني المحب عن الشقيق الأحمر
جمع المحاسن إذ تثنى قده
وتفردت ألحاظه بتكسر
فإذا رنا يسبي العقول أو انثنى
تحلو رشاقة قده للمبصر
فوضعت خمارها وبرنيطتها على فراشي، وقالت لي بصوت مضطرب من السرور: «آه يا حبيبي كيف يمضي يوم كامل ولا أراك ...؟ كم كان هذا اليوم طويلا!» فأجلستها قرب المصطلى المشبوب، وجلست على أقدامها أشتم رائحة أنفاسها العطرة، فقالت: ها نحن معا الآن أيها الحبيب لا نخشى رقيبا، كلانا عاشق ومعشوق، ليتك تعلم كم أخاف الرقباء، وأشتهي لهم الضراء؛ لأني أود أن أعيش منعمة سعيدة آمنة، ولا سعادة لي إذا فصلت عنك ... هل وجدت طريقة سهلة لأن نجتمع معا ونتحاب دون أن تصل إلينا أعين العيون والعواذل، أم لم يدر بعد في رأسك العديم الاهتمام بالأشياء هذا الأمر الضروري ... أما أنا فكنت بالأمس أفتش بلا انقطاع على بيت بعيد عن الناس، لا تجوز إليه أنظار الجواسيس الأشرار، وبعد تعب وجهد وجدت منزلا موافقا في طريق كوبنهاك فاكتريته للحال، وجئت إليك لأهنئك، ألا تشكر لي فعلي ...؟ ألا تحرك فمك لتقبيل خدي ...؟ ألا تحرك يديك لتضمني ...؟ فضممتها إلى صدري، وملأتها بالقبل، وقلت: إني كنت أتأمل بهاءك يا خنتي المعبود، وكنزي المرصود، فقالت : ويسرك أكثر أن صاحبة البيت أرملة لا تملك غيره، فهي تعيش بأجرته، وللبيت بابان ومفتاحان، هذا مفتاح لك، والآخر لي، وخذ هذه نمرة البيت فيجب عليك من الآن فصاعدا إذا شئت أن ترسل لي كتابا أم تلغرافا أن ترسله بهذا العنوان، وأن تذهب إليه في كل مساء بعد انصرافك من المكتب، فربما أكون هناك من حيث لا تعلم.
ثم قامت ولبست برنيطتها، وقبل أن تضع الخمار على وجهها ضمتني إلى أقداس صدرها وقبلتني، ولما رأت علي ملامح الحزن، قالت: خرجت من البيت على غير عادة أن أخرج منه في مثل هذه الساعة، وأخاف أن يسأل عني البارون إذا طالت غيبتي ... فأستودعك الله يا حبيبي وحياتي ... موعدنا قريب.
كانت زيارتها أقصر من لمع البرق، ولما خرجت شعرت بميل لرؤية بيتنا الجديد، وإذ لم تكن لي أشغال تمنعني سرت إلى حي أوروبا، وبينا كنت سائرا كنت أتأمل بجرأة ريتا، وحرية ضميرها، وأحسدها على شجاعتها، ونشاطها الطبيعي، ووددت لو يكون لي مثل أخلاقها وصفاتها ... ومن لا يعجب من ريتا وهي بالأمس ولد حبها، واليوم أضحى لها معبودا وصار كأنه من ضروريات حياتها، أما أنا فلست أكثر من آلة غير عاملة، وكان المنزل الجديد على ما يوافق حالنا خاليا من حركة الناس وأصواتهم، وهو طبقة فوق طبقة، ونوافذه محكمة، وداخله نظيف جدا، أما مفروشاته فكانت من الحرير الأحمر المعرق، وفي القاعة مرآة كبيرة وزخارف عديدة، ومع أن ريتا لم تأته أكثر من مرة، فقد ملأته من آثارها، فوضعت على المصطلى زهورا كثيرة الأنواع، وجرائد مختلفة اللغات واللهجات، ورأيت صورتها على إحدى الطاولات ملفوفة بشرائط حمراء في طاقة كبيرة من الورد.
آه، ما أسعد الساعة التي كنت مزمعا أن أقضيها مع ريتا في هذا البيت يوم الأحد!
ولما حان وقت الموعد المضروب سبقتها، ولعلمي أنها مولعة بالحلوى مثل النساء الإيطاليات، ملأت سلة من أصناف الحلوى، وأخذت معي من أنواع المدام شيئا كثيرا، ولما دخلت البيت أوقدت فيه قدرا من الحطب كي تزداد حرارته، وإذا بالباب ينفتح فاضطربت أعصابي فرحا وأغمي علي، ولما استفقت رأيتها إلى جانبي تؤانسني وتلاطفني.
آه، ما أسعد هذه الساعة التي كنت مزمعا أن أقضيها معها في هذا البيت!
فقالت لي وهي تصلح زي شعرها: أتعلم يا مكسيم من أنا في عين أرملة أنور صاحبة هذا البيت؟ - إن سيدنا إبليس - عليه السلام - لم يعطني ما أعطى تيراز ياس من معرفة الخفايا وحل الألغاز. - قد سميت نفسي روزا كازينولي، وهي إحدى المغنيات الشهيرات في ميلان، وكيلا أجعل لها سبيلا لمراقبتنا احتلت عليها حيلة غريبة، فقلت إني عاشقة والذي أحبه شاب غني يحبني ويغار علي، أنت هو ذلك الشاب، وهذه الحيلة مع كونها مألوفة فهي قريبة من التصديق بساطتها، وقد قال المثل: إن الأقاصيص البسيطة أقرب للأفهام من سواها. - وماذا سميت حبيبك؟ - قلت فقط إنك ممثل مولع بالموسيقى، وقد قال المثل: تجنب الكذب غير المفيد، ولم يقل المفيد ... - بالحقيقة إنك داهية يا مولاتي. - عجبا! كيف تسميني مولاتك ألا يكفيك أني حبيبتك؟ - أنت هذه وتلك، وليس بمستغرب على الله أن يجعل اثنين في واحد. - كيف رأيت هذا البيت؟ - أتعنين هذا البيت الذي نحن فيه مختبئان كمجنونين؟ - نسيت أن تضيف إلى مجنونين كلمة غرام، فقل كمجنوني غرام. - رأيت أنه أحسن أبنية الدنيا. - أحب أن أتناول فيه الطعام معك في بعض الأيام، فأول مرة لا يأتي هو البيت أعلمك. «هو» كناية عن زوجها الذي حلفت ألا تسميه أمامي.
ثم قالت: لا بد أنه يدعو حبيبته الهولندية لتتناول معه الطعام في الحانة فيومئذ ...
ثم تركت من يدها كأس الخمر، وتناولت بدلا منها قطعة من الحلوى وقالت ضاحكة: وبما أنه يحب النوم فسينام معها على فراش واحد، ونحن نقيم عيدا هنا ... وننام معا أيضا على هذا الفراش ...! مثل اليوم ...
باتت بطرف مسهد
مطهومة تتمرد
لها من الظرف والحس
ن زائد يتجدد
فكل حسن بديع
من حسنها يتولد
في القلب مني عليها
حرارة تتوقد
تعود بالوصل طورا
والعود بالوصل أحمد
تمضي أوقات اللذة مضي الأحلام، ولا تبقى للحبيبين غير لوعة وذكرى وهيام، وكان نصف الليل الأول على وشك الانتهاء، فنظرت إلى ساعتها وقالت: صرنا في الساعة الثانية عشرة، ونحن لا نشعر ولا أعلم إذا كانت ساعتي تغالط.
ثم دنت مني ونظرت في ساعتي، فإذا الوقت فيها مثله في ساعتها فنهضت للحال، ولبست برنيطتها وتهيأت للذهاب فقلت لها: ماذا؟ فقالت أستودعك الله يا حبيبي قبلني قبل الوداع ... أيضا ... أيضا ... القبل للعشاق كسر المسحة للمرضى.
وبعد ثلاثة أيام كتبت لي كتابا تقول فيه: إن «هو» مدعو اليوم للعشاء في النادي الفرنساوي، ولا مراء أنه سوف يسكر، وبناء عليه فسأجيء إليك في الساعة الثامنة بعد الظهر.
فقمت من فوري وذهبت إلى السوق فاشتريت شيئا كثيرا من ألوان ... الآن ازداد رضاي عليك.
الطعام اللذيذة ومن أصناف الخمور المعتقة، ومن الزهور الجديد قطوفها، ثم أشعلت النار، وأنرت القناديل المعلقة، وكللتها بالأزهار البهية العطرة، وفرشت المقاعد والكراسي بصنوف الورد والرياحين.
وإذا بها داخلة، ووجهها يتهلل بشرا، والسعادة ترقص على جبهتها وجبينيها، والسرور يجول في عينيها فقالت: نعم أنا هي التي تنتظرها، أنا ريتا لا تخف ... أنا ريتا السعيدة بأن أراك، الحرة إلا في هواك، الصادقة في ولائها وحبها، الأميرة إلا على قلبها، وبعد أن كان لا يخطر ببالي أن أخون فركنباك، أصبحت وأنا أرصد غيبته بفروغ صبر لأجيء إليك، وأعاطيك كئوس الهوى، ولو كان يعلم ذاك المغرور بما بيننا، لامتزج صفو أيامه مع جوزيفا بالكدر والحزن. - دعينا من هذا الحديث وهات حديثا أطيب. - أظنك هيأت الطعام، وأعددت كل شيء على أحسن نظام. - نعم قد هيأت كل شيء، وجعلته على أحسن ما تتصورين من الذوق، فهل أنت راضية على مكسيم حبيبك؟ - خذ الجواب من عيني فهما أفصح من لساني، وسلهما عن شخصك في قلبي، فهما اللتان دلتا القلب عليك، وهما اللتان أوجدتا الحب حين نظرت بعيني ونظرت بعينك ... ولكن لماذا تجلس بعيدا عني ...؟ اقترب اقترب أيضا ... الآن ازداد رضاي عليك. - قد تهيأ الطعام.
كان عشاؤنا كما يجب أن يكون؛ أي نارا تشبها المزاحات والمداعبات الصبيانية، بل مطر قبلات، بل ساعة جنون غرامي، وبقدر ما تكلمت ومازحت، بقدر ما شربت من الشنبانيا إلى أن سكرت وغاب عقلها، حتى لو رأت تمثالا من حجر لحسبته إنسانا ودعته ليشرب معنا كأسا.
ثم إنها طوقت عنقي بيدها، وقالت بصوت مترجرج: أنا مسرورة بأنك قريب مني، سعيدة بأني قريبة منك ... وقد كنت في جنة يوم قدمت لك قلبي فرفضته، ولو أني رفضت قلبك حين قدمته لي، لكان جنوني أشد من جنونك؛ لأن في الحب لذة لا أدري كيف أعبر عنها ... وأنا أحبك من كل قوة قلبي ونشاطه ... وأود أن أمحو ذكرى أحزاني الغابرة، وأود أن أؤرخ حياتي من يوم عرفتك، بل من ساعة دخلت غرفتي، تلك الساعة التي رأيتك فيها لأول مرة، وكأن صوتا سريا كان يقول لي إني سأكون لك وتكون لي ... فكأن أشعة شمس بددت ما كان ينوب نفسي من الظلمات وبقوى قبلاتك انزاح الحجاب الذي كان يحجب عني الذهول، والغفلات الإلهية التي أفنيت عمري في تصورها فلم أنلها، وقضيت معظم أيامي في طلابها فلم تستتم لي ... فأنا أحبك الآن حبا فوق من يتصور العشاق، بحيث أشعر في نفسي أني أموت لو غبت عني.
وبينما كان فمها الوردي يفتش على فمي وخدي، خطر ببالي فكر خشن لا يقال لحبيبة، ففاتحتها به ببرودة دون أن أبحث عما إذا كان يغضبها ويؤلمها أم لا يؤلمها، مثل الطفل الذي يمزق جلد الطبل؛ ليرى ما في داخله، أو كالبنية التي تكسر لعبها؛ لترى ما فيها، فقلت من فوري: وهل إني يا حبيبتي ريتا أول عاشق عشقته؟
فأخذتها لهذا السؤال رجفة مؤلمة ألقتها إلى الوراء، وأظهر وجهها دليل كآبة وعذاب حتى إني ندمت على هذا الذنب، فقالت: إنك سيئ النية يا مكسيم. - هبي أني لم أستعلمك عن شيء، فلا أحب أن أعلم شيئا من ذلك. - وأنا أحب أن أخبرك بكل شيء، وقد خنت ضميرك ومع جهلي بسبب ذلك فإني أستنتج منك أنك تميل لمعرفة المجهول من حياتي، وإذا كان لا بد لك أن تعرفه عاجلا أو آجلا، فأنا أقصه عليك الآن بصراحة ... فاعلم أني قبل أن أعرفك حدث لي حادثتا غرام «ولست الآن أحلي مقالي وأطليه بزخرف لأتنصل من ذنبي، بل أقول الحقيقة كما كانت، فقد عشقت المركيز دي ... لا فائدة من ذكر اسمه» مدة أسبوع كامل، وإنما كتمت اسمه عنك؛ لأنك تجتمع به أحيانا وربما تكرهه إذا ذكرت أنه امتلكني قبلك، وقد كان ذلك بعد زواجنا بأربعة أشهر.
وكان هذا المركيز معروفا بالغنى والذكاء والمهارة بالرقص، ففي ذات يوم زارني ولم يكن البارون في البيت فشرح لي هواه، وبعد نصف ساعة كنت حبيبته على أني رفضته بعد أسبوع لإساءة بدت منه، وما كانت هذه المرة لتخفف نيران غرامي، فقد كنت أشعر دائما باحتياج عظيم للحب، وأفتش عن حبيب أمين أبادله الغرام، فاتفق ذات يوم أن جاءنا أحد أقارب البارون، وكان شابا جميلا فاستقبلته بوجه بشوش، ورحبت به ومن ذاك الحين نشأ حبنا، وأخذ يزداد ويعظم، فخيل لي أني غرقت في بحور الغرام، وبعد ثلاثة أشهر أمرته الحكومة بالسفر عن باريس فبكيت لبعده كثيرا، وإذ رأيت أن الدهر ما دام يسقيني كئوس الحنظل عقدت النية على الوقوف عند هذا الحد من الحب، إلا إذا وجدت لي حبيبا جميلا أمينا، لا يسافر عن باريس، فبقيت منتظرة أقاسي ألم الاحتباس، وضجر الانتظار مدة ثمان سنوات إلى أن رأيتك يا حبيبي ... آه لو تعلم كم أحبك وكيف أهواك.
ثم أخذتها سنة الكرى فاستقلت على ذراعي ونامت، وكانت في نومها تستهل تارة، وتبتسم أخرى، وتصعد أنفاسها كخرير المياه الجارية في الخمائل النضيرة، وبقيت إلى نصف الليل فرأيت من الحكمة أن أوقظها، فقبلت جبهتها البيضاء الندية، فاستفاقت وسألتني عن الساعة فقلت: قد انتصف الليل، فقامت بسرعة إلى السرير ولبست أكف يديها وبرنيطتها، وتهيأت للذهاب، ثم قبلتني ومضت.
فلما رأيتني وحدي على الفراش الذي كنا عليه معا منذ دقائق انهملت الدموع من عيني، وأخذت الأفكار تنصب على رأسي كالصواعق، أما الشموع فأكثرها انطفأ والباقي كاد ينطفئ، وكانت بقايا الطعام حسنة هنا وهناك، والخلاصة أن ذهابها كان أشبه بإنزال الستار في تشخيص الروايات.
وما زلت أنتقل من فكر إلى فكر ومن خيال إلى آخر، إلى أن رف جنح الظلام، وانفتحت من الكرى عين الفجر، فقلت: أطويل يا ترى عهد غرامنا أم قصير؟ وهل تدوم على هذه الحال أم تغيرها الأقدار؟
إن ريتا تحبني بلا مراء، أما أنا فلا أدري إن كنت أحبها مثل حبها لي ...
الفصل السابع
قال لي لامبون: يا مكسيم إن للبارون كلاما يقوله لك، وقد أمرني أن أعلمك بذلك وقت حضورك لتسرع إليه في غرفته.
فارتعدت فرائصي، وغدوت كأن حجرا وقع من شامخ على دماغي فرضه، كما سقطت قطعة من جبل على رأس ثور فخارت قوى ساقي، وكأن سحبا عشت عيني فقال لي لامبون إذ رأى اضطرابي وانقلاب وجهي: ما بدا لك أراك مضطربا؟ فقلت: إني تعب وعندي حمى خفيفة لا أعلم سببها، فقال: سببها أنك تماديت مع النساء ليلة أمس - هذا بالطبع - فابق إذن هنيهة؛ ريثما يهدأ روعك ويسكن قلبك.
فقلت في نفسي لو كان في نية البارون أن يكلمني بشيء مما أظن، لما كان أرسل إلي لامبون ليدعوني إليه، وأظن ذلك لعلاقة في الشغل، وإذا كان العكس وفرضنا الممكن فهل لي سبيل إلى الهرب من انتقامه؟ وهل لي نجاة بالاضطراب والخوف؟ إذن يجب أن أذهب إليه بشجاعة.
فلما رآني هش بي وأجلسني إلى جانبه، وقال مضى عليك أربعة أشهر في خدمتي ولم أقل لك كلمة تنشيط، ولم أسمعك كلمة شكر على خدماتك الجليلة، ولا جرم أنك استغربت ذلك، وربما أنك نسبته لعدم تقديري المستخدمين قدرهم، على أني فعلت ذلك لأستقصي أخلاقك وصبرك، ولأختبر مقدار نشاطك، وقد سرني جدا ما رأيته فيك من الأخلاق الرضية، والذكاء، والاجتهاد، وقد رأيت أن أكافئك على ذلك بأن أصيرك كاتم أسراري بدلا من وليم، فهل تستطيع أن تقوم بأعباء هذه الخدمة؟ - أسأل الله أن يقدرني على خدمتك وإعانتك، وسوف أبذل جهدي لإرضائك. - كان راتب وليم ستة آلاف فرنك، وهذا الراتب نفسه يكون لك؛ لأنك عزيز عندي، وهذا مكتبك بقرب مكتبي فاجلس وابدأ في شغلك من الآن، وأحب أيضا أن كاتم أسراري يجيء للشغل باكرا. - حسب أمرك. - كان وليم إذا ذهب الظهر لتناول الطعام يعود بعد ساعتين، ومع أن هذه الفرصة واجبة لراحته، فإنها كانت تسوءني؛ لأني كثيرا ما احتجت إليه في خلالها والتزمت أن أبقي الأشغال لحين مجيئه، وإذا كان لا فرق عندك أن تأكل معي في بيتي بدلا من أن تأكل في بيتك فإنك تسرني جدا. - كاتم أسرارك يا سيدي لا يجد سبيلا لمخالفتك، ولو كان في سرورك الموت لاشتهاه.
فسر لهذا الجواب، وقال: أشكرك لعواطفك الشريفة، فما كنت أنتظر منك أقل لطافة وحلاوة، خذ هذه الأوراق وانظر إلى الشروح التي على هوامشها، وأجب على كل بالسلب أو بالإيجاب حسب ملاحظاتي، وإذا صعب عليك شيء فاسألني لأفيدك.
فجلست على مكتبي وأنا لا أكاد أصدق أني في يقظة ولشدة فرحي جعلت أقرض كفي، وبدا لي المستقبل زاهرا بلون ربيعي جميل، وهبت علي ريح مناسبة ملأت شراع أملي.
ثم كتبت كتابا لعمي أخبره فيه عن مصلحتي الجديدة، وأصف له سلوكي الحسن واجتهادي في خدمة فركنباك، ولو علم ذاك العم المسكين بحقيقة حالي لحملني على العوالي، وكان جل ما كتبته له إطراء بسلوكي، وحلفا بأني أسعد من على الأرض.
فأرسل البارون إلى ريتا يخبرها أني صرت كاتم أسراره، ويرجوها أن تعد لي كرسيا على مائدته، ولما كان الظهر ذهبت معه إلى البيت فقابلتنا ريتا بوجه باسم، وقالت: أهلا بحضرتك ومرحبا، إني أهنئك بهذه المصلحة الجديدة، ويسرني جدا أنك ستشاركنا في تناول الطعام على مائدتنا وقد ...
فقاطعها البارون عن الكلام وقال: إن مكسيم غدا كواحد منا، وعليه فلا تلقبيه بعد بحضرة أو بسيادة، فقالت: سأبذل جهدي في أن أسميه كما تريد.
ولما سمعت ذلك قلت في نفسي: لله در النساء من ماكرات خادعات.
وبعد الغداء قال لي البارون: إن القدماء كانوا إذا رغبوا في إظهار ودهم لأحد شربوا كأس خمر على نخبه، وأنا إظهارا لحبك أدعوك معي لنشرب على نخب بعضنا.
فانفتحت عيناها وانتفخ أنفها وقالت: وأنا أذهب معكما، فأجابها: إن البار مختص بالرجال ولا يدخله نساء.
ففركت حاجبها كأنها تفكر في أمر، وإذ رأت زوجها خارجا مع الخادم قالت لي بصوت خفي: ارفض طلبه. - وبما أعتذر إليه؟ - لا يهمني ... أجد عذرا؛ لأن المكان الذي تذهب إليه فيه نساء ... وأنا لا أطيق أن أراك مع غيري. - لكن الأدب يدعوني لأن أقبل طلبه وأشرب على نخبه، فهل تحبين أن أعرضه للشكوك؟ - إذن اذهب ولكن مع الحذر ... ولاقني في الساعة العاشرة إلى شارع كوبنهاك.
ثم عاد فركنباك وبرنيطته على رأسه، وقبل أن يدخل أمسكت قطعة من النسيج وجعلت تقلبها بطنا لظهر؛ لتخفي اضطرابها وتشغل أفكارها.
فجعل فركنباك يده بيدي وسار بي للحانة، وبينما كنا على الطريق قال لي بعبارة ودية: إن الوظيفة التي رفعتك إليها تقضي بتوفير علاقاتي معك، وبإيقافك على خبايا ضميري، وقد قال المثل: الملك ملك على غير خادمه؛ كذلك الرئيس رئيس غير عين في أهله، وعليه فأنا أحب أن أقص عليك كل ما في ضميري؛ اعتقادا أنك أمين، وأنك تعاملني بالمثل فتقص علي كل ما في ضميرك.
فوعدته بذلك، فقال: إذن أثق بك؟ قلت: نعم، قال نحن الآن ذاهبون إلى حانة بينيون، وبما أن وجود اثنين في حانة بغير نساء مستقبح، فقد رأيت أن ندعو إلينا ابنتين جميلتين فنغازلهما، وإخالك من شبان هذا العصر الذين لا يكرهون ذلك، فقلت: حسب أمرك.
وقال ضاحكا: وإياك أن تغازل غادتي؛ لأن صحبتي معها بعيدة العهد، ولو كنت اكتفيت عنها بامرأتي ريتا، لوجب علي أن أصوم صوم القديسين، وأنا رجل شهواني مولع بالنساء، أما حبيبتي هذه فتدعى جوزيفا، وهي جميلة الوجه، غضة الوجنتين، بارعة بالرقص، تخلب العقل برقتها، وتسحر القلوب بخلاعتها ... ولكن قد صرنا على باب الحانة وها أنا أدخل أمامك؛ لأدلك على الطريق.
وإذا بالخادم مسرع فأدخلنا إلى قاعة خصوصية، فأمره البارون أن يدعو جوزيفا مع إحدى رفيقاتها، فذهب الخادم وبعد هنيهة أقبلت جوزيفا تمشي الهوزلي، كأنها ترقص، وقبلته قبلة دوى منها البيت، ورأيت جوزيفا صغيرة السن، شقراء الشعر، غير عبلة، ذات فم أحمر كأنه قطعة ياقوت، فضمها البارون إليه وصرف إليها السمع والبصر وقال لها: أتسمحين لي أن أعرفك بكاتم أسراري الجديد المسيو مكسيم جوشران. - إذن سافر وليم. - سافر ليتزوج ذاك المجنون. - وأنا لا أهوى سوى المتزوجين نظيرك. - أما كاتم أسراري فإنه خير خلف لخير سلف.
فنظرت إلي نظرا حادا وقالت: إني أتشرف بمعرفتك، وأشكر البارون الذي قدمك لي.
أما رفيقتها فكانت خوخية اللون ذات مقاطع جميلة تامة، وعينين سنجابيتين، وكانت إذ كنت أنظر إليها تخلع أكف يديها وبرنيطتها حسب عوائد الباريسيات، فقال البارون لجوزيفا: إنك لم تعرفينا برفيقتك فالتفتت إليه وقالت: أعرفك بالمدموازيل كورلي دي فرنسوا، إحدى أعضاء لجنة الموسيقى، وعشاقها يسمونها كوكو للاختصار، وقالت لها: أعرفك بالمسيو جستاف فركنباك الصيرفي الشهير، وبكاتم أسراره المسيو مكسيم جوشران ... ولكن كيف لم يؤت بعد بالطعام؟
وإذا بالخادم داخل وفي يده ألوان الطعام فوضعها على المائدة، فقالت جوزيفا: والله إن بطني المحبوب لم يذق الطعام حتى الآن، فوالله لأملأنه من هذا الطعام اللذيذ فأجابها البارون: أراك تقسمين بالله مثل هنري الرابع فمنذ كم سنة تتبعين خطته. - من يوم قرأت تاريخ غرامه، وقد كان ملكا عظيما. فضحك البارون.
أما جوزيفا فكانت تشغل الكل بالحديث، وكانت زهوتها تتزايد من دقيقة إلى أخرى، وكنت أفكر في البارون، هذا الرجل العاقل كيف كان مسرورا بمغازلة جوزيفا، وكيف كان يحتمل مزاحها وسخريتها وامرأته من أنضر النساء وأجملهن، وأفضلهن عقلا وذكاء؟! وهو مع ذلك يخدعها ويهوى غيرها، ومع أن الله قد أمره أن يهبها قلبه، فقد وهبه لمن هي دونها، وإنما كان ذلك ليصدق قول القائل: «وللناس فيما يعشقون مذاهب.»
فقالت لي جوزيفا: كيف لا تمازح كوكو في حين ترى أن البارون يعطيك المثل؟! فأخذت أقص على كوكو أحاديث ونوادر أعرفها عن النساء، فضحكت ضحكا شديدا وسرت لبساطة كلامي، وضحك البارون أيضا، وقال: كنت لا أشك في مهارتك بهذا الفن، وكأنك كنت خجلا منا ، وإذا كان ذلك فنحن ذاهبان عنكما، فأجابته جوزيفا: نعم، إننا في حاجة لاستنشاق الهواء النقي، فأستودعك الله يا مكسيم، وأوصيك يا كوكو بتقبيل مكسيم؛ لأنه شاب لطيف جميل، ثم رفعت يديها كالكاهن وقالت: أيها الرب، الإله بالمجد والكرامة، كللهما، فليبارككما الرب الإله آمين.
وبعد أن ذهبا جعلت أفكر في وسيلة أتخلص بها من كوكو لأمضي إلى ريتا، فرأيت أن من المنكر أن أعامل ريتا بخلاف معاملتها، وأن من الواجب أن لا أدع لها سبيلا للغيرة والنفور، فقلت أتأذنين لي يا عزيزتي أن أزورك غدا أو بعد غد، فقالت بتنهد: ولكن كيف لا تذهب معي الآن؟ فقلت: إني قبل أن يدعوني البارون ضربت موعدا لإحدى السيدات، ويصعب علي أن أخلف موعدي، فقالت: لا بأس وإذا شئت أن تزورني غدا فأنا أسكن شارع جوروت دي مورو اتجاه الأوبرا، وإذ قد اضطررت لأن تفارقني الآن فقبلني إذن قبلة الحب والوداع.
فقبلتها قبلة من كل خد، ولكن لا أعرف مقدار الفرق بين قبلتها وقبلات ريتا، ثم أرسلت إلي كلماتها الأخيرة وقالت لا تنس ... واكتب إلي.
وإذا كانت الساعة لم تبلغ العاشرة بعد، ركبت عربة وسرت إلى شارع كوبنهاك، فلما وصلت رأيتها في انتظاري، وكانت أشبه بجندي على مقدم مركبه، تسرح النظر في الطريق الذي كنت مزمعا أن آتي منه، ولما رأتني قالت مغضبة من أين أنت آت؟ - قد تركت البارون وأتيت. - لم أسألك إذا كنت معه أم لا، بل أسألك أين كنت؟ - عند بنيون. - كنتم هناك ... أربعة؟ - كنا اثنين. - كنتم اثنين في اثنين. - إنك يا حبيبتي غير عادلة، وتجسمين الأشياء حتى لا تكاد تعقل. - أتظن أني أصدق كلامك؟
وكانت دلائل الغضب بادية على وجهها الحسن، وزفرات صدرها تدل على اضطراب فكرها، فاستلقت على المقعد واغرورقت عيناها بالدموع، ثم قالت: آه، ما أقوى حبك، وما أقسى قلبك! ليتك تعلم ما أقاسي في هواك.
فقمت إليها وجلست إلى أقدامها، وجعلت ألاطفها ملاطفة الشيخ العاقل لولده المريض، رجاء أن تتعزى بأطايب الكلام، فقلت: إنك غير محقة فيما تدعين علي يا حبيبتي، والبرهان على عدم وجود النساء معنا في البار، أني جئت في الساعة التي عينتها لي دون أن أتأخر ثم إلا أن قوة الحب التي تصلني بك إرادية، هي والعبودية التي كلفت بها أليست اختيارية، إذن كيف أراعي بوقت واحد الأمانة والخيانة؟ فإما أن أكون خائنا، وإما أن أكون أمينا، ومعاذ الله أن أخونك بعد أن وليتك على قلبي، فنهنهي دموعك إذن، واستنتجي من كل ما أفعل وأقول نتيجة واحدة، وهي أني أحبك ولا أحبك سواك، فارتاحت لكلامي واجتهدت في أن تبتسم، وقالت بصوت مترجرج: إذن اعذرني لاعتدائي عليك يا حبيبي، ولا تلمني على غيرتي عليك، فكل غانية تغار، وقد اعتدت من صغري أن أبث ما في قلبي، وإلا لذاب من الحزن والأسى لولا الزفرات والعبرات التي تخفف علي، وأنا قد جعلتك سيدي، وأصبحت أمتك، وتركت زوجي لأهتم بك وأنعم بحبك، وقد قال لي قوم: إن البارون يحب غادة من الغادات تدعى جوزيفا، فأجبتهم فليحب من يشاء، وإذا سمحت لزوجي فلا أسمح لك، بل أود أن تكون لي وحدي يا ملكي وسيدي، وأود أن يشتغل فكرك بي كاشتغال فكري بك دوما، وأود أن يكون حبنا أشبه بتلك القناديل المعلقة في الكنيسة، التي يزاد إلى زيتها دائما بحيث لا تنطفئ، وأود أن نكون كلانا عبدا للغرام، آه ثم آه، هل تحبني كما أحبك؟
فأقسمت لها أن حبي أعظم وأقوى من حبها، وتعهدت لها أن أرفض بعد كل دعوة من زوجها أو غيره على أنها وقفت بغتة، وقالت: إن قلبي يخافك ويتوقع غدرك، ولا يزال فيه أحقاد عليك تحول سروري إلى كدر فلندع ذكرها الآن لغد؛ فعل غيوم الأحزان تكون انقشعت وزالت من قلبي فأستودعك الله ... موعدنا غدا.
وبعد أن قبلتني قبلة الوداع، جلست إلى النار أفكر في الأخطار التي تتهددني، وفيما كان حب ريتا يهيئه لمستقبلي من الأخطار والأسواء ... ثم ذكرت الغادة التي تركتها حزينة كيلا أغضب ريتا، وفوات تلك الفرصة العزيزة، وأسفت أسفا شديدا؛ لكون هذا النهار الذي ابتدأ متبسما انتهى معبسا.
الفصل الثامن
عظم شأني في بيت فركنباك، وصرت كواحد منهم فالبارون يقول إنه يحبني أكثر من امرأته، وإنه لا يستطيع أن يفارقني دقيقة، وهذه تقول إنها تحبني، وإنها تموت إذا فارقتها.
وقد قال لي فركنباك أكثر من مرة: إنك يا مكسيم ألطف كل سكان الأرض وأذكاهم، وإنك عنقاء مغرب، وما أراه فيك من حب المفاخر، وشرف النفس والثبات، يكبرك في عيني، وأؤمل أن تبقى على اجتهادك في الشغل لأرقيك وأزيد راتبك.
كنت أجد صعوبة وتكلفا في إظهار الحب لفركنباك، وكثيرا ما كان يخطر لي أن أعاديه؛ لأنه زوج حبيبتي وأغار عليها منه كأنه غريب، ولكن ذلك ما عتم أن تبدد واضمحل، كما يضمحل الجليد من حرارة الشمس، وعدت لما كنت عليه من رقة الأخلاق وملاطفة فركنباك وممازحتي إياه.
وفي بعض الأيام ذبذب حاجبيه وضحك مني ضحكة معنوية وقال: أتعلم يا مكسيم أنك ماكر خداع؟ فذهلت وتولاني الخوف، وقلت بلسان متقلقل: لماذا؟ فقال: وعدتني مرة أن تنام مع حبيبتك كوكو، وقد اشتكتك هذه إلى جوزيفا، وقالت إنك تركتها وذهبت إلى غيرها، وعليه فأنا أحتم عليك أن تذهب إليها اليوم.
فوعدته بذلك وقلت في نفسي: لا بارك الله بمثل هذا السؤال، كم هاج فكري.
ونحو الساعة الخامسة انتهى الشغل، فأخذت الطريق إلى بيتنا، حيث ريتا بانتظاري، وكانت العادة عندها أن تضع لي علامة تنبئني بمجيئها أو بعدمه، وكانت علامة مجيئها ورقة زرقاء، وعدم العلامة كان علامة تغيبها، وكانت ريتا بانتظاري وراء الباب، حتى إذا دخلت تهافتت علي وقبلتني، وقالت: يا حبيبي، منذ قرن لم أرك فأين كنت وكيف أنت؟ ثم أخذت تهيل الحديث علي هيلا، وتسرد لي أقاصيص لم تستطع أن تسردها لي أمام زوجها، ونوادر لطيفة غريبة، فبرؤيتها كنت أرى ما لا يرى من أحوال الحب وغرائب المتحابين، بل كنت أرى صنم الحب مرفوعا ونحن من حوله ركع وسجود. •••
بعد أيام من ذلك أخذت أخلاق ريتا تتغير بسرعة غريبة، وانقلب حلمها إلى غضب، وأضحت صغائر الأمور تكفي لإثارة غضبها، وشكت ألما في الرحم وتعبا في الجسم، وكراهية عامة لجميع الأشياء، فعرض فركنباك عليها دعوة الطبيب فرفضت متعللة بأن ذلك عرض جزئي لا يهتم به.
وبينما كنا على المائدة في ذات يوم رأيناها معبسة كمن تغوص في بحور الأوهام، وكانت يداها الواحدة مسندة إلى الطاولة، والأخرى على جبهتها، فسألناها عما يؤلمها ولماذا لا تأكل؟ فأجابت: إن ذلك لضعف في المعدة، وبينما نحن في الحديث إذا بالخادم داخل وفي يديه قصعة فيها أخطبوط مغمور بالمرق الطيب، فلما رأته قالت: الآن آكل ثم قطعت قطعة كبيرة ووضعتها أمامها، وجعلت تأكل بشراهة كمن صام عشرين يوما، فقال لها البارون: تقولين إن معدتك ضعيفة! إذن لو كانت سالمة لكنت تأكلين الحجارة، فكفت عن الأكل بغتة، ثم نظرت إلينا وضحكت كمن لعبت دورا في المرسح، وقالت: أتعلم كيف ذلك؟ قال: لا، قالت: ذهبت إلى دار الخياطة لأقيس بدلة أعدها لسباق أوتيل، وفي عودتي مررت بدكان في شارع سانتونورا معلق على بابها هذا الأخطبوط، فاشتهيت أن آكل منه، ولقد طالما رأيت الأخطبوط على أني لم أشعر يوما بمثل ما شعرت عندئذ من الميل لأكل هذا الحيوان، وما زلت أنظر إليه حتى غلبت إرادتي على خجلي، فدخلت الدكان واشتريته، وأمرت البائع أن يرسله إلينا مع أحد خدامه، ثم خرجت من عنده محمرة الوجه، أكاد أذوب خجلا كعذراء خرجت من بيتها وفي يدها كتاب سفيه ألا تستغرب ذلك؟ - أستغرب ذلك؛ لأن عهدي بذوقك غير ما أرى، ونحن لم نر للآن من يأكلون الأخطبوط غير فلاحي القرى، وأما إذا كان ذلك منك دلالا وغنجا، فلا أدري. - دلالا كان أم غنجا، فأنا مستعدة أن أشتري منه مرة أخرى.
ثم صمت الكل وكأني بفركنباك كان غائصا في لحج الأفكار، كأنه يستقبل أمرا عظيما، وبينما كانت أبصاره تروح وتجيء من خلال النافذة، كانت ريتا لا تبدي حراكا ومعدتها تهضم الطعام شيئا فشيئا، أما أنا فلدى سماعي ما كان من أمرها مع الأخطبوط، ذكرت ما يقوله الناس من أن صدور مثل هذه الشهوة من النساء يدل على الحبل، وقلت في نفسي: هل إن ريتا حامل؟ وهل إن الصورة التي نشتهيها لسعادتنا تصورت وكانت؟ وهل إن إكليل حبنا قد صيغ وتجسد ...؟ وهممت أن أسألها في المساء إذا كانت حاملا.
ولما كان المساء أسرعت إلى البيت، فلم أرها ووجدت هناك كتابا على الطاولة تقول فيه: إن البارون اصطحبها معه للتياترو وتأمرني أن ألاقيها إلى هنالك، فساءني ذلك بعد الانتظار الطويل، وقمت من ساعتي قاصدا التياترو لا حبا بالروايات ولا قصد ترويح النفس، بل لأراها وأسألها عن صحتها. •••
الوهم إذا استولى على الأفكار قد يريها الأشياء بخلاف ما هي، ويصور لها وجوه الغير على خلاف كيانها، ولا عجب فقد يعرض ألا تتفاهم القلوب بلغة الملامح، وبيان ذلك أني لما اجتمعت بفركنباك في النهار التالي رأيت وجهه معبسا، وكلامه جافيا، فخفت وسألته إذا كان حدث مني ما كدره، فقال: لا، فعلمت إذ ذاك أني لست في شيء مما أتوهم، ونسبت عبوسته لأمر داخلي، وقلت لو كان عالما بما بيني وبين امرأته لما أبقاني حيا وخصني بنعماه وحبه، ولو كان يعلم شيئا من ذلك لما أبقاني أستنشق الهواء بعد أن أمت شرفه، هكذا الأوهام تقلق الأفكار، وإذا زالت يضحك المرء من ضعفه.
وفي نحو الساعة الحادية عشرة دعاني فركنباك وقال: اذهب إلى البارونة وأخبرها أن الطبيب درتيل يعودها اليوم، فسررت جدا لهذا الخبر، وذهبت من فوري إليها وأخبرتها فسرت هي أيضا، وقالت: نعم إنني في حاجة إلى أهل العلم والخبرة؛ لأني أشعر بانقلاب محسوس في صحتي، فقلت: لعلك حامل يا ريتا؟ فابتسمت وقالت: من أين لي ذلك وأنا عاقر لا ألد، وقد مضى علي في العقر اثنتا عشرة سنة؟! فقلت: سنتحقق ذلك؛ لأن الطبيب درتيل خبير ماهر، فقطعتني عن الكلام وقالت: لم لم يدع غير درتيل، فإني لا أحبه، فقلت: إنني لأعجب من إساءة ظنك به مع ما نال من الشهرة والصيت البعيد، فأجابت: إني أبغضه بصفته رجلا لا بصفته طبيبا، وقد جرى لي شأن معه يجب أن أطلعك عليه، وهو أن درتيل كان في حداثته مع البارون في مدرسة واحدة، وبعد زواجنا كان يزورنا من وقت إلى آخر، ثم أكثر زياراته إلينا حتى اغتدى عزيزا لدينا يحدثنا بشئونه ونحدثه بشئوننا بلا كلفة ولا استحياء، كأنه واحد منا، وبينما كنت ذات يوم أحدثه كالمعتاد رأيته يخالسني نظرات كأنها غرامية، استجلبت منه ما يجرح إبائي، وفي يوم آخر جاءني وكنت وحدي فانكب على أقدامي وباح لي بغرامه وشرح هواه، وهم أن يضمني إلى صدره فنفرت منه نفور الظباء، وأشرت بيدي إلى الباب كمن أطرده فبكى وتنفس الصعداء، واستسمحني، فقلت: أسامحك بشرط أن تقلل من زياراتك إلينا، وأن تكتم ما جرى بيننا الآن. - وهل أطاعك ولم يخالف؟ - أطاع قسرا ولو لم يطع لشكوته إلى البارون الذي كنت أحبه إذ ذاك، وأظنك تعجب كيف انقلب حبي له بعضا، وكيف انصرف ذاك الحب إليك. - ألم يعلم البارون بعد ذلك بأمره؟ - لا. - ودرتيل. - كما برد الماء المغلي، أو كما انخفضت درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر، فاغتدى كلما دعاه البارون لزيارتنا تنصل عذرا. - أظنك الآن تستقبلينه ببشاشة وطلاقة؟ - إن هفوة أتاها منذ قرن لا تقتضي كوني أعبس فيه اليوم وأجافيه، أما إذا بدا منه ما يخل بالأدب فإني أطرده دون مرية. - وأي ذنب عليه إذا غلبه هواه القديم؟ - كنت يومئذ أحب زوجي وأخاف على ولائه، واليوم أنا أحبك وأخاف على ولائك.
وبينما نحن في الحديث دخل البارون علينا ويده بيد درتيل، فقال لها: قد أتيتك بصاحبك الناكر الجميل، فاعتني بأن تؤدبيه، وقال درتيل بعد أن أحنى رأسه: قد ألح علي حضرة البارون بالحضور إليك، وقال: إنك طلبتني منه مرارا فأسرعت إطاعة لأمرك. - سبحان ربك يا درتيل فقد جعلك أن تغازل النساء شابا وكهلا، فمثل ما رأيتك منذ عشر سنوات أراك اليوم. - وأنا أراك اليوم أجمل وأنصع منك إذ ذاك.
فقال له فركنباك: اسمح لي أن أقدم لك كاتم أسراري المسيو مكسيم جوشران ابن أخ المسيو فرنسوا جوشران، الذي كان معنا في المدرسة، أتذكره؟ - ذاك الولد الأشقر الذي كان يخالطنا كثيرا ...؟ أذكر أنه كان مولعا بالكتابة والخطابة. - هو نفسه وقد اجتمعت به في موندور في العام الفائت ... فهو كما كان من قبل وسيم الوجه ضحوكا.
فقال لي درتيل: إنني أتشرف بمعرفتك أيها العزيز؛ لأنك ابن أخ صديقي جوشران، وكاتم أسرار حضرة البارون، فلم أجبه وشعرت بكراهية له، وكان ينظر إلي بعين مستكشفة، ويلاحظ حركاتي وأنا أخفي شعائري، إلى أن قمنا إلى المائدة، فجعل درتيل يتكلم بما وسع عقله من العلوم والآداب فلم يدع قصة ولا نادرة، وبالإجمال فإنه برهن على اضطلاع وعلم وخبرة، ودل على أنه رجل متفنن.
وبعد الغداء قال لي فركنباك بصوته الأجش: انتظرني في غرفتي إلى أن أعود.
فدخل مع درتيل إلى غرفة ريتا، وأخذ الأخير يفحصها وبعد هنيهة عاد إلي كالصاعقة، وقال: هيا بنا، وكانت عيناه تتقد ورجلاه تتسابق بالمشي، وكأنه كان يفكر في أمر عظيم، فقلت: ماذا يقول الطبيب عن البارونة يا مولاي؟ وهل هي في خير؟ - لو تعلم يا مكسيم؟ إن صحتها جيدة وزد عليها أنها حامل منذ ثلاثة أشهر.
فهنأته بحرارة فقال: أنا أعلم أن حبك خالص لنا، فلا أكتم عنك إحساساتي ... إن سعادتي بلغت التمام ونلت اليوم ما كنت أعطي نصف مالي لنيله، فلا ريبة في أن وجهك كان سعدا علينا؛ لأن آلاء الله جاءتنا بوجودك من وراء الآمال ... وإني أعتقد ذلك كل الاعتقاد ... أنت في صحبتي اليوم إلى المطعم حيث نتناول الطعام مع جوزيفا وكوكو ... لا تتمنع ... - إن عندي شغلا في هذا المساء وليس في إمكاني قبول طلبك. - من منا الذي غرس في ريتا هذا الغرس المثمر أنا أم فركنباك ...؟ هذا الفكر عذبني زمنا طويلا، وكان قلبي يقوم ويقعد كلما ذكر فركنباك الأبوة أبدى سروره بالولد الآتي.
فاسترسلت لشجن عميق وأفكار مؤلمة، ولم يعد يخطر لي غير أن فركنباك زوج ريتا حبيبتي، وربما كان الولد الآتي ولده.
الفصل التاسع
وأخذ بطن ريتا يكبر ويتمدد فضاق عليها المشد، وبطؤت حركتها، وتحرك الجنين في بطنها وزال ماء الجمال من محياها، وامتلأت بشرة وجهها ببقع غيبت بهاءها، وأفقدتها دلالها السالب قديما، وملاحتها وحسنها الجاذب، بل غيرتها من قالب إلى قالب، فحزنت لرؤيتها، واستأت لعلتها، وغمني منظر الملاك الكريم راضخا تحت وقر الآلام، يصد عنه الرائي بعد أن كاد يقرئه والسلام، على أني مع شفقتي عليها لا أعلم لما نفرت منها وكرهتها نفسي ... لعل ذلك لأجل الولد الذي كان مزمعا أن يربطني بها برباط لا ينفصم.
وهذه المرة ليست كتلك المرة، فقد خافت من تنافرنا القبل وهجرتنا، ولو لم تأت ظروف تدعو لاجتماعنا، لأفضت بنا الحال إلى نزاع طويل وإلى شحناء عبوس.
وكانت ريتا لم تألف ابتكارا من نومها، فاستيقظت ذات يوم على غير عادتها، وشكت ألما مبرحا في الكلى، فدعوا الطبيب فقال بعد فحصها: إن حالتها تنذر بالخطر، فلطم البارون على وجهه، وندب حظه وبكى حتى لان الحديد، وذاب الجليد، على أن ريتا نقهت من مرضها بعد زمن قصير وبشر الطبيب بزوال الخطر عنها، فقال البارون: هذه أيضا من بعض أسعاد القدر، وكنت في مرضها أؤانسها وألاطفها؛ لتطيب نفسها وتقر عينها.
وكانت تتقلب ظهرا لبطن كالصل (الثعبان)، ومع ما كانت تؤلمها حركة ابنها كنت تراها راضية صابرة، كمن تصبر على الآلام؛ رجاء أن تبلغ المرام، وكان مرضها سببا لخلف المواعيد بيننا.
وكان الطبيب يزورها مرات في كل يوم، فيجلس إلى سريرها ويتلو عليها أخبار اليوم، ويقص على سماعها فكاهات ونوادر غريبة، تخفف عنها وطأة الحب.
وما زالت الأيام تجري في مجراها، والليالي تمر بالنجوم الضاحكة، فتضحك من صفاها، وريتا تتنازع البقاء إلى أن أزف زمن ولادتها، وصار منها أقرب من الجفن إلى العين، فثقلت حركتها ثقلا مبينا، وكنت تراها على الغالب جامدة البصر، كأنها تنظر إلى منظر بهي، ومنعت عنها الناس فأضحت غرفتها كوادي الموت، واستولت عليها رهبة السكون.
وفي صبيحة ذات يوم أبكرت إليهم، فراعني ما سمعته من أصوات غريبة وحركة رواح ومجيء، فسألت البارون: هل ولدت؟ - لا يا مكسيم، لم تلد بعد وإنما أنت تسمع صوت أختها فقد قدمت بالأمس من انجة، وعهدنا إليها تدبير المنزل مدة، وهي امرأة في غاية الرقة وقد حوت لطف العذارى، وخير ما اقتنت النساء من الآداب.
ولم ينته من حديثه حتى فتح الباب وخرجت منه امرأة جميلة؛ شعرها الأسود مرسل على كتفيها بأجمل ما توجد الطبيعة، فقدمني البارون لها، فقالت: قد وصفتك ريتا لي وصفا يستحيل علي ألا أعرفك معه، وما لك عندها من الود المصفى يدعوني لأن أخطب لك ودي وأصفيه. - أشكرك يا سيدتي على لطفك والتفاتك إلي. - ما علمته عنك يجعلني لا أشك بلطفك، والآن اسمح لي أن أذهب إلى المطبخ؛ لألقي نظرة. - الناظر؟ - أمهلوني خمس دقائق وأعود إليكما بالحليب والخبز فتأكلان.
ولما ذهبت قال فركنباك: ما رأيك يا مكسيم، إن هذه المرأة أجمل من أختها ...؟ لكن الحذر من ابنتها فهي فتانة، ومع أنها لا تزيد على الثامنة عشر من عمرها، فنظراتها تسحر وحركاتها تأسر، وإياك أن تتمادى معها؛ مخافة أن تحملك أمها على الأدهم، وتعاقبك ولا ترحم، إلا إذا كان لك مقصد حميد، واعلم يا مكسيم، أنك إذا اقترنت بها يكون طالعك سعيدا، وعمرك مجيدا، وتكون نلت أجمل العذارى، وأكملهن، وأفضلهن، وإذا كانت فقيرة بلا صداق، فأنا أمهرها على قدر الطاقة والاستحقاق، وقد كتبت لعمك أقول: «عندك ابن أخ وعندي ابنة أخت فما رأيك ...؟» وأظن أنه لا يمانع ولا يحول دون مرادي.
فسررت بجونريت سرورا بالغا النهاية، لا لما ذهب إليه البارون؛ بل لأني غدوت أرى في البيت غير وجه ريتا.
وبينا الأفكار تثور ودمائي تقوم وتقعد دخلت مع ابنتها، فقالت لي: أقدم لك ابنتي لويزا وقالت لها: أعرفك بالمسيو مكسيم جوشران، كاتم أسرار عمك.
وإذ ذاك دعانا الخادم للطعام، فجعل البارون يده بيد لويزا، وقال: اعط يدك لجونريت.
كان بين الأم وبنتها فرق عظيم، فهي أشبه بريتا أختها، لها مثل صوت تلك ومثل حركاتها ومقاطعها، ومع أن عمرها يفوق عمر تلك بعشرين سنة فهي لم تزل بغضاضتها.
أما لويزا فهي على قول أمها أشبه بأبيها، ذات عينين كعيون الغزال، ومحاسن أقلها الذكاء والإدلال، وكأن الآداب تمثلت فيها والحلاوة استجمعت في فيها، بل كأنها أعطيت هيبة أبيها وجلاله، فما يراها الرائي إلا ويحترمها ويحفظ أدبه أمامها، فأكرم بها حسناء دون أن تتحسن وردية لم تتلون ...! هواك يا عذراء نائم في جنانك، ورائده كامن وراء أجفانك! فما هي إلا نظرة فتنقلب نظراتك وتتغير طباعك ورغباتك.
فقال البارون لجونريت: كيف ريتا اليوم؟ - صحتها اليوم أحسن منها مساء أمس، ولا يمضي أسبوع حتى ترى لك وريثا. - ليت في الناس من يجعل هذا الأسبوع ساعة، فأعطيه مائتي ألف فرنك. - هذه منك غلطة تعد بألف. - كيف؟ - لأن الزمان - كما قيل - هو النسيج الذي تحاك منه الحياة، فينبغي أن نحرص عليه ونستفيد منه. - هذا الفكر ليس لك يا جونريت فهو لفرنكلين. - نعم له، وإنما استعرته لأرد على رأيك الفاسد. - كلامك اليوم من نضار، فسأمسك لساني من الآن فصاعدا. - مائتا ألف فرنك ...؟ نحن نعلم أنك لا تتعب في كسب المال ...! - مثل الكيماويين أليس كذلك؟ سلي مكسيم يخبرك إذا كان المال يأتي من نفسه إلى صندوقي ...؟ وأنت يا لويزا هل عندك مقاصد تتعلق بمجيئك إلى باريس؟ - نعم، أن أسمع الموسيقى وأتمم دروس اللغة الإنكليزية.
فقلت لها: إني أقدم لك إذا أذنت كتابا أبلغ ما كتب في هذه اللغة.
فالتفتت إلى أمها التفاتة معنوية، كمن تطلب إليها إذنا، فقالت أمها: لا بد أن تلك الكتب أدبية تفيد الأخلاق والعوائد. - إن الكاتب لشلي هو شاعر الملكة فيكتوريا، ولا يمكن مثل هذا الشاعر إلا أن يتأدب في كتاباته. - لا بأس إذن.
فقال فركنباك: علمت يا لويزا أنك لا تحسنين الضرب على البيانو، فهل تشائين أن آتيك بمدرس يعلمك إياه؟ - هذا كل ما كنت أتمناه، وكأنك يا عماه تعرف ما يدور في أفكاري. - كوني قريرة وأؤمل أن تعي دروسك جيدا كيما تحسنين الضرب عليه، فتسترضين بعلك بعد زواجك، أليس كذلك يا مكسيم؟
فدخلت عجوز وهمست في أذن جونريت فقامت هذه من ساعتها، وقالت: ريتا ترغب في أن تراكما قبل أن تذهبا للمكتب، فذهبنا إلى غرفتها، وكانت جالسة على المقعد بثوب كبير منحل الأزرار، مملوء بالنقوش والتصاوير، ولما أن رأتني همت أن تقف فخانتها عزيمتها، ثم جلست متعبة، فقالت: أتخونني قواي حتى لا أستطيع الوقوف؟ ترى دنا أجلي أم ماذا يا رباه؟ متى ينقضي هذا العذاب، فخفق قلب البارون لهذا الكلام وتولاه الحنان، وشاء أن ينشطها ببعض كلام عذب فخانه اللسان، فانحنى عليها وقبل خدها وجبهتها، ومسح عبرة سكبتها عينه.
على أنها استجمعت قواها في يده ومدتها لي فأمسكتها للحال، فضغطت عليها ونظرت إلي نظرة تترجم عن شعور قلبها، فشعرت إذ ذاك بانفعال أشق ما قاومت حياتي، وأدركت الفرق بين حطتي ورفعة هذا الصاحب الذي ما زال يبرهن لي عن حبه والتفاته، هذا الصاحب الذي ما فتئ يتعب في مستقبلي ليحققه ويضمنه، فكان جزائي له سلب شرفه، وسلب امرأته على أني نويت أن أصلح الشرف الذي دنسته، وأن أعوض عن غلطتي بإخلاص ثابت، لا تبدده الامتحانات، وأن أشتري سقوطي بسلوك حسن، وأن أمحو من فكري ذكرى غرام جر وراءه ندما وحزنا.
وبينما أنا في حل ومرتحل وأفكاري تصعد من لجة، وتنزل في أخرى، دخل الطبيب ضاحكا كعادته فسلم علينا.
فقال لها الطبيب: كيف أنت اليوم، فأجابت: إني منحطة القوى خائرة، فهل ترى زمن الولادة بعيد؟ - أقرب من قاب قوسين، ويجب أن تستحضري المرضع اليوم. - لا لزوم لمرضع فأنا أرضع ولدي. - الرضاعة تتعب، ومن كان مثلك يألف الاجتماعات والتنزه فصعب عليه أن ...! - قد حسبت لذلك حسابا مدققا.
طالت زيارتنا لها فظهرت عليها دلائل التعب، وكان ثوبها حين تتنفس يرتفع وينخفض مرة بعد مرة ببطء، كأنما تلاعبه نسيمات عليلة.
فودعناها وخرجنا فقال درتيل لفركنباك: أرى في كل ما تقول البارونة وتفعل تكلفا وتصنعا غير مألوف، ولا أعلم من أشار عليها أن ترضع ابنها. - الشيء الطبيعي يبدو أحيانا غير طبيعي، ولا تحسبني أقل شعورا منك، فقد أدركت ذلك منها ... ولكني أعجب كيف أنك تسألني عن حوادث كهذه، أسرارها عند الطب والأطباء؟! - نعم ... لكني أعني بذلك أنك ستصوم حولا كاملا عن النساء. - إذا جعت ففي الحانات مآكل لذيذة. - ذاك أمر آخر، والآن أنا ذاهب.
آه، كم عذبني هذا الطبيب الملعون، وإني لأقسم أن له نظرا ثانيا غير نظره يرى به الخفايا، فلما ابتعد تسرح همي وخف عنائي، وتنفست تنفس الفرج والراحة.
فقلت لفركنباك: إن لهذا الطبيب أفكارا مستغربة. - وهو مع ذلك سليم القلب، ناصح السريرة، وإنما يقول ما يقول؛ لأنه من السوفسطائيين؛ أي من الفلاسفة الذين يشكون في كل شيء، فأرباب هذا المذهب أشبه بتلك الأيدي الجميلة الملعونة التي تعطل ما تمسه، ولهم ضحكة غريبة تؤثر على الأفكار أيما تأثير ... إن ضحكة جوزيفا أحب إلي من كل شيء ... لكن كيف حال حبيبتك كورالي؟
فاضطربت وتلعثم لساني مما أدرك منه أني لم أهتم بها.
فقال: ترى من أية جبلة خلقت؟ وهل إن ما يدور في عروقك مخلوط بماء مبرد ...؟ ما لم تكن حبيبتك من اللاتي لا يمكن تسميتهن ...؟ آه منك يا لص، قل هل هي جميلة؟ ومن هو ذاك الرجل الذي تسرقه؟
فلم أدر بادئا ما أقول، وكأن جذوة في كل خد من خدي اتقدت ثم قلت: كيف تشاء أن أبوح بسر اؤتمنت عليه ...؟ ولكني قد صرفت أفكاري عن تلك المرأة التي أحبها تماما، والدليل على ذلك أني من الآن أقدم ذاتي لكورالي، وأكون بخدمتها متى تشاء.
فترنح سرورا وقال: هذا ما يعد كلاما.
الفصل العاشر
جئت المكتب في ذات يوم متأخرا على خلاف عادتي فلم أجد البارون، فسألت لامبون عنه فقال: لا أدري ما الداعي لتأخيره، وأظن أن الحادث العظيم قد تم أو كاد، فقلت: وأنا أظن كذلك، فهل لك أن تعينني على إرسال البريد المستعجل؟ ثم أذهب وأستعلم.
وبينما كنا في منتهى الإكباب على الشغل دخل البارون من الباب تلوح عليه علامات السرور والفرح، فضمني إلى صدره حتى كاد يخنقني، وقال بصوت يقطعه الحنان: صبي، آه يا مكسيم يا ولدي العزيز؟ ما أسعدني، لي ولد، لي وريث، أتسمع؟ لي وريث ، ما أدنى الإسعاد إلي وما أسخى نعمى الأيام علي!
كان يبكي ويضحك معا، وكنت أشعر أن يده العريضة تضطرب فوق كتفي.
فقلت في نفسي لتراع السماء من آثامي: كيف تمحى من مخيلتي ذكرى أيام قضيتها بالفسق، وهتك أعراض الناس؟ وهل إنها تزول وفي الوجود ولد ربما كان من دمي؟
فكنت في حيرة كل حيرة دونها، ولم أجد ما أقول له، غير أن شدة الحنان جعلته لا يدرك ارتباكي.
ثم استلقى على مقعد وامتلأت وجنتاه دما فقال: كنت عند جوزيفا، ولما جئت البيت نحو منتصف الليل سمعت فيه حركة غير عادية، فدعونا درتيل فأسرع إلينا، وجعل يداويها ويعتني بها، وقبل الفجر اشتدت الأوجاع عليها، فبكت بصوت عال وانتحبت، حتى كاد قلبي يذوب وكنت لا أنام ولا أسكن، أمشي في البيت ذهابا وإيابا مشية أسد سائر.
وكنت من هنيهة إلى أخرى أتسرق إلى غرفتها؛ عساي أسمع غير البكاء والعويل، فتارة أنظر من الشباك، وطورا من ثقوب الباب، وآنات ألقي إلى زجاج النوافذ جبينا يتألق بالعرق، ولو كنت بليلي إذن لرأيت بأي شكل مرت علي ساعات الليل، وفي الصباح جاءت جونريت تتكلم ملامحها عن صعوبة الولادة بأفصح من لسانها، فقالت: «لم تلد بعد، ويقول الطبيب: إن موضع الولد في الرحم غير حسن، وإن حالتها تنذر بالخطر، ولكثرة ما تؤلمها الولادة اضطر أن يعطيها جرعتين من المورفين لتخفيف آلامها.» فاحكم يا مكسيم على حالتي إذ ذاك، فقد يئست من نجاتها، وقطعت الأمل منها ومن طفلها، وإني لأعجب من بقاء عقلي سالما بعد ما تولاه من الاضطراب، ونحو الساعة التاسعة اتكأت على المقعد تعبا، واجف القلب، قليل الرجاء بحال من سار إلى المشنقة، وقد رأى الحبل مدلى، وما كدت أغمض غمض طرفي حتى دخلت جونريت علي بسرعة وقبلتني بفرح وقالت: «صبي! صبي! قد ولدت ريتا صبيا بعد أن كانت في أشد الخطر.» وقالت: «انظر ابنك.» وكانت عيناها تنهمر منهما الدموع، كما يجري من ينبوع صاف، فبكيت لبكائها وجرى الدمع رغم قيادي ... إن الدموع تسكن الأحزان وتطفئ النيران.
وبينا فركنباك يقص علي القصة، غلب الحنان علي فاغرورقت عيناي فمسحت الدموع عنها، وقلت: أهنئك يا مولاي بوريثك، وأسأل الله أن يجعله من أولاد العمر والسلامة ... قد فضضت البريد في غيبتك مع لامبون. - نعم ما فعلت، وأرى الآن أن تعهد إلى لامبون إتمام الشغل، وتذهب معي إلى حيث نقضي بعض المهام الصغيرة، وسأفكر غدا بأن أحيل عنك جزءا من الأشغال وأصرفه إلى غيرك.
فتركنا المكتب وذهبنا إلى الحانة، فجلسنا على المائدة، فقال البارون: إذا كنا لا نأكل هنا، فإنا لا نأكل اليوم؛ لأن جميع أهل البيت منشغلون بريتا وطفلها، ولم يهتم أحد منهم بالطعام.
ثم أخذ قطعة كبيرة من الخبز ووضعها في فيه مرة واحدة، قائلا: سأسميه هنري، وأجعل عرابته جونريت، وسأرى فيمن يكون عرابا له، أشكرك اللهم فبعد أن كانت سلالتي على وشك الانمحاء، وبعد أن كان اسم فركنباك على قيد شبر من الفناء، عادت السلالة فنمت، واغتدى لي ولد يرث ما عندي من الأموال الطائلة والخيرات الجزيلة.
فلم أجبه وتركته يعوم ما شاء في بحور الخيال والمسرات، وإذ رأيته يلتهم الطعام التهاما قلت: إن المسرة بنت عم الشراهة، فحيث توجد تلك تأتي هذه. - ذاك أمر واضح، ومتى ترعرع هنري أتبنى طفلة من بنات الفقراء وأجعلها معه مدة حداثته ليستأنس بها.
وبعد الغداء قصدت بيت فركنباك لأستطمن عن صحة البارونة، فدخلت وجلا، مضطرب الأفكار؛ خائفا من أن تكون جونريت وقفت على سري، وعلمت بما ندفن في طوايا الكتمان، وكان خوفي منها لما رأيتها عليه من الذكاء والدهاء، فإذا بها جالسة على كرسي مستطيل والتعب بالغ منها، والنعاس حائم على جفنيها، فألقيت عليها السلام، فمدت لي يدها فأمسكتها، فإذا هي رخوة باردة، فقالت: قد رفضت اليوم زيارة كل الأصحاب إلاك، فلا تؤاخذني إذا لم أقف؛ لأني كليلة لم أنم غرارا. - أشكرك يا سيدتي على هذا الالتفات، وأشكرك أيضا لاعتنائك الزائد بالبارونة ريتا. - إني أعلم بكل ما تضمره لأختي من الحب والانعطاف، وكأنك بهذا الكلام تسألني عنها. - نعم، لقد قلت الحق، ولم يخب ظنك، فأنا أحب البارون أكثر منها؛ لأنه كان سبب سعادتي، وإيذانا بمننه قد أتيت الآن لأهنئه، وأبث له عواطف قلبي وشعائر إخلاصي، فأرجوك يا سيدتي أن تنوبي عني لدى البارونة بإهداء التهاني. - لا بد أن فركنباك شرح لك كيف كانت ولادتها، وبشرك بالنتيجة، وقد كدت بالأمس لا أصدق أنها تعيش على تلك الآلام، وتسلم من تلك الأخطار ... أما درتيل فقد سحر الألباب النافرة، وأشخص العيون الزاجرة بما أبداه من الدربة والمهارة، فكنت تراه يسخر العلوم لإبادة الأخطار، فكأني به العلم تجسد في إنسان، وقام بشكل جثمان، ومجمل القول أنه تعب عليها تعب إنسان يهواها ويظن بقاءه ببقائها.
وسكتت هنيهة ثم قالت: ولم أزل أذكره كيف جاءني بغتة، وقال لنا النصر ...؟ لنا النصر، صبي؟ واحتمل في يديه الطفل الرخو مستهلا وقال: آه ما أجمله يا سيدتي، وما أبرع البارونة في إتقان مصنوعاتها! أتحب أن تراه يا مكسيم؟
وقبل أن أجيب ضغطت على زر الكهربائية فدخل الخادم. - يا جان قل لنعمة تأتي بالولد.
وكانت نعمة مهابة، قليلة ماء المحيا، كريهة المنظر، قبيحة الشكل، إذا رآها المصلي كفر، وإذا آنسها الشيخ نفر، وهي إنما دعيت بأمر الطبيب؛ لما اشتهرت به من ملاطفة الأطفال، وحسن إرضاعهم، فدخلت نعمة وفي يدها لفائف من حرير ناعم، مغشاة بالنقوش المذهبة، يتحرك من خلالها رؤيس كرأس النعامة، فأخذته جونريت من نعمة بكل تحفظ وقالت: انظر يا مكسيم، انظر الطفل الحلو ... أيكون شيء في الدنيا أجمل من هذا الشاروبيم ...؟ خذ قبله.
أما حضور هذا الطفل فلم يحدث بي الانفعال الذي كنت أخشاه، بل نظرت إليه نظرة شماتة واستخفاف، كأنه مهان مكروه، على أني بقوة الطبيعة انعطفت إليه وقبلته، وبعد ذلك أعطيتها إياه فأعطته لنعمة.
وإذ كانت قد طالت زيارتي لها هممت بالذهاب، فسألتني أن أبقى أيضا وقالت بصوت ألطف وألذ ما يكون للأسماع: لا، لا تخف أن تكون زيارتك مجلبة لإقلاقي، إذ لو كان ذلك لكنت أول من يفتح لك الباب ويرجوك الذهاب، وبما أن ريتا الآن نائمة فقد أمرت الخدام أن يعلموني إذا استيقظت، ومن هنا إلى هناك نستطيع أن نتحادث مليا ... وقد مضى على قدومي إلى باريس خمسة عشر يوما، لم تمكني الظروف في خلالها أن أجتمع بك على حدة؛ لأظهر لك ما ألهمتنيه أخلاقك المرضية من حبك واحترامك، ولا أعلم ما يكن لنا المستقبل، وما تضمر لنا الليالي ولعل هناك خيرا ... وأطلب إليك أن توالي زياراتك إلينا، وتجعل الحب متبادلا، وأنت تعلم أن البارون وإن كان مسنا فله عوائد الشبان وأخلاقهم، فبينما يكون في المنتزهات والنوادي، نكون نحن في البيت نقلب الطرف في السقف والحيطان، فلو كان عندنا في مثل هذه الأوقات شاب أديب نظيرك، لحدثناه مليا وقرأنا معه كتبا وأقاصيص شتى. - إني أقبل طلبك شاكرا، وأعدك بموالاة الزيارات، قلت هذا ثم ودعتها وذهبت ... وقد أدركت من مجمل أقوال جونريت وحديثها أن لها مقاصد هناك تخفيها، وقلت في نفسي: يظهر أن البارون حدثها بمسألة زواج بيني وبين بنتها، فالآن أفهم معنى تلك النظرات التي كانت تصرفها إلي، والآن أدرك الفرق بين معناها والمعنى الذي نسبته لها، والآن برح الخفاء، وتبدى الضياء، والآن أفهم سر استقصائها عني واستطلاعها أحوالي.
الفصل الحادي عشر
لم تقض ريتا زمنا طويلا في النقاهة؛ بفضل قوة الحياة التي كانت فيها، ونشاط طبيعتها الذي يلوح أن دور الأمومة ضاعفه وزاده قوة، حتى إني أول مرة رأيتها بعد بللها انفعلت من الانقلاب الذي طرأ عليها، فإن وجهها الطلق قديما مما أحالتها الولادة اغتدى وهو أكثر مهابة ووقارا، ونور عينيها المتقد سابقا أصبح وهو أقل اتقادا، وأضحت بطيئة الحركة متسعة الصدر. نعم، إن الأمومة لم تقل جمالها الباهر، لكنها نسخت مجموعه وأولته شكلا آخر.
فبادلناها عبارات التهاني المألوفة عند حصول مثل هذا الحادث السعيد، وحينما كنت أراها مع أختها وابنة أختها لويزا، كنت أقدم لها من التهاني المستعملة في الحديث العادي شيئا كثيرا، على أني كنت أرى في ابتسامتها بلاغة لا أغتر بها، وحين كانت تضغط على يدي ذاك الضغط العصبي المتقطع، كنت كأني أسمعها تنشدني أنشودة الغرام.
فأخذت على المائدة مكانها الأول، وبينما كنا نتناول الطعام كانت تحدثنا حديثا مفعما بالمزاح، يشف عن سرور يبلغ المنتهى، فهل هذه ريتا التي أعرفها ...؟ وأين تلك الكآبة وذاك الشجن؟ وأين ذاك البلبال وذلك الدلال ...؟ كل ذلك ارتحل ليخلي المحل لهدوء تام وسرور متناه، واعتدال بالغ التمام، وقد كفى لإحداث هذه العجائب الكثيرة ولد واحد.
فسألها البارون: كيف عافية الطفل اليوم؟ - على أحسن ما تشتهي له، وقد أرضعته منذ هنيهة ونام. - مثل سكران بيده زجاجة؟
فقطعته جونريت قائلة: دعنا من هذا المزاح.
فقالت ريتا: يا ما أميلحه طفلا لا يسبب لي كدرا! هو كنز بل جوهرة.
ولما أن أتمت فصل وصف ابنها سكتت؛ لأن الولد لم يكن يبلغ شهرا من عمره، وكان يستحيل عليها أن تصف أكثر من محاسنه الطبيعية؛ لأن الباقي كان مجهولا.
ثم قالت: إن لعينيه السوداوين حلاوة المغازلة، وكلما نظر إلي مدهوشا أو ممازحا، أشعر بجزع يتولاني كأنما مهجتي تذوب، وإن لشعره نعومة الحرير ولون الذهب، وكلما أمسكته أشعر برعدة، وإن لأظفاره الوردية شكل تلك الأصداف التي تقذفها الأمواج إلى الكثيب، وإن جسده الصغير الذي أغسله بالعطر عشر مرات كل يوم، يحرك في فكري ذكرى بنبينو، الذي كان أبي يريني صورته في كنيسة ميلان، ثم إنها قطعت هذا الحديث بغتة، وقالت: رأيت فيه خللا في التكوين، فإن بنصر رجله اليسرى مفقود، وقد رآه الطبيب فقال: لا بأس عليه من ذلك فهو لا يؤثر على معيشته.
فاضطربت لهذا الخبر؛ لأن البنصر المذكور مفقود مني، وقد طالما رأيت والدتي تسأل الأطباء عما إذا كان يضرني في كبري، وتأكدت ثمة أن هنري فركنباك هو ابني بلا مراء.
هل أستطيع بعد التشكيك في أبوة زنائية ...؟ وهل يمكنني بعد أن أقيل من طريقي عثرات فعل فظيع وحشي أتيته ...؟ لا، لا فإن لي معذبا من قلبي لا أستطيع معه التجاهل؛ ولكثرة ما اشتدت علي الأوهام نسيت الغداء، فصاح البارون بي قائلا: في أية السيارات يسير الآن فكرك ؟ أفي عطارد أم في الزهرة؟ أم ترى الأرض أدنى من قدرك منحطة تحتك فتطلب ملأ أعلى؟
فاعتذرت بما في وسعي على إخلالي باللياقة، ولا أشك أن ريتا أدركت سر ما يحرك دماغي، ولا بد أنها حسبتني أفكر في غرامها، وربما حسب البارون أنني أفكر في كورالي، ومن المحتمل أن مدام جونريت حسبتني «أحب لويزا»، وما كنت أفكر بالحقيقة إلا «بأن هنري فركنباك كان ابني».
ولما هممت بالذهاب مرت إلى جانبي وقالت هذه الكلمات الأربع: الأحد ... الساعة الحادية عشر.
ماذا تقصد من هذا الموعد؟ ذاك أوضح من شمس الضحى ...! تود أن نعود إلى شأننا القديم، وبعد أن نزل الستار على الفصل الأول من هذه الرواية المحزنة، أرادت ريتا أن يرفع عن فصل آخر، وأن الرواية توصل، على أن هذا المرام ضد مرامي، ولما أن انتهى الفصل الأول تنفست تنفس الراحة، وكرهت التمثيل والممثلين، وأقسمت أن لا أعود فأركب مراكب هذا الحب.
فأنا الآن لا أتبصر في مهرب من موعدها، بل أتبصر في مهرب من حبها، ولست أرجي مناصا من لقائها، بل من هواها، وكيف النهوض من لجة هبطت بي إلى أقصى دركات المهالك، ومن أين باب النجاة وقد أوصد الحب دوني جميع المسالك ...؟ فهل ريتا تصرمني إذا صرمتها؟ وهل تراها تنكرني إذا أنكرتها ...؟ لا، لا أرى مناط الثريا وإمساك السهى دون ما أرجي.
يوجد في قاعة اللوفر المربعة نجمة إلهية من رسم أندرية سولاري، يكفي الرائي أن يراها مرة لترتسم في مخيلته فلا تفارقه البتة، ففي يوم الأحد وفي الساعة المعينة دخلت بيت فركنباك ووقفت على العتبة أفكر في ذاك الرسم صامتا مدهوشا، كأني أرى نصب عيني يسوع الطفل، إذ تملص من اللفائف، والربط يلعب برجله اليمنى وينظر إلى أمه التي هي أشبه بعذراء سولاري وعارية مثلها، لا تهتم بإخفاء كربها، بل هي تنظر إلى ثمرة أحشائها المباركة، وتبتسم لمداعباته.
فهل فرق بين حال ريتا وبين تلك الحال المرسوم؟ وهل تباين بين معنى تلك وحقيقة هذه ...؟ كلا!
وبينا أنا في بحور أوهام خرجت لملاقاتي، وقالت: أهلا بالحبيب، ومرحبا منذ ساعة وأنا في انتظارك، فلماذا تتمهل بالدخول؟ ولم لا أرى فيك عواطف الأبوة؟! وكيف لا تنعطف على ولد هو ثمرة حبنا؟! الولد الذي يجب أن لا تسأل عن غيره ولا تشتغل بسواه.
لم يك في هذه الفاتحة ما يحملني على حربها، ورأيت أن أستعمل معها السلم أيضا، ولكن سلمنا كان متسلحا، فأجبتها من فوري: اتهمتني بالأبوة يا عزيزتي، فأنى لك تأكيد ذلك؟ ومن أين لي معرفة ما إذا كان هنري هو ابن فركنباك أم ابني؟
فقطعتني وقالت: كفى، هذا سباب، أنا أعلم حق العلم أن هنري هو ابن الحب، وما هو ابن الزواج، وأن قبلاتك هي التي بثت فيه روح الحياة، وهي التي أفاضت في عروقي نارا كانت مجهولة، وهي التي وجدت ينابيع نفسي التي كانت مختبئة بالقضاء والقدر، إن أقنوم الغرام لا يصير لحما إن لم يكن أقنوما، وأنت تعرف جيدا أني بك وحدك عرفت ذاك الأقنوم، فأنكر الآن إذا استطعت؟ قل: إن هذا الطفل ليس منك ... وقل أيضا إن عشقنا كان غرورا، وإن سكرنا كان رواية، وإن مداعباتنا كانت حيوانية ...
رأيت في الأم ذات الغيرة الشديدة التي كنت أراها فيها يوم كانت حبيبة، فاستعملت كل العبارات النافعة؛ لإخماد حدتها، وتسكين غيرتها، فقالت بحزن: ها قد مضى علينا يا حبيبي ستة أشهر لم نستطع في خلالها الاجتماع في بيتنا بشارع كوبنهاك، ولو تعلم كم آلمتني هذه الفرقة ...؟ فقد حكم علي أن أراك كغريب، وأن أحبك بالوهم، وأن أتظاهر بالحب لبعل أبغضه بقدر ما تراه عيني ... لم يحل فؤادي عنك؛ لأنه لك بأسره فهو ملكك ولك الحق في أن تعلم ماذا يحدث فيه هناك، حيث أنت السيد والملك، فأنا اليوم أحبك مثل قبل، بل أكثر من قبل، وكلما أنظر إلى هنري، كأني أراك به مرسوما ... نعم، إني أشتهي لنا ربيعا غراميا مثل الربيع الماضي فآخذك بين يدي، ونقول معا نشيد الجنون والغرام والقبل التي لا تحصى، آه يا إلهي، قد عشت طويلا ، فعرفت كيف تفهمون الوجود أنتم معاشر الرجال؛ ولهذا فأنا أحلك يا مكسيم من يمين الأمانة التي أقسمتها لي ذات مساء، فأنت الآن حر ... لكن بغير قلبك ...! أتفهم؟ أسمح لك بكل شيء سوى الغدر والخيانة، كل مع بنات المراسح إذا كان لك في ذلك سرور، ونم أنى تشاء النوم الذي يعبر به الرجال عن هذه الأشياء، لكني بعد فطام هنري، أذهب إليك أنى كنت أو مع أي امرأة تكون، وأحلف لك أني آخذك من يديها، اذهب الآن قبل أن يباغتنا أحد، ولا تقبلني مخافة أن تجنني قبلك وتحط من نشاطي ... بالأمان لا تنس شيئا مما قلت.
في ذات المساء دعاني فركنباك للعشاء عنده، فقبلت دعوته قصد أن أجتمع بريتا، وأظهر لها حال البلبال الذي رماني فيها حديثها في النهار، ولما أن آذنت الشمس بالغروب، جئت بيت فركنباك، فوجدت مدام جونريت وبلورتيها على أنفها، تشتغل برتق ملابسها، ورأيت ريتا جالسة على المقعد، وفي يديها كتاب تقرأ فيه، أما لويزا فكانت تضرب على البيانو، فاستقبلنني بسرور، ورحبن بي، فقالت مدام جونريت: كيف فكرت اليوم في أن تأكل معنا؟ - إنني أفتكر بكم دائما.
ثم قامت لويزا، وجعلت تبحث عن كتاب تشغل به أعينها إذا لم أقل فكرها، فقلت لها العفو يا سيدتي، فقد أتيت كمقلق الأعياد، وقطعتك عن إتمام اللحن الذي كنت تضربينه على البيانو، وقد سمعت بعضه من الخارج، وهو ما أظن من ألحان سيبستيان باش. - نعم يا مولاي، كنت أضرب لحنا لباش. - أتسمحين لي يا سيدتي أن أستأذن لك من مدام جونريت أن تضربي هذا اللحن من أوله وتتميه هذه المرة؟
فقالت ريتا: لا نحب ألحان باش، فاضربي غيرها. - ماذا تشائين يا عمتي. - لحنا غير ممل ولا جدي. - أتحبين مشهد أولاد شيمين؟ فهو لحن قصير لا يطول عذابك معه إذا أملك. - العنوان حسن، فاضربي هذا المشهد.
لويزا ماهرة بضرب البيانو، مهارة ينتهي الوصف إليها، وقد طالما سمعت الألحان التي ضربتها على البيانو، فلم تؤثر علي مثل هذه المرة، ولما أن انتهت من مشهد أولاد شيمين انتقلت إلى لحن آخر يدعى الحلم، فحسبت أني استؤسرت، وشعرت بأن دمي غلى في عروقي، وحرك دماغي بقوة، وتولتني هزة شديدة، فاغتدت أعصابي كأنها أوتار تضرب عليها ريشة عواد، ولا أعلم لأي شيء أنسب هذا الشعور وهذه العاطفة، وقبل منتهى الحلم سالت من عيني دمعة انفعال، وقفت على طرف مآقي مضطربة كأنها خائفة فمسحتها سرا.
فقلت لمدام جونريت: أيمكنني أن أستأذن لها بإعادة الحلم؟ - إذا كان ما تقول عن سلامة قلب، وكان بالحقيقة يلذك ضربها فإني آذن لها، أما إذا كان ذلك خداعا فالحذار الحذار، فإن العذارى يغرهن الثناء؛ لأن قلوبهن مثل الهواء.
وقالت ريتا: لعمرك ماذا ترى من الغرابة في هذا الحلم؟
فأجبتها بتحمس - وكانت لم تزل أعصابي ترتجف - نعم، إن الذي أراه أقوله لك بلا تعسف، وهو أن أما جالسة إلى مهد ابنها البكر قبيل نومه، وكانت أجفانه تنطبق، وفمه الحلو يفوه بشيء عذب لا أعلم ما هو كمناغاة الطيور، أو كصوت جري الماء على الأعشاب، وكأن أمه حارس تنتظر قدوم ملك النوم؛ ليظل تحت جناحيه هذا الشاروبيم الطريد من النعيم، ثم كأن الأوهام استفزتها فاغتدت وهي تسير في عالم الخيال بعيدة عن الأوجال البشرية، هناك في ذاك العالم الأرفع حيث لا حزن، ولا ألم هناك حيث الطهارة بلا دنس ولا عيب، هناك اختارت السكنى مع ابنها؛ ليعيش بعيدا عن مشاق الدنيا خاليا من الأشجان الكثيرة فيها حتى يكبر ويترعرع، وبينا هي تنحني على جبينه لتقبله كان الطفل قد نام.
فقالت ريتا بصوت متقطع: أعيدي لنا الحلم يا لويزا.
فأجابتها لويزا بأن جلست إلى البيانو وأعادت الحلم.
ولما انتصف الليل عدت إلى منزلي لا أفكر في غير مشهد أولاد شيمين، والحلم، ولا أتصور غير أصابع لويزا تضرب على البيانو ...
الفصل الثاني عشر
رأيت أن تقاعدي عن زيارة الوطن بلغ الحد الأبعد، على حين أن باريس من افريه أقرب من قاب قوسين، فجئت البارون لأطلب منه عطلة، فأزور أهلي، فابتدرني بالحديث، وقال: قد أتاني اليوم كتاب من عمك يخبرني به أنه قادم إلى باريس في صباح غد فليطب قلبك يا مكسيم.
فذهلت لهذا الخبر، وقلت في نفسي: إن عمي مريض مقعد، لا يستطيع الحراك، فلو لم يكن هناك داع يدعوه إلى المجيء لما أتى، فهل علم الوشاة بما بيني وبين ريتا، فوشوا بي عنده فهو آت ليضع حدا بيننا أم له شأن آخر؟
ثم إن البارون استأنف الكلام فقال: أظنك لم تنس ما قلت لك يوم ولادة هنري، من أني سأختار له عرابا من أكابر الناس، يكون لطيفا محبوبا مزدانا بأحسن الصفات، وإني لا أرى أفضل من عمك؛ لذلك فسنعمد هنري، ويكون عمك عرابه، وتكون جونريت عرابته.
فقلت: أظن يا مولاي أن قدوم عمي لا يكفي، فإني أحب أمي مثل ما أحبه، فأجاب: إن عمك قد طلب إلي فرصة لك لتذهب إلى أمك التي أتعبها نواك، فتتمتع بك زمنا، وتنعم بلقاك، فأذنت لك بعطلة شهر.
فلعثمت له من عبارة الشكر ما لعثمت، وقلت: أرجو عفوك يا مولاي إذا قصرت في مدحك وشكرك، فإني أرى كل معاني الثناء قليلة بجانب استحقاقك، وكل آي المديح دون مقامك، فقال: ما كنت أشك بصدق ولائك يا مكسيم، غدا لا أذهب إلى المكتب، فبكر أنت إليه، وفض البريد، وأجب عليه بمقتضى الحال، ثم خف إلينا حيث نكون بانتظارك في البيت.
ولما كان ضحى الغد كنت قد تممت شغلي، فقصدت بيت فركنباك، وما هي إلا دقائق حتى كنت بين يدي عمي أقبله ويقبلني.
وبعد تبادل السلام والأشواق سألته عن أمي فقال بخير، وقد أذن لك البارون بشهر تصرفه في افريه عندها.
فقطعته ريتا وقالت: ستذهب عنا يا مكسيم شهرا كاملا. - نعم، شهرا فقط فلا تستائي. - إن لفظة فقط تدل على أنك تشتهي أكثر. - إن أمي منذ أربعة عشر شهرا لم ترني، ولم تقبل خدي، ولم تضمني إلى أحضانها، وأنت أعلم مني بقلوب الأمهات ...
فأخذ عمي يدها وقبلها، ثم قال: أنت أجمل النساء وأجدرهن بالإكرام.
كان عمي على كبره فكه الحديث، رقيقه، غض الوجه، رطيبه، يميل إلى النساء، ويهوى مغازلتهن، فهو في مشيبه مثله في شبابه، لولا مرض أقعده وألزمه أن يتوكأ على عصاوين.
فقال: أين هنري فركنباك؟ إني أريد مقابلته، فسلوه إذا كان يسمح لي بها.
فذهبت ريتا للحال، وأتت بالولد، فقمنا إليه نقبله، ونداعبه، واخترع له عمي ألف حركة مضحكة.
وقال لريتا: إن كل ما أعطيت من الجمال لا يعد شيئا بجانب هذا الجمال، على أنه أشبه بك منه بأبيه.
فدخل جان، وأعلمهم بقدوم درتيل، فقال البارون: سنسأل درتيل عن صحة هنري اليوم، فدخل درتيل، وبعد التحية نظر إلى الطفل، فقال للبارونة: إن بكرك بقدر ما عنده من صحة أبيه عنده من بهائك.
ثم إن البارون عرف عمي بدرتيل فسر الاثنان بهذا الملتقى، وتحدثا مليا في ذكرى أيام الصبا، فقال عمي: إنك تغيرت يا درتيل تغيرا كليا، وكانت تصعب علي معرفتك، لولا من يعرفني بك، فأجابه درتيل: وأنت أيضا قد غيرت أثوابك، فأين الجمال الذي نعرفك به صغيرا؟ والنشاط الذي كنا نعهده فيك صبيا؟ وأين أخلاقك القديمة منها اليوم؟ فإذا شئت أن تعود شابا وتبرأ من علتك، فتناول الطعام عندي غدا لأفحصك وأداويك. - إذا أبرأتني يا درتيل تكون أمهر الأطباء ...
فقطع الخادم عليه الكلام وقال: قد أعد الطعام.
فأخذت ريتا عمي من إبطه وسرنا إلى المائدة، فقالت له: هل تذهب إلى مون دور في العام المقبل؟ فقال: ربما، قالت: أخطر على بالك بائع البواقيت التي من أوفرنيا؟ قال: لا أزال أذكره، قالت: آه، لو كنت هناك، فأشتري منها ولا سيما من الحمراء، قال أتذهبين إلى مون دور لهذا القصد؟ إذا كان ذلك، فأنا أكفيك مؤنة التعب، فأستحضر لك ذلك بواسطة صاحب لي هناك، قالت: يذكرني بها أني يوم عرفتك في مون دور رأيت في يدك شيئا منها، وكنت إذ ذاك جميلا فأجبتها: ولما رأيتك اليوم ذكرت أيام مون دور.
وأقام عمي في ضيافتهم ثلاثة أيام، وفي عصاري اليوم الثالث جرت حفلة العماد، وبعدها استأذنهم عمي بالعودة، فألحوا عليه أن يبقى يوما آخر، فرفض طلبهم بالرغم عن استعطاف ريتا، ورجاء جونريت وغضب البارون، ولا حاجة لذكر ما كان لوداعنا في المساء من التأثير، فكانت أوقات السكوت أكثر من أوقات الحديث، وكأني بهم يشعرون بوحشة لغيبتي، ويحسون بخلاء في قلوبهم، بل كأني بهم انتهوا إلى آخر الجزء الأول من قصة وفي نفوسهم شوق لقراءة الجزء الثاني.
ولما كان صبح الغد أسرعنا إلى المحطة، فقال البارون لعمي: لا تنس يا عزيزي ما قلت لك بالشأن السري، ولا تهمل علاج درتيل، ثم التفت إلي وقال في اليوم الثالث من الشهر القادم يجب أن تكون في المكتب كعادتك، فاحذر التأخير مخافة أن يخلفك آخر كما خلفت سلفك!
فودعناه وركبنا القطار، فقام بنا إلى افريه، وبينما كنت على الطريق ذكرت أيامي الخالية، وكيف كنت مضطربا وجلا يوم ركبت القطار من افريه إلى باريس قصد الاستخدام عند فركنباك، ثم ذكرت ما لاقيت عند هذا من حسن الوفادة والوئام، على أني كنت أرى في ذاك التاريخ صفحة سوداء تشين حسناته، وتحط قدر آياته وقلت: هل تكتفي ريتا بهنري أم تطمع بآخر، فتشب الحرب بيننا وتقوم قائمتها ...؟ وهل لي مقدرة على شيء، وهي قد قبضت على حياتي وأسرتها؟
وكان القطار ينساب في الفضاء الطويل العريض انسياب الأفعوان، ويترامى المراحل البعيدة والفلوات الشاسعة، كأنه سهم ناري، يشق عباب الأجواء حتى اغتدى على بعد ساعة من افريه.
فقال عمي: أتعلم يا مكسيم ما هو الشأن السري الذي حذرني البارون في المحطة أن أنساه؟! - أظنه شأن زيجة بين ابن أخيك وابنة أخت ريتا، فقال: أجل، قلت: أتراه موافقا، قال: لا يكون أنسب منه وقد تكلمنا مليا بهذا الشأن، وسأخطبها لك من أمها بعد عام إن شاء الله.
فذكر عندئذ لويزا وبعد أن كنت أسرح الطرف في الربوع الجميلة ذات الأعشاب والأشجار البهية، غدوت أفكر بلويزا وبضربها البيانو.
قال: كيف أخلاق أمها؟ وهل تظنها تعارض في زواجها، فقلت: إني أستقصيتها يا مولاي زمنا، واستطلعت أفكارها، فاهتديت بعد البحث الطويل إلى رغبتها في تزويج ابنتها بي، وهي في حد نفسها كريمة الأخلاق، رقيقة الحديث، عندها من كرم العوائد وعوائد الكرم شيء جزيل، ومن الذكاء قدر جليل، والقصارى أنها امرأة يقل مثلها بين النساء.
وإذا بالقطار يسير الهوينا، فأخرجت رأسي من النافذة، فرأيته على مقربة من افريه، وكان الدخان ينتشر في أطراف السماء، وينتهي في صعوده إلى السحب السوداء، وكانت أشعة الشمس تصل إلى الأرض من خلال الغيوم ضئيلة، فعرفت تلك الرياض، وذكرت عهودي بها يوم لا يعرف ضميري تعبا، ولا يعرف قلبي حبا، يوم كنت نقي القلب لا أعرف الشر من الخير، وعندي كل الغنى في ألعوبة أو طير.
ولما دخل القطار في المحطة سمعت أصوات الباعة، ورأيت نفرا من معارفي وأصدقائي، ثم أسرع تراجمة اللوكندات إلى الركاب كعادتهم، فأخذت بيد عمي، وأعنته على النزول من القطار، ثم ركبنا عربة، وسرنا إلى البيت، فقلت في نفسي أخاطب الوطن:
يا مثاوي الصبا عليك سلام
بعد طول النوى وبعد المزار
ووقيت العناء من عرصات
مقويات أو أهل بالفخار
ذكريني طفولتي وأعيدي
رسم عهد عن أعيني متواري
مستطاب الحالين صفوا وشجوا
مستحب في النفع والإضرار
يوم أمشي على الطلول السواجي
لا افترار فيهن إلا افتراري
نزقا بينهن جد لعوب
لاهيا عن تبصر واعتبار
حنانيك يا وطنا عزيزا خصيبا يا ملعبي في طفولتي، ونزهتي في شبابي، إني سأقضي فيك شهرا مثل الشهور العديدة التي قضيتها فيك من قبل فرحا، مسرورا، محاطا بعناية أمي وعمي، سأقضي في ربوعك شهرا أبكيه بعد ذهابه، وأحن إلى مثله ما دمت بعيدا عنك ... والآن فلنغنم اللذات ولا نرثيها قبل الفوات ... (انتهى الجزء الأول ويتبعه الجزء الثاني.)
الجزء الثاني
العلم عذاب وأعلم الناس أبكاهم على الحقيقة المقدرة.
شجرة العلم ليست شجرة الحياة.
بيرن منفرد
الفصل الأول
لما عدت من افريه بعد شهر كان قصيرا، قضيته في خمائلها أجدد ذكرى أيام صباي، وجدت في بيت فركنباك ذات الوجوه والعوائد التي كنت أعهدها، واستقبلني البارون كالمعتاد بهز كتفه، ووجه يغيب في الابتسام، ولم يتغير شيء في الحال التي عهدتهم عليها منذ شهر، فوصلت طرف السلسلة الأخيرة بطرفها الأول، ولحمتهما باعتناء ودقة، بحيث صارت يصعب على المتأمل رؤية لحام فيها.
وفي اليوم التالي قال لي البارون: قد ارتكبت غباوة ما بعدها غباوة، حين أذنت بسفرك، على أن هذا لا يكون مرة أخرى فتأكد ذلك، فإنك لا تستطيع معرفة الفراغ الذي وسمته غيبتك في قلبي، وليس ذلك من حيث الشغل فقط، أبشرك أن أقواما من أصدقائي سيحيون ليالي رقص تنهال انهيالا، ونظرا لما بيننا من صلات الود والصداقة طلبت إليهم أن يجعلوك في عدادهم فلبوا مطيعين، فهيئ فخذيك للرقص.
فلم أظهر له ارتياحا للرقص على أنه استأنف الكلام فقال: ماذا؟ ألا تدري أن ريتا لا تفارق البيت، وأن لويزا ستكون في هذه الهيئة بدلا منها، أولا تعلم أني أكره الرقص والمراقص كالموت، وأفضل سيقان جوزيفا على ألف رقصة وراقصة؟ فماذا يحل بتلك الغادة الصغيرة بين ملأ وفير لا تعرفه إذا لم يكن ثمت من يقدم لها ذراعه من أصدقائها؛ فتذهب معه إلى المطعم إذا جاعت أو عطشت؟ إني أحتم عليك أن ترافقها إلى كل المراقص، وتكون رفيقها في كل الرقصات. أتفهم؟ ألا تشكرني على هذا الفضل أيها الحيوان؟
فضحكت ضحكة كبيرة وقلت: إذا كنت تشاء ذلك فسوف أكون لها الرفيق الأديب.
فقال بابتسام: ولا بأس من مغازلة طفيفة سرية، ولا نمنع عنك مغازلة على نمط ما تشتهي العذارى الطالبات الاقتران، افتن واسحر قلبها، سرحها في عوالم العشق كيف تشاء، سر معها في عالم النجوم والأشعار كما تهوى، فإني لا أرى ضررا في ذلك إذا كانت لك ثمة مقاصد حسنة، تراني أتساهل لك وأحسن إليك! آه لو كنت مكانك، وكان لي عشرون سنة.
فسألته إذا كانت البارونة لا ترافق بنت أختها إلى هذه الملاعب، فقال: إنها لا تود ذلك، فهي مشغولة بابنها، مولعة به إلى درجة تعد جنونا، وكل من يكلمها عن الملاعب والأعياد والمراقص تنظر إليه شزرا بمؤخر عينيها، ولا تجيبه على خطابه كأنه أذنب إليها، ويدهشني منها هذا الحب المفرط لابنها، وكنت أحسبه يضعف في أول الشتاء لدى الأعياد والمرافع، فخاب ظني، وأرى اعتناءها به يزداد دوما، وقد أقفلت بابها دون الزائرين والزائرات وصارت عبارة الخادم المألوفة في دفع من يرغب مقابلتها «البارونة لا تستقبل اليوم أحدا.» على أني مسرور بذلك، فإن هنري ينمو نموا حثيثا، وصار إذا رأيته اليوم لا تعرفه.
ومن يوم بلغ خبر ولادتها إلى صديقتها جنفياف دي سيمان أسرعت إليها، وترامت على عنقها وقبلتها، وها هي لا تزال تزورها في كل يوم، وقد أعجبت لويزا بذكاء هذه السيدة الجميلة ورقة حديثها، فهي مذ تدخل من الباب تأخذ في سرد الأقاصيص والأحاديث الملذة حتى تختلب الألباب، وتسحر العيون وهي تسمي هنري «ابن العجائب».
ولما عدت إلى البيت وجدت ورقة دعوة من المسيو ليكرم، يقول فيها: إنه سيقيم في المساء مرقصا شائقا، ويرجوني أن أحضره، فلما أزف المساء سرت في شارع القديسة أنوريه إلى أن بلغت قصر ليكرم، وكان مزدانا بالأنوار المختلفة الألوان، والزهور المتباينة الأشكال والأجناس، رافلا بالحلل الزاهرة، ناهضا بالجلال والزينة الباهرة، فوجدت على الباب مسيو ليكرم بنفسه، يستقبل الجمهور فحييته، فرد علي التحية بطلاقة وتلطف، ثم سار معي إلى القاعة، وأجلسني ورحب بي.
ورأيت بادئ بدء أناسا قليلين، حيث ملابس الرجال السوداء تغيب في حرير مطارف النساء وخملها وكشاكشها وفرائها، ولم أسمع غير أحاديث متقطعة منخفضة، أو أصوات الأقدام المتنقلة والكراسي المتحركة.
ولما أن تكاثر القوم وابتدأ الرقص، قمت أتمشى في القاعة، فأبصرت المركيزة دي سيمان وإلى جانبها مدموازيل جونريت فابتدرتني المركيزة بالكلام قائلة: ما كنت أشك في قدومك، ولهذا أخليت لك محلا، وأظنك تحفظ لي هذا الجميل، أليس كذلك؟ - على الأرض وفي السماء سأحفظه لك يا سيدتي. - في السماء؟ ومن يؤكد لك أننا نلتقي هناك؟ - يقال إن في ذلك المكان موسيقى مطربة يا مولاتي، وفي هذا الرمز كفاية. - إنك تتكلم عن الموسيقى مثل ما كان فدييس يتكلم عن اللغة الرومية، إننا لنعلم قدر علمك بالموسيقى حي مدموازيل جونريت، ثم اسألني عن صحتي ، فذلك أولى لك من الكلام عن الموسيقى. - إنك مصيبة برأيك. - إنك فهمت معنى ما أقول. - وهل لكلامك معنى غير المعنى المستفاد من ظاهره؟
فقهقهت طويلا.
وكان في قهقهتها كل ما يستطيع أن يجمعه العالم في رواية من معاني التعجب والمزاح والهزؤ والتهكم والازدراء، وعند ذلك دخل المسيو ليكرم مع أربعة بزيه، وأعلن افتتاح المرقص، فسكنت القاعة، وقعدت بأتم سكون وقعود، وابتدأت الكتيور، وهي قطعة موسيقية ترتل بأربعة أصوات.
وعند نهاية الألجرو صفق الحضور أي تصفيق، وابتدأت الاندنت وهي الصوت الثاني من الكتيور بأحسن ما يتمنى السامع من التوقيع، فأرسلت نظرة إلى لويزا؛ لأرى تأثير الاندنت عليها، فوجدتها شاخصة العين منوطة بالسقف والحدقة غائبة منقبضة، والثغر مفتوح ثلث فتحة، كأنه يهم أن يبتسم، واليدان مرسلتان إلى جنبها كأنها إيطالية مولعة بالموسيقى، وقد سمعت لحنا مؤثرا، وكأن روحها أفلتت من أسر، فهي تحوم بأجواء الخيال تحت أجنحة الألحان الرخيمة والأنغام الشجية الشديدة التوقيع، ثم إن ابتداء الترواطان دي مينيت حولها نوعا عن حلمها، ولما ابتدأ برستو الختام ملكت نفسها، وعادت إلى عالم الحقيقة.
الفصل الثاني
دامت المراقص تتابع مدة، وأنا أخلو بلويزا، وأحدثها مليا غير خائف من عين عمتها، وأدنو منها شيئا فشيئا، وأجعل ذراعها في ذراعي، وأهمس في أذنها ألف شيء من جد وهزل، وعاودتني دعتي، وأخذت طلاقتي القديمة كأني أسير رأي النار بعد الأسر الطويل، وجعلت أترصد الفرص لأخلو بها، وأفتح لها قلبي، وأبادلها حديث الشباب.
على أنني رحت في تفكر طويل، وتساءلت عما إذا كانت عواطفي نحوها ليست من وراء هوى خفي ناعم الظفر، ينمو ويترعرع ضاحكا من إرادتي ساخرا بها، ثم جعلت أتمثل حالتها فيما إذا اشتد الحب بيننا كيف تكون، وهل إن إله الغرام يسترنا، فلا تنفذ إلينا ملمة رجافة، ولا تصل إلى كبدينا سهام صائبة؟ أو أن ريتا تغار علي ممن أهواها، فتدس لها السم، وتدمر رجاءها، وتدك مناها، ثم تسرع إلي وتعيد علي ما قالته لي من قبل: «أنت مطلق الحرية إلا بقلبك؛ لأنه لي وأسمح لك بكل شيء إلا بالخيانة.»
ولكن كيف كانت الحال، فإن ريتا عشقتني، فهي تقاوم كل ما يحول دون عشقها، وأنا اليوم عشقت لويزا، فيجب علي أن أقاوم كل ما يحول دون عشقي مقاومة الرجال الأشداء؛ لأن من أهواها كأنها ملاك كريم تستحق أن ألاقي لأجلها بعض الشقاء والعناء، ولما كان الله - عز وجل - قد جعل لكل يوم صباحا ومساء، ولكل شأن ابتداء وانتهاء، فقد أوفي اليوم بحب ريتا على الختام، وكأني أرى شمس حبها مغللة بأطراف الظلام، وأرى شمس حبي مزدهية في مشرقها جميلة في تألقها، وبينا هي تودع غرامها أستقبل غرامي، وبينما عيناها تدمع لبعد من تهواه، أمتع أنا عيني برؤية حبيبتي لويزا الشبيهة بالملاك، وهكذا الأيام يوم لهذا ويوم لذاك.
وبينما كانت الأقدار تجري في مجراها، والأيام تترامى في مرماها، حدث حادث أقلق فكري، وشدد علي أمري؛ وذلك أن شابا من أكابر الباريسيين رأى لويزا في المراقص، فعشقها وتيمه جمالها، فبات وهو شريد البال، كثير البلبال، طويل الليل والبكاء، أليف السهاد والعناء، فطلب إلى أبيه أن يخطبها له من البارون، وفي ذات يوم كنا معا نتجاذب أطراف الحديث، فقال البارون لولجونريت: لقد جاءني اليوم مسيو دي فرفيل، وأخبرني أن ابنه رأى لويزا، فأحبها حبا شديدا، أفضى به إلى حالة صعبة جدا، وقد التمس مني أن أسألك عما إذا كنت ترضين أن يكون صهرا لك، وقد رأى أن لا يطلبها منك عروسا لابنه قبل أن تستطلعي أفكارها في هذا الشأن.
فقالت ريتا: إن دي فرفيل من أرباب البيوتات العريقة في الشرف، الشهيرة بالغنى والوجاهة، فلا أرى أنسب من هذا الزواج، وقد لا يكون زوجا للويزا أحسن من ابن دي فرفيل، ولكن هل أخبرك دي فرفيل بشيء عن مهر ابنه؟ فقال البارون: نعم، قال إنه يعطيه كل أملاكه بشسناي، وهي تقدر بخمسمائة ألف فرنك دخلها في السنة ينيف على ألف فرنك، ويعطيه أيضا مسكنا في باريس يقدر بمليون فرنك، فقالت ريتا: إن هذا النصيب فوق ما كنا نرجي، فلا تدع إذن هذه الفرصة تفوت، فإنها من أسعد الفرص، وقد أتت على غفلة من الليالي، فقالت جونريت: إذا رضيت لويزا بذلك، فأنا لا أعارض فيه أبدا، وأرى رأيك مصيبا فماذا تقولين يا لويزا؟
فوقفت دورة دمي عند هذا السؤال، وانقلبت ملامحي من حال إلى حال، فقلت أناجيها سرا الوداع الوداع أيتها الحبيبة الجميلة، فما هي إلا دقيقة حتى تنصرف أميالك عني، وتتغير نظراتك إلي، ويخلفني آخر في قلبك الشريف الطاهر، وما هي إلا لحظة حتى يغلبك المال على الهوى، وما هي إلا لفظة من فمك الوردي حتى تموت نفس، وتحيا نفس، وتكبر آمال، وتخيب آمال، فإننا لله وإن إليه المآل، وأصبحت أفكاري كأنها غوارب دأماء، قلقة لا تثوي في اللجج، ولا تستقر فوق الماء، رجافة تنحت مكاسرها بأظافيرها، وتمتزج أوائلها بأواخرها، فعلمت عندئذ ما فعلت عيناها بسويدائي، وما أسالت ابتساماتها في دمي وأعضائي، وأن ذلك ناجم عن غرام غير ممازح، اطمأن في القلب والجوانح، وتأكدت أن ابتسامات العذارى قادرة، وأن عيونها ساحرة، وأن نظراتها بالقلوب أمارة تصيد حباتها بغير صنارة، ودون استشارة، على أن موقفي في ذلك الوقت كان أعظم وأشد مما يتصور القارئ؛ لأني مع ما تولاني من الخوف والألم كنت مضطرا أن ألازم الصمت، ولا أفوه ببنت شفة، وأن أتكلف الهدوء والسكينة، وأتظاهر بعدم الاكتراث بهذا الأمر والاهتمام به، على أن دمي ماعتم أن دار في عروقي دورته المعتادة، وأخذ وجهي صفاءه المألوف دون أن يدرك أحد من الحضور ما حل بي؛ وذلك لأنهن كن مستغرقات في الحديث.
فقالت مدام جونريت لابنتها: ما رأيك يا ابنتي في هذا؟ وهل أنت راضية بهذا الخطيب؟ أم هناك مانع يحول دون وصوله إليك؟
فقالت لويزا بصوت غير متقطع ولا مترجرج: ما كنت يا أماه لأخالف لك رأيا، وإني أرى ما ترين حسنا، وأعد ما تشتهينه علي فرضا من الفروض المقدسة الواجبة على أني إطاعة لأمرك وإجابة لسؤال عمتي أبدي رأيي في هذا الأمر الخطير؛ لأن عليه تتوقف حياتي وسعادتي وشقائي، ولما كانت الحياة طويلة وعزيزة أيضا كان من الواجب علينا أن نتفكر في الأمر مليا، وننظر إليه من جميع وجوهه، وأن لا نتهافت على عمل ربما ساءت عقباه، واضطرتنا أن نعض أطراف البنان، حيث لا تنفع الندامة ولا تجدي الأحزان. - ومتى يقر قرارك، وتطمئن أفكارك، أبعد شهر أم بعد شهرين؟ - إن أمرا كهذا عظيما تتوقف عليه السعادة والشقاء، لا يجزم فيه بدقيقة واحدة، وإن لفظة تعلق عليها حياة كاملة لا تقال بلحظة واحدة، بل ربما لا تقال بعد عدة شهور. - إن كلامك يا بنتي مع ما فيه من الحكمة فهو غير مقنع؛ لأن ظروف الحال تقتضي غير ما تقولين؛ لأنك تعرفين ابن فرفيل حق المعرفة، وقد رقصت معه مرارا وكلمته، ومازحته، فكيف وجدت أخلاقه وعقله وحديثه؟ وهل مال قلبك إليه؟ - هو على أرفع درجات الأنس يسحر القلب بعذوبة اللفظ، ودماثة الخلق، وانتظام الملامح، وله في امتلاك الفؤاد وسائل من الحكمة، وله في اجتذاب العواطف سبل من الحديث لا يسع السامع الامتناع عليها، ولا يقوى على الوقوف دونها، وهو مع ذلك بارع بالرقص سريع الحركة، خفيف الانتقال والوطء، له مهارة عجيبة وخفة غريبة. - أيحلو لك؟ - إني لا أستقبحه. - إذا كان على ما ذكرت جامعا العلم وكمال النهى والمال، فماذا ترومين أن تعلمي عنه أيضا؟ - أروم أن أعلم ما إذا كان حسن الذوق، لين العريكة، شريف النفس، يحب الخير، ويعرف الشفقة على الإنسانية، ويغضي عن الهفوة، وإذا كانت طباعه توافق طباعي وإذا لم يكن ذا خصال وخيمة وعوائد تجرح الآباء وتخفض المقام، وأروم أن أعرف أخيرا إذا كان يرى الحياة بالعين التي بها أراها، ويقضيها كما أرضاها، وإذا كان قلبي يميل إلى قلبه أم لا؟ - أي إنك تعتمدين في ذلك على ميلك؟ - نعم، على ميلي وهذه هي الكلمة الوحيدة التي تجمع جميع أفكاري. - إن ابن فرفيل ذائع الصيت، طائر الشهرة بالمال والأدب والجمال، وأمثاله في باريس يعدون بالآحاد، فإذا كنت لا ترضينه زوجا لك تندمين أية ندامة، وتلامين أية ملامة، وإذا كنت لا تتزوجين إلا برجل مثل الذي وصفته لنا، فعنقاء مغرب أدنى إليك منه وإن الحياة يقظة، ثم غفلة لا يدري المرء كيف تمر، وبينا هو في زهوة الشباب إذا هو أبيض الشعر على منتهى العمر فتبصري يا بنتي، وأنعمي الفكرة قليلا لعلك تهتدين إلى الصواب، فتلجين هذه الجنة المفتوحة أمامك قبل أن يقفل دونك الباب، وتقضين أيامك بألم الانتظار وتعب النفس وبلبلة الأفكار.
فابتسمت لويزا لكلام أمها ابتسامة ملوكية، وأجابتها بصوت يتجاذبه طرفا المزاح والجد قائلة: سأنتظر ما يشاء الله.
فسكت الكل سكوتا تاما، وظهرت على وجوههم علامات الاكتئاب والكدر إلا البارون فركنباك، فإن وجهه امتلأ سرورا، وإن عينيه طفحتا حبورا، وكأن رفض لويزا جاء مطابقا لإرادته، موافقا لأفكاره، فأخذ يلاطفها ويؤانسها، ثم قال لها: أتذهبين معي إلى الأوبرا في هذا المساء؟ - أية رواية يمثلون اليوم؟ - رواية الفتاة المجنونة، وهي ذات ثلاثة فصول، وفيها ألحان مؤثرة حسنة التوقيع. - أذكر أنني قرأت هذه الرواية في صغري، ويسرني جدا أن أرى تمثيلها. - سوف تطربين منتهى الطرب، وتجدين في تمثيل رواية الفتاة المجنونة، وألحانها آيات توجب العجب، وتأخذ بمجامع الألباب، وتنتهب الأسماع أيما انتهاب، ولا جرم أن أمك جونريت تود أن تقاسمنا هذه المسرات وتشاطرنا هذه الملذات.
فعبست جونريت، وقالت: دعني من روايات المجانين، فقد شاهدت اليوم رواية لا تقل عن تلك حقيقة ومعنى، وأبصرت عيني اليوم فتاة أجن من فتاة الرواية وأكثر اغترارا منها.
فأجابتها لويزا من فورها، وقالت: إذا أنزلت الحكمة منزلة الجنون، وعرضت الدراية لسهام السب والملام، فقولي على الحكماء العفاء وعلى الحكمة السلام.
فلم تجبها أمها على أنها ضحكت ضحكة مستغربة، ثم التفتت إلى البارون، وقالت إني أسمح لها بالذهاب معك إذا وعدتني أنك تردها عن غيها وتحول أفكارها ولا تفارقها غرارا.
فقال لها البارون: كوني ناعمة البال مطمئنة الخاطر؛ لأني سوف أداريها، وأبذل وسعي لأسليها، وأشرح صدرها، ثم نظر إلي وقال: قم بنا يا مكسيم إلى المكتب، فإن عندنا شئونا كثيرة نقضيها اليوم.
فقمنا للحال ومضينا، وبينما كنا على الطريق قال: إني مدعو للرقص مع جوزيفا في هذا المساء، وقد ضربنا موعدا، وقلنا الحر ينجز ما وعد، فيجب أن أذهب إليها، وأتمتع برؤية عينيها، ولو كنت أعلم أن جونريت تعتذر عن المجيء إلى الأوبرا؛ لما دعوت لويزا وشددت عليها، فكيف العمل الآن؟ وما هي الحيلة للهرب؟ وأي عذر أتنصل لأفلت منها؟
فقلت: إن هذا الشكل صعب يجب أن تحله على وجه حسن مقبول؛ لأنك إذا أخلفت وعدك إلى لويزا تسيء إليها فتسيء الظن بك، ثم إنك تحرك أفكار البارونة، وتوله أفكارها إليك، وربما أفضى بك هذا الأمر إلى ما لا تشتهيه.
فقال: عونك يا مكسيم، فأنا الآن بين نارين، وكيفا أصنع ألام، وبينما أنا أفي بوعد أخلف بوعد، وبينما أقضي حقا واجبا أهمل حقا آخر؛ لأنها (ثم فكر قليلا)، وقال: نعم، نعم، وجدت حلا لهذا المشكل لا يكون أحسن منه، وهو أن تجيء إلى الأوبرا يا مكسيم، وتنتظرنا هناك إلى أن نجيء، فأعهد إليك مؤانسة لويزا ومحادثتها، ريثما أروح إلى جوزيفا وأعود، وإن هذا الحل على ما أرى بقدر ما يسرني يسرك؛ لأنه من حيث يمكنني من الاجتماع بحبيبتي يجمعك بحبيبتك، ثم أطرق هنيهة، وقال: إن لويزا تهواك وتميل إليك، وقد اتضح لي ذلك اليوم من رفضها ابن فرفيل؛ لأني لا أصدق أن امتناعها كان لعلة من العلل التي ذكرتها، بل إن ذلك لأمر دفين في صدرها، قد تغلب على عواطفها، وقيد إرادتها، وهذا الأمر هو الغرام.
وإذ ذاك وصلنا المكتب، فجلس كل على طاولته، وبدأنا بالعمل حتى عصاري النهار، فانصرف كل إلى حيث شاء.
ولما هبطت حجب الظلماء، وزحفت جيوش الدجنة على بقيات الضياء، ونشر الليل رواقه في الفضاء، ونابت عن شمس السماء نجومها الوضاءة، قمت إلى الأوبرا لأكحل عيني بمنظر الحبيب، وأفتح لها قلبي الأشد وجدا من جميع القلوب، وأريها بماذا أصيب، وأسأل قلبها الطاهر الشريف، الرفق والرحمة بقلبي البائس الضعيف، فرأيت الناس يهطعون من كل أوب إلى الأوبرا زمرا وفرادى، هذه تتيه في دلها، وتلك تتهادى بين عشاقها، فسرحت طرفي في هذا السواد العظيم عل أن أرى مليكة الفؤاد، فارتد الطرف كليلا، دون أن يعرف إليها سبيلا، ولم يفده البحث فتيلا، فكثرت تأوهاتي، ولجت بي حسراتي، واشتد علي البلبال، وأخذ مني الخيال، وهلع قلبي حتى كأني لست من الرجال، فندمت على إسراعي بالمجيء قبل اللزوم، وهكذا المرء إذا جد إلى شيء، ولم يجده تتناوله الهموم.
فجلست قلقا مضطرب البال واجف القلب، أفكر في لويزا، وفيما يجب أن أصنعه لأكتسب حبها وأملك قلبها، وهممت أن أحمل قلبي على يدي وأذهب إليها، وأنطرح على قدميها، وأقدمه لها وأقول: حني أيتها العذراء الجميلة بنظرة على هذا القلب الولهان، فإن نظرة من عينيك ترده سعيدا، ونظرة من ناظريك تجعله تعيسا وتغادره صريعا فقيدا، على أني خفت من أن شهرة الغرام على هذه الصورة تخجلها، فيفر قلبها، ويجفل عني فأكون كدرت بلحظة واحدة الكأس التي اشتغلت في تصفيتها أكثر من شهرين، ورأيت أن من الحكمة والضرورة انتهاج غير هذا الباب، واستخدام وسيلة دانية المتناول أقرب من تلك لبلوغ المنى وإدراك الأمنية.
وبينا كانت عيناي لا تستقران في مكان، وفؤادي لا يهتدي سبيلا إلى الدعة والاطمئنان، وكانت تموجات بصري تنهال على الجمهور، ودمائي تدور في عروقي ما تدور:
أقبلت تنثني بقد رشيق
وجمال تغار منه البدور
تتهادى في مشيها مثل غصن
هزه في مروره العصفور
كأن طلعتها صباح العيد، وكأن عينيها رشد بدا للهائم الشريد، بيضاء صاغها النعيم، فأدقها وأجلها، وجعل الجمال في مقاطعها كلها، قد ازدهت بطهارتها، واطمأنت ببكارتها، فهي مثل البدر بهاء، وأكثر من المهاة دلا وحياء، وهي مثل الورد تلوينا وأكثر منه رقة وأجل تكوينا، وهي مثل الشمس ضياء، لكنها لا تغيب مساء.
قد كونها الله تعالى:
من استدارة القمر
إلى لطافة الزهر
إلى تراوح العشب
إلى رشاقة القضب
فلحظات الريم
فقلق النسيم
فبهجة الشعاع
فقسوة السباع
فزهوة الطاووس
تأخذ بالنفوس
فالشهد في المذاق
فخفة الأوراق
إلى التفات النبت
ذا خفة وثبت
فنغم الهدير
فهذر العصفور
فقمت لملاقاتها، أعد العين برؤية وجهها، والفم بتقبيل وجناتها، وكانت لابسة ذات المطرف الذي رأيتها به أول ليلة رقصت معها، وكان زي شعرها مثله يومئذ، فلما دنوت منها أخذتني هزة مثل الهزة التي شعرت بها يوم خاصرتها، ولم أعد أعي ما أقول وما أفعل، ونسيت ما كنت هممت أن أقوله لها، ولم أقف الوقفة التي كان يجب علي أن أقفها، وخفت أن أوجه إليها أنظاري وأصرفها، فابتدرتها بالسلام، فمدت إلي يدها البيضاء، وردت السلام بأحسن منه، ثم قالت: إني أحمد الظروف التي أسعدتني بلقاك، وإني أشكر الإله الذي سمح لي بأن أشاهدك وأراك.
فأجابها البارون قائلا: إنني ضربت موعدا لصاحب لي، وأنا ذاهب إليه فهل تأذنين لي؟
فقالت: بقدر ما يسرني لقاء مكسيم يسوءني فراقك، وأنا الآن رابحة وخاسرة بوقت واحد.
ولما ذهب البارون ابتدأت الموسيقى بضرب الألحان الرخيمة، وأخذ الممثلون بتمثيل أدوارهم، فأجادوا إلقاء وإيماء، وكانت خلاصة الفصل الأول حبيبين يتبادلان عبارات الغرام، ويشرحان هواهما، وحينما انتهى الفصل الأول هممت أن أقبل يديها، وأركع على قدميها، وأفتح لها كتاب الغرام الذي آن لها أن تقرأه وأخبرها أني أهواها، وأروم الاقتران بها، وأن عمها يود ذلك ويتمناه، ولكن خانتني قواي، وتوقف الكلام على فمي، وخفق قلبي، فقالت: أتظن يا مكسيم أن غيبة عمي تطول؟
فقلت: إنه آت عن قريب وقد أكد لي ذلك.
وابتدأ الفصل الثاني، وتلاه الثالث، وفيه التقى العاشقان بعد الفراق الطويل، وأسعدا بعد العناء والشقاء، فرأيت لويزا صامتة لا تبدي حراكا لشدة تأثير التمثيل عليها، ثم إن الممثل أخذ حبيبته بين يديه، وضمها إلى مذبح الحب، وقبلها قبلة دوى منها المرسح، وتأثر لها كل الحضور فنظرت عندئذ إلى لويزا، فرأيت عينيها ممتلئتين بالدموع، وكأنها طربت لحديث الحب السماوي، وسرت لاجتماع الحبيبين بعد العذاب والتبريح، ثم إن الدمع غلب عليها، فتركتني وذهبت إلى القاعة بسرعة فتتبعت خطاها، فجلست على المقعد وجعلت تبكي وتتأوه مثل الطفل الصغير، فجلست على قدميها وأمسكت يديها، ثم ضممتها إلى صدري، وجعلت ألاطفها، ثم قلت: لماذا تبكين يا حبيبتي؟
فقالت: إني تعبة، وأحس بدوران خفيف، على أن هذا يحدث لي أحيانا ثم يزول، فكن مطمئن البال ولا ترع.
فثارت في دمي عندئذ مفاعيل الغرام، وتسابق على لساني الكلام، فقلت لها والدموع تسيل على الوجنات: وأنا أيضا أشعر بما تشعرين، وليس ذلك لعلة مثل علتك، بل ذلك لمرض في الفؤاد دفين ... لويزا حبيبتي حياتي مليكتي إنني أهواك وليس في الهوى لوم، وأنا أهواك منذ شهرين مثل ما أهواك اليوم، وقد براني هواك حتى لولا العظام، لكنت مثل الخيال، فهلا رفقت بقلب يحتوي على فؤادك؟ وهلا رحمت فتى شقيا ليس يقوى على جفاك وبعادك؟ وإلا فردي إلي فؤادي وأعيدي إلي رشادي.
فاحمرت عيناها، وتوردت وجنتاها، وفاضت دموع عينيها أكثر من قبل فجعلت أكفكف عبراتها وعبراتي، وأمزج زفراتها بزفراتي، وتأوهاتها بتأوهاتي، ثم قلت: أيتها الغادة الطاهرة الكريمة قولي كلمة، ردي علي بلفظة أو بحركة أو بإشارة، احكمي على مكسيم بالسعادة أو بالشقاء، فإن نفسي تكاد تموت، فنهنهت دموعها، واعتدلت على المقعد، ثم قالت: لقد سبقتني إلى ما كنت أسعى إليه، وفتحت لي قلبك قبل أن أفتح لك قلبي والآن إذ برح الخفاء، وتم لي ما كنت أشاء، فأنا أقر أمامك بغرامي، وأعترف أنك حبيبي وبهجة أيامي، وقد ملكت قلبي، وسحرت لبي، وأن هذا الجسم الماثل لديك، تحييه وتميته نظرة من عينيك، ولكن هل غرامك طاهر شريف، أم إنك تخادعني لتنال مأربا دنيئا؟ فقلت: معاذ الله أن أخادعك كما يفعل النذل، وأن أضع شرفي موطئ النعل، وإنما أنا أحبك حبا أصفى من القطر، وأكبر من السماء والبحر، وأقسم لك بالله وأسمائه، وملائكته وأنبيائه، إنني أهواك هوى عذريا نقيا، أبقى عليه إلى أن أقترن بك أو أموت.
فعدنا عندئذ إلى المرسح وما كدنا نصل حتى دخل البارون، وعلى وجهه شيء أبيض علق به من خدود جوزيفا.
فقال لها: لا مرية في أن مكسيم لم يترك قصة لم يقصها عليك؟
فقالت: نعم، وإنني أشكر له لطفه، فقد قص علي نوادر لم ينلني معها ضجر.
ولما انتهى التمثيل استأذنتها بالذهاب، ومضيت على وجهي، لا أعلم كيف أذهب وأنى أسير، وجعلت أعدو في الطريق حائر الفكر رجلاي على الأرض وعيناي في النجوم.
الفصل الثالث
وأدركت ريتا أني أهوى لويزا، وأنها تهواني، فشحذت سيف الغرام، وأعدته ليوم الانتقام، ووقفت لي بالمرصاد، ترقب حركاتي أنى قصدت، وكيف كنت؟ مع جماعة أم على انفراد؟ وبينما كانت لويزا تضرب على البيانو في ذات يوم حانت مني التفاتة غرامية إليها، فابتسمت وتوردت وجنتاها، فرأت ريتا ما كان منا، وقامت من فورها، ودنت مني وقالت: «سوف ترى.» فأجبتها: «وأنت سوف ترين.»
ومضى على ذلك مدة، وأنا لا أستطيع الاختلاء بلويزا، ولا أجسر أن أشدد النظر إليها خوفا من عمتها، فضاقت بي الحال، وصعب علي الأمر، وجعلت أفتش على وسيلة أشرح بها لحبيبتي ما يخالج قلبي، وبعد الروية بدا لي الصواب، ورأيت أن المكاتبة أسهل طريقة لنيل المرام، وبلوغ المنى؛ لأن المكاتبة هي الزيت الذي ينير قناديل الحب، ومتى كان هذا الزيت موجودا في القناديل فلا يطفأ نورها، والمكاتبة نصف المشاهدة، كما يقول المثل السائر، وهي قبل العاشقين بل هي إرسال الشعائر والفؤاد، بصورة الورق والمداد.
فكتبت إليها كتابا مطولا، ووضعته في سفر، ودفعته إليها أمام أمها فأخذته وبعد ثلاثة أيام ردت إلي ذلك السفر وفيه هذا الكتاب:
حبيبي
ساءني أنك ترسل لي الكتب سرا، ولم ذلك إذا كنت عاشقا، فهل تخشى لومة لائم؟! أم لك ثمت مقاصد أخرى لا أعلمها؟! على أني لم أسئ بك الظن، ونسبت ذلك للظروف، قل لي متى عهد اجتماعنا أقريب يا ترى أم بعيد؟ وهل مدة هذا التعذيب طويلة؟ وهل تلك السعادة التي أراها في الحلم تتم عن قريب؟ إن عمي يحبك ويريد صالحك، فاطلبني منه فإنه لا يرفض طلبك.
وقد قلت في كتابك: إنك لم تنم غرارا منذ أسبوع، فأنا أقسم لك أنني لم أزل مسهدة الطرف منذ عرفتك، وهذا يدلني على أن عهدك بالغرام قريب، ولكن كيف كانت الحال، فإني أهواك ولا ألوي عن حبك ما دامت تجري في عروقي قطرة دم.
تقبلك بحرارة واشتياق حبيبتك
لويزا أسيرة هواك
فاضطرمت نيران الغرام بين جوانحي، وأقسمت أن أتجهم ريتا وأدوس قلبها وحبها، وأن أسقيها كأس النكال، إذا مكنتني من ذلك الأحوال، فجعلت أغلظ لها الكلام، وأسمعها أقوالا أفتك من السهام، وهي لا تزيد إلا هياما، ولا يزيدها الجفاء إلا اضطراما، حتى أوفت الدنيا على فصل الربيع، فحسبت أن مقاومة ريتا تنتهي مع فصل الشتاء؛ لتخلي في القلب مكانا لاستقبال الربيع، ولكن بئس الحسبان، فإن فصل غرامها كان في أوله.
وكتبت لي لويزا في هذا الغضون تعذلني على قلة مكاتبتي، وتنسب إلي قسوة القلب والسلوان فلم أجبها، وفي صباح الغد ذهبت إلى بيت فركنباك، فرأيت البارون والبارونة، وجونريت ولويزا مجتمعين معا كأن على رءوسهم الطير، كل ينظر إلى شيء ولا يفوه ببنت شفة، فعلمت أن عمي أرسل للبارون يسأله أن يفي بوعده، وقلت: اللهم هون العسير، فإنك على كل شيء قدير، وفي اليوم التالي وردني من لويزا كتاب هذا نصه:
حبيبي
أرى الكل يعبسون وجوههم بي من البارون إلى البارونة، إلى عمتي ولا أعلم لماذا؟ قد كان بالأمس ورد على عمي كتاب من افريه على ما أظن، فدفعه إلى عمتي فقرأته هذه، ثم قامت بغضب وذهبت معه إلى غرفة أخرى وتحدثا مليا، ولا جرم أن عمتي حالت دون مراد عمك، وإني لأعجب من ذلك مع ما أعهد لك عندها من المكانة والاعتبار، فماذا أصنع؟!
حبيبتك لويزا
فأجبتها بهذا الكتاب المختصر:
حبيبتي ومليكة فؤادي
كل ما جرى كان مقدرا، ويجب أن أخلو بك؛ لأحدثك بهذا الشأن مليا، فأنا أنتظرك غدا سحابة النهار، عسى أن الظروف تمكنك من المجيء إلي، أحسني الظن بشرفي وحبي، أقبلك.
حبيبك مكسيم
وفي الغد أقبلت تتمايل في تهاديها، كأنها الشمس تبدو بأبهى مجاليها، فاستقبلتها كما يستوجب الغرام من الحفاوة والإكرام، فقالت: إن مجيئي إليك لم تسبقني إليه عذراء من قبل؛ وذلك لاندماج اعتقادي على شرفك، والآن قل ما بدا لك، واختصر في حديثك ما تستطيع، فقلت: إن حل مسألتنا بسيط وصعب معا، فإذا انقاد البارون لإرادة البارونة يعظم الخرق، ويطمى البلاء، وإذا لم يطعها نبلغ المرام بأقرب وقت، وكيف كان الأمر، فإنني أبقى على عهدي، وأبذل في نيل المراد جهدي، وتأكدي يا حبيبتي أني أقطع كل المشاق والمصاعب للوصول إليك، وإذا فرقت بيننا الليالي؛ فإنها لا تستطيع أن تفرق بين قلبينا، ولا يقدر أن يفصلني عنك إلا الله تعالى والقبر، فقالت: وأنا أقسم أيضا بما أقسمت به، فقلت: وهل تأذنين لي يا حبيبتي أن أختم على هذا القسم بقبلة نجعلها يمين الأمانة والوفاء؟ فقالت: نعم، ثم انحنت علي، فقبلتها قبلة وقبلتني مثلها، ثم ودعتني ومضت.
الفصل الرابع
جهد الصبابة أن تكون كما أنا
عين مسهدة وقلب يخفق
ما لاح برق أو ترنم طائر
إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
جربت من نار الهوى ما تنطفي
نار الغضى وتكل عما تحرق
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ولما كان اليوم التالي جئت المكتب عند فيقة الضحى، فوجدت البارون جالسا على الطاولة ويده على جبينه كأنه يفكر في أمر صعب المراس، فحييته، فرد التحية بوجه عبوس، ثم نظر إلي نظرة ملؤها شفقة وحنان وقال: حدث بالأمس حادث فجائي، يسوءني أن أعلمك به عند الصباح، ويشق علي أن أقوله لك لعلمي أنه يرد الضحى في عينيك دجا، ويترك قلبك مشبوبا ولسانك متلجلجا، على أنني أردت أن أقول لك مخافة أن يقوله لك غيري دون أن يشرح لك ظروفه، فينالك سوء نخاف منه عليك، فقد جاءني كتاب من عمك يطلب إلي أن أخطب لك لويزا، فدفعت كتابه بالأمس إلى البارونة، فأخذته واختلت بأختها برهة، ثم عادتا إلي وقد رفضتا طلب عمك، وعارضتا فيه أشد المعارضة، وقد اتهمتك جونريت بأنك أغويت لويزا، وضربت لها موعدا، فاجتمعت بها في بيتك، فأنكرت عليك هذا الأمر، وغضبت ما غضبت ورأت أن تسافر عن باريس في هذا الصباح دفعا لمثل هذه المنكرات، وقد ودعناها اليوم بحزن شديد. •••
لو فاجأتني الصواعق المهلكات، بل لو هبطت علي السموات أو هوت بي البسيطة إلى أسفل الدركات، لما كنت أشعر بما شعرت به عندما فاجأني هذا الخبر المشئوم، فلا أقول إنني جننت، ولا أقول إنني اضطربت، ولا أقول إني يئست؛ لأنني لا أدري كيف أصف ما ألم بي، ولا أعلم ما هي العبارة التي تفي بهذا المعنى، بلى قد جننت وفر قلبي مني، وجمدت دمائي، وخمدت أعضائي، وهمدت أعصابي، وضل صوابي، إلا سمعي وبصري فإنهما نشطا لكن لتعذيبي، وزيادة أشجاني، فكانت العين مما ترى من المناظر تذكرني الحبيب الوسيم، وكانت الأذن مما تسمع من حفيف الأشجار، وهزر الأطيار تذكرني صوته الرخيم. لويزا ... يا رب كأني أسمع الأصداء والطيور وكل شيء تتجاوب بهذا الاسم، وكلها تقول «لويزا لويزا» ... ماذا يا رب هل كان مقدرا لنا أن نفترق اليوم؟ وهل كان مقدرا أن يضحى اليوم عاشقان على مذبح الغرام؟ •••
فلما رأى البارون حالي رثى لي، ثم أخذني من يدي، وذهب بي إلى البيت، وأنا لا أعي شيئا، وكلما رأيت شبحا حسبته الحبيب، وكلما سمعت صوتا ظننته صوته العذب الشجي، حتى دخلنا البيت، فاستلقيت على المقعد، وغرقت في نوم عميق.
وفي نحو الساعة الخامسة أفقت من النوم، فوجدت على الطاولة كتابا من ريتا تقول فيه: «حبيبي، سأكون عندك الساعة السادسة فانتظرني.» فاضطرمت بي جذوة الضرام، وثار بي ثائر الانتقام، فتأهبت للأخذ بالثأر، وقلت: لقد اقتص مني العاذل، وأنا أنتقم منه في ذات النهار، وسوف أؤلمها مثل ما آلمتني، وأعذبها مثل ما عذبتني، وأريها عذاب الجحيم، وأسلبها لذة العيش والنعيم، وسوف أطعنها بالخنجر الذي به طعنتني، وأسقيها من الكأس التي منها سقتني، وأرد كيدها في نحرها، وأحبس غلها في صدرها، وسأنتقم منها مثل ما انتقمت مني.
وبينما كانت أفكاري في حل ومرتحل، والأوهام تزحم في ضميري الأوهام مزاحمة الدول، دخلت من الباب، واستلقت على المقعد دون أن تلقي سلاما وهي تتنفس بسرعة، كأنها قطعت في المشي ألف غلوة، وجعلت تنظر إلي، وأنظر إليها وكل يقرأ ما في عين الآخر حتى افتتحت الكلام، فقالت: كأني بك تتأمل الفرق بين زيارتي وزيارة لويزا. - نعم، أتأمل ذلك، ثم ماذا؟ - ولا جرم أنك آسف على ذهابها بعد أن أحبتك وأحببتها، وشربتما معا كئوس الهوى العذري في هذه الغرفة الطاهرة التي أسميها مهبط الأسرار أو مسجد الأبرار، وقد كنتما كعروسين جميلين، تستقبلان الحياة بمسرة وبهجة، والهوى بينكما أليف مجار، كأنه طائر مختلف الألوان جميلها، يمسك بفمه سلسلة ذهبية تصل بين قلبيكما، ولكن هلا علمت أن ذاك الطير هو البجع؟! وأن النشيد الذي أنشده في هذه الغرفة هو نشيد الوداع، أم فاتك أن البجع يحبس صوته إلى أن يأتي على آخر عمره، فينشد نشيد الوداع ويموت؟! - ما لنا ولهذا الشأن، قلت في كتابك إن عندك أسئلة تلقينها علي، فما هي؟ هاتيها بإيجاز. - أتذكر يوم كانت قبلاتنا تدوي في هذه الغرفة كأنها موسيقى؟ أتذكر يوم ركعت على قدمي، وأقسمت أنك تكون أمينا مخلصا؟ أتذكر يوم طلبت قلبي فقدمته لك على كفي؟ فكيف ترمي اليوم بذلك القلب إلى الوحل؟! ولماذا تحنث بيمينك المغلظة؟ - كفى، كفى تحببا وذكرى، إنني أذكر كل ذلك، ولكني أذكر أيضا أن البارون أحسن إلي فأسأت إليه، وأكرمني فدست شرفه، وهتكت عرضه. - إذن إعراضك اليوم عني يكون حبا وإكراما للبارون ... - نعم، الأمر كذلك. - كذبت أيها الجبان، فإن هذا الفكر لم يطرأ عليك البتة، ولم يخطر لك ببال، وإن ادعاءك مين وتضليل، وإنك لنذل لئيم لا ترعى الذمة والود، ولا تعرف الأمانة والعهد، وإنك تكذب بعهدك وولائك، وتكذب بقسمك وبكائك، تالله لم تر عين ابن أنثى مثلك أيها الخائن الخداع، إذا كنت تحسب أن قلبي الذي قيدته بحبك ألعوبة في يديك، فوالله لألعبن بك كما يلعب الطفل بالطير، وأقسم بالله إنني أكون بينك وبين لويزا كسور منيع، تنبو عنه كلاكل الأيام والليالي، وأسفك كل دمي إلى آخر قطرة قبل أن تصل إليها، وهيهات أن يكون منكما ما كان بالأمس في هذه الغرفة. - صه، ولا تعيدي ما قلته، فإنك تنزلين البكر منزلة الثيب ، وتعرضين شرف العذراء الطاهرة للخطر، وتضعين البكارة موطئ الأرجل. - إن جونريت اغتدت، وهي أكبر حائل دون مرامك. - أظنك أخبرتها بما كان منا، وأن هنري هو ابن سفاح. - تقريبا. - إن قلبك أقسى من حديد هذا السكين.
فاغرورقت عيناها وقالت:
لا تلمني فإن قلبي أضحى
لك عبدا مقيدا بهواكا
ليتني أستطيع أن أقلاكا
أو لو اني أحب شخصا سواكا
يا حديد الفؤاد ليتك تدري
ما أسالت بمهجتي عيناكا - مكسيم، مكسيم، عد يا حبيبي إلي، وأشفق علي، وارحم فؤادي الكسير، صلني زمنا يسيرا، فأرد إليك حبيبتك السعيدة. - إن الموت أحب إلي من ذلك. - كفاني ما ألاقي من جفاك، إنني أنكب على قدميك، وأطلب لطفك ورضاك.
وكانت أعصابها ترتجف وقلبها يخفق، فأثر علي أن هذه المرأة التي لم تركع إلا لله - عز وجل - أراها تركع على هيكل الغرام، وأن هذه السيدة الغنية بالمال والجمال تطلب إلي حبي بذلة الفقراء فقلت: أسامحك بشرط أن تستدعي أختك إلى باريس.
فوقفت من فورها بسرعة وقالت: لا، لا، هذا لا أقدر عليه، إنني أقلاك، وسوف ترى مني العجب، قالت هذا، وخرجت تعدو على غير هدى.
الفصل الخامس
حبيبي
قد قامت الحواجز بيننا، وتصدت لنا الليالي، فهدمت آمالنا التي بنيناها وحكم الهوى بأن أهواك، ثم يحال بيني وبينك.
فنسبت ذلك ريتا لأمور دنيئة تدل على سوء نيتها، وقد كنت أحدد النظر إلى عيني أمي، لعلي أقرأ فيهما سبب جورها، ولكن عينيها كانتا أكتم من ضميري، فازدادت همومي وأحزاني.
وفي ليلة وصولي أصابتني حمى شديدة، وغشي علي، وكانت حالتي صعبة تنذر بالخطر، ولما صحوت رأيت أمي إلى جانبي، تضمني إلى صدرها، وعيناها مغرورقتان بالدموع، وفي اليوم التالي نظرت إلي شذرا، وقالت: أرى أنك تحبين مكسيم حبا شديدا، فقلت: نعم، وأبقى على حبه إلى أن أموت، فتأثرت لكلامي وقبلتني.
وما زلت أرى يا حبيبي أن روحا خبيثا يتداخل في شئوننا، وينثر ما ننظم، ويهدم ما نبني، ولكني أنتظر بثبات مسالمة الليالي وعودة صفو الأيام، وأنتظر بشجاعة لا مثيل لها أن يجمعنا الله، إما على وجه الأرض، وإما في السماء.
كتبت إليك خفية مخافة أن تعلم أمي، فتشدد علي النكير، وأرى من الصواب أن تكتب لها، وتطلعها على نواياك، وتستعطف قلبها عله يلين، وإذا شئت أن تكتب إلي، فليكن العنوان باسم السيدة م. ر. وإني متأكدة أنك حزنت لفراقي أكثر مني.
أقبلك بحرارة وشوق
لويزا
فكتبت إلى مدام جونريت كتابا كله دفاع وشكوى، وقلت: «إنني أتبرأ لك يا سيدتي مما اتهمتني به البارونة غيرة من لويزا.» وكتبت إلى لويزا كتابا هذا ملخصه:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبين لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
أما في النجوم السائرات وغيرها
لعيني على ضوء الصباح دليل
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي
فتظهر فيه رقة ونحول
حبيبك مكسيم
وبعد ذلك بأيام وجيزة جاءني كتاب من عمي، يأمرني فيه بالاستعفاء من خدمة فركنباك، فرأيت فكره غير حسن، وقلت ربما ينقلب البارون عدوا لنا، فيكون حاجزا آخر دون نيل الحبيبة، ولكنني دفعت كتاب عمي إليه، فقرأه وكأني به قد كاد الغيظ يقتله، فاحمر خجلا، ثم ضرب بيده على الطاولة ضربة قوية فانكسرت، ووقع الحبر على الأوراق فطمسها، وقال لا، لا أسمح لك بذلك أبدا، انتظر أيضا فما بعد الصبر إلا الفرج، إنني أكاد أذوب خجلا من عمك، ولا أعلم بماذا أجيبه فواخجلتاه، قال هذا بذلة وعبارات مملوءة بالرقة والحزن، فلما رأيت حزنه وشدة تأثره، وقعت عليه وطلبت عفوه.
الفصل السادس
قامت قائمة الخصام بيني وبين ريتا، وانقلب حبها إلى عداء، وغدت تترصد الفرص للانتقام مني، والتنكيل بي، وغدوت أهرب منها، ولا أطيق رؤيتها، وبعد ذلك الهيام والولوع بها صرت احتقرها وأقسو عليها، وأذهب إلى الحانات والنزهات مع الغيد الحسان قصد التشفي منها.
وبينما كنت ذات مساء في غرفتي تتناوبني الأفكار المهيجة، ويثير بي الحب عوامل الغضب، جاءني كتاب من البارون يقول فيه: «إن هنري مريض على شفا الموت فاحضر حالا.» فقمت من ساعتي، وسرت إلى بيت فركنباك مسرعا حتى دخلته، فرأيت هنري موسدا على سريره بلا حراك، والطبيب إلى جانبه يسقيه الأدوية والعقاقير، فلما رآني استبشر، وقال: إنني في احتياج عظيم إليك، ولو أمهلت ساعة لمات هنري؛ لأنه مريض بالدفتيريا، ويجب أن نجري له عملية جراحية للحال، ثم أخذ بين يديه مدية مسنونة، وقال اقفل الباب دون أهل البيت؛ كي نجري العملية بهدوء وسكينة، ففعلت كما أشار، فقال: أمسك رأسه ولا تدعه يتحرك كثيرا؛ لأن ذلك يضر به، فأغمضت عيني، وأمسكته على أن قلبي كاد يتفتت حين جرى دمه على يدي، وسال من أطراف أناملي مثل نهر متدفق، واضطربت يداي وقلبي، ولما أتم درتيل العملية مدده على السرير، وقال الحمد لله قد شفي هنري، فنظرت إليه فوجدت تنفسه معتدلا ودمه جاريا مجراه، وكانت تحوم على ثغره اللطيف ابتسامة جميلة كابتسامات الملوك، فابتهج قلبي، وسكن هائجه، وانزاحت عنه سحب الأحزان، وكأن حياتي ردت إلي فقلت: يا للعجب! كيف تتجاذبني العوامل المتضادة؟! وكيف تنتابني المفاعيل المتعاكسة؟ ألا إنني بالأمس كنت أطلب موت هذا الطفل وأتمنى هلاكه، فلماذا أنا الآن مسرور بخلاصه فرح لشفائه؟
ولما بشر درتيل البارونة بنجاح العملية، أقبلت إلى غرفة الولد وقبلته، ثم ركعت على سريره، وجعلت تصلي، وتحمد الله الذي أبقى لها ولدها الوحيد الذي يربط قلبها بقلب من تهواه، فقال لها درتيل: إنني أنام عنده في هذه الليلة لأتفقد حالته في الليل، فقالت: سيكون كذلك، وأنا ذاهبة الآن؛ لأبشر البارون.
وبقيت ريتا تعتني بابنها، وتسهر عليه إلى أن نقه وشفي وعاودته نضارته، وغدت صحته أحسن مما كانت سابقا، فجاءت ريتا تشكرني على اعتنائي بهنري، ومساعدتي الطبيب في العملية التي أجراها، فلاطفتها واحتفلت بها، وبقينا برهة نتبادل الحديث الرقيق، وبعد ما كان جرى بيننا من الجفاء والخصام انصلحت الحال بيننا واعتدلت.
ورأيت هنري مع نعمة في المنتزه، فلما رآني قال: بابا، بابا، فاقتربت منه وقبلته، واحتملته على يدي، وجعلت أداعبه، فكان يمد يديه إلى جيبي، ويمسك سبالي، ويعض أناملي، ويرمي برنيطتي، وبقي معي كذلك نحو ساعتين، وكنت أرى الزهور أقل منه جمالا ورقة، وأرى النجوم أقل منه تألقا وبهجا، ولا جرم فإن الحب كان يريني إياه كذلك.
وبينما أنا جالس في وقت من الأوقات جاءني من جونريت هذا الكتاب:
أكتب إليك لأسألك أن تكتب إلينا وتطلعنا على أحوالك؛ لأن لويزا مشتاقة إليك، تود أن تستطلع أخبارك، وهي مريضة طريحة الفراش، أصبحت شاحبة اللون خائرة القوى، وحل السقم محل ذياك الجمال الفتان، وتلك الطلاقة الطبيعية، بل غدت مثل رسم دارس أو هيكل من العظام متداع، وقد عادها الطبيب مرارا، فلم تنجع بها أدويته، وقر قراره أخيرا على أن فكرها هو علة دائها، وأنه لا برء لها إذا لم تترك الأوهام التي في رأسها.
وكانت تأخذني عوامل الشفقة عليها، فأهم أن أدعوك إلى انجة لأزوجكما عندي، ولكني لا ألبث أن أرى هذا الرأي فاسدا ضعيفا؛ لأن البارون وعد لويزا بصداق، فإذا تزوجت بغير علمه ربما تمنعه ريتا أن يفي بوعده، وإنني أؤمل أن ينتهي هذا المشكل عن قريب.
فأخذت الكتاب وذهبت إلى البارونة، وأخبرتها بأن لويزا مريضة، قد أشرفت على الموت، وسألتها أن ترأف بحال تلك الصبية التعيسة، فقالت: إن ما تطلبه مناط الثريا أقرب إليك منه، وإدراك السهى أهون منه عليك، وأنا لا أستطيع إلا مقاومتك وخصامك؛ لأنك تركتني شروى عصافة في ملعب الأهواء، وإنني أشكر الله الذي رزقني منك ولدا يقيد قلبك بقلبي، وإن هذا الولد أنقذني من ارتكاب جريمة القتل، ثم قالت: أتعلم ما قال لي درتيل يوم كان هنري مريضا؟ - لا. - قال: إن حياة هنري بين يدي، وإذا شئت فإني أشفيه. - إن درتيل لص. - أترى كيف أنك لا تزال غيورا علي، فكيف تريد إذن ألا أغار عليك أنا، اعلم أنك إذا تزوجت بلويزا رغما عني فإنني أقتلك وأقتلها وأقتل نفسي، وأتخلص من هذا العذاب.
الفصل السابع
مضى على هذه الحال سنة كاملة والأيام غافلة عني، والليالي تعذبني، وكلما درج يوم مر جاء يوم أمر منه، وقد عمدت للانتحار مرارا، ثم عدلت عنه خوفا على لويزا أن تفعل كذلك.
على أن الأحزان مما أردمت علي أزوت زهرة شبابي، ونشفت ماء أهابي، وغادرتني ضعيفا نحيلا، لا أجد إلى السلوى سبيلا، وكانت كتب لويزا تأتيني كل يوم مملوءة بالأخبار المحزنة والأنباء المقلقة، فيزداد شجني، ويشتد حزني، وكنت كلما نظرت إلى كتبها أرى أثر الدموع عليها، فيخفق قلبي، وتنسكب دموعي، وبلغ بي الضعف حتى غدوت لا أستطيع الوقوف والمشي، وأخذ مني التحول حتى غدوت حيا بصورة ميت أو ميتا بصورة حي، فاعتزلت عن الأشغال، واستسلمت للأكدار والخيال. •••
وفي ذات يوم، بينما كنت جالسا في زاوية البيت أتنهد تنهد المطعون، والعبرات ملء الجفون، دخل درتيل علي مسرعا، ولما رآني تسابقت من عينيه العبرات، وغلبت عليه التنهدات والتأوهات، فقلت: ماذا يا درتيل أتبكي علي قبل أن أموت؟ أم إنك رأيت علي دلائل الموت، وحكمت أنني لا أكمل هذا النهار؟!
فقال: قد مات هنري يا مكسيم، قد مات هنري، وذهب تعبي سدى، ولم يفده العلاج، وقد انقضت عليه المنية مثل الصاعقة، وقبضت على روحه الطاهرة البريئة.
فلما سمعت هذا الخبر صحت صيحة هزت البيت، وأزعجت الحي، وشبت النيران بين جوانحي شبوبا هائلا، وانسكبت الدموع من مقلي انسكابا غريبا، وكدت أن أقع على وجهي لولا خوفي من درتيل.
فقال: إن ريتا لما رأت ابنها ميتا سكنت سكونا تاما، وإني أخاف عليها أن تنتحر، فهلم بنا نذهب إليها، لعل وجودك عندها يعزيها.
وكانت السماء غائبة بغيوم كثيفة، تسير في أطراف الجواء ذهابا وإيابا، وكلما مرت دقيقة تتلبد هذه الغيوم وتسود، وكان الهواء باردا قارصا يلتطم بالبيوت والأشجار بشدة مخيفة، فسرت مع درتيل تحت هذه السماء المهيبة. العين حائرة، والقوى خائرة، والمهجة طائرة حتى وصلنا بيت فركنباك فولجناه بسرعة، وكان الطفل موسدا على سريره محاطا بالزهور والرياحين، وكان فركنباك في غرفته يبكي، وكانت ريتا راكعة على سرير الميت تقبله وتودعه، أما أنا فجلست بجانبها، وجعلت أبكي وأتنهد، وأقبله مرة بعد مرة، وأقول كلمات محزنة تفتت الأكباد، وليتأمل القارئ هنا كيف كان موقفنا ساعتئذ؟ وكيف كانت أحزاننا وحسراتنا؛ لأن القلم يعجز عن وصف ذلك.
ولما كان العصر أتى إلي الخادم وقال: إن مدام جونريت قد أتت من انجة الآن، وهي تحب أن تراك، فبادرت إليها، وقبلت يديها، ووقعت على قدميها، وقلت بصوت حزين: أين لويزا؟ وكيف هي؟
فقالت: هي مريضة ولم يأذن لها الطبيب بالمجيء، وقد غدت ضعيفة لا تعرفها إذا شاهدتها، وغاب جمالها، وضيع الهزال بهاءها، وحسن تكوينها، وبعد تلك الزهوة أضحت لا تتكلم ولا تضحك، ثم أطرقت هنيهة وقالت: أخذتها بالأمس من يدها، وقلت لها: إني مسافرة إلى باريس لأرى ماذا حل بحبيبك مكسيم؟ وما صارت إليه أحواله، وقصدي أن أصلح بينه وبين ريتا، فيجب عليك أن تسري الأفكار عنك كي يعود إليك جمالك القديم ليراك به الحبيب، ثم ودعتها وسافرت. - كنت أعلم يا سيدتي أن لي أما واحدة تحبني، ولكني أرى اليوم أن لي اثنتين. - يجب أن نتدبر الأمر بسرعة، وأظن ريتا لا تعارض أيضا في زواجك.
فذكرت عندئذ كلام ريتا يوم قالت: إنك لا تتزوج بها ما دمت حية، وإنني أقتلك وأقتلها قبل أن تصل إليها. •••
أي بني، لقد أتاك المنون سريعا، فلبيته مطيعا، وقضيت رضيعا. أي بني، ما سلمت حتى ودعت، وما أفقت حتى هجعت، ولم يكحل الدهر عيني بمرآك حتى سلبني إياك، أتراك يا ولدي سئمت البقاء، وكرهت الأحياء، فأزمعت سفرا طويلا، وابتغيت في غير هذه الدار مقيلا، فإذا لاقيت وجه الله فقل اللهم اغفر ذنب والدي، فهما جنيا علي.
هذه هي العبارات التي كنت أرددها سرا حول سرير الميت، وكان موسدا ومحاطا بالأزهار والرياحين لابسا ثوبا أبيض من الحرير الناعم، وكان رأسه موسدا مخدة من الحرير أيضا محشوة بريش النعام.
ثم أتوا بالنعش، وكان من الصندل المغشى بالنقوش المذهبة الجميلة، فاقترب درتيل من الطفل يشاء أن يضعه في النعش فنظرت إليه ريتا نظرا مخيفا، وقالت: دع هذا الأمر عنك، فأنا أحق به من سواي.
ثم أخذت الميت كما كانت تأخذه يوم كان حيا وقبلته قبلا تشف عن فؤاد حزين ثاكل ، وقالت: هذه آخر قبلة يا ولدي المحبوب، وهذه آخر نظرة تتذودها أمك الثكلى، وهذه آخر مرة تضمك إلى صدرها المتقد الولهان، ووضعته في النعش، وجعلت المخدة تحت رأسه، كأنها خافت أن يناله ألم، ثم فرشت الأزهار على رأسه وصدره، وقالت: أهذه هي النومة الأخيرة أم أراك أيضا يا ولدي؟ أي بني أستودعك جماد القبور، وما كنت أرضى لك مقاما غير الصدور، أوتوسد التراب والعظام! وما كنت أرضى لك وسادة ريش النعام:
أتفجعني يا ابني وأنت سعادتي
فيا مثكلا قلبي إلى أين مزمع
وما كنت أرجو أن تكون مفارقي
وما كنت أرجو أن أراك تودع
ترى لهذا البين أفديك آخر
وهل لزمان الصفو والأنس مرجع
فيا ولدي إني لأودعك الثرى
ولكن قلبي في ضريحك مودع
ويسقي ضريحا ضم جسمك مدمعي
وما هو إلا مهجتي تتقطع
أرى نور هذي العين أصبح سافعا
على أن هذا الصبح أدجى وأسفع
وليت نحيبي كان بعدك مجديا
وليت التأسي بعد بينك ينفع
تعذبني الذكرى ويقلقني الأسى
وتصرعني أيدي الليالي فأصرع
دعاك الردى طفلا فلبيت مسرعا
ولست بدار ما الفراق فتجزع
لئن كنت يا شطر الفؤاد سبقتني
فإني أوفيك الوداع وأتبع
فلم يبق أحد من الحضور إلا انفطر قلبه لهذا الوداع.
ولما حملوا النعش تعلقت به، وهمت أن تأخذه منهم، ولكنهم أخذوه برغمها، وساروا، فوقفت أمام النافذة، وجعلت تنظر إليهم، وتنوح إلى أن تواروا:
ولما دفنا ذلك الطفل في الثرى
غدونا وكل قلبه متفطر
وما فجعت غيري المنون وإنما
رجعنا وكل دمعه متفجر
ولما وصلنا إلى البيت أخذ درتيل البارون من إبطه إلى غرفته الخاصة، أما أنا فوجدت جونريت مرتمية على المقعد بلا حراك، فاقتربت منها، وجعلت أسكب الماء على وجهها إلى أن أفاقت، فلما رأتني نظرت إلي نظرة محزنة، وجعلت تبكي وتنوح، وتلطم خديها، ثم أشارت بيدها إلى غرفة ريتا، وقالت بصوت متقطع، ماتت ... ففاضت الدموع من عيني، وخفق قلبي من شدة الجزع، وذكرت عندئذ ما قالته لي آخر مرة اجتمعت بها: «إنني أعيش لأجل هنري ، فإذا مات فإما أقتلك وإما أنتحر.»
قالت بعد أن ذهبتم إلى القرافة طرقت باب غرفتها فلم يجبني أحد، ثم سمعت طلقا ناريا، ثم أنينا، ولم أعد أسمع شيئا، فهرع الخادم وكسر الباب، وإذا بها تختبط بدمائها، وكانت على آخر دقيقة من عمرها فدنوت منها وقبلتها وبكيت، فنظرت إلي نظرة، وقالت: مكسيم، مكسيم، ثم فاضت روحها، فلما سمعت كلام جونريت نهضت إلى غرفة ريتا، فوجدت الباب مكسورا فدخلت وإذا الحبيبة ملقاة على السرير الذي كنت أرى فيه غير هذه الجثة الباردة، وكانت مقاطع وجهها التي غيرها الهوى والأحزان قد استكانت، وعاد لها جمالها القديم، وكان ثغرها مبتسما، كأنها أدركت بالموت راحة ونعيما.
وكانت يدها لم تزل ممسكة بالغدارة، وعلى صدرها ثقب كبير فيه دم متجمد، وفي حالها هذه ما يدل على أنها ماتت مسرورة، وأن يدها لم ترتجف حين إطلاق النار. (تمت)
অজানা পৃষ্ঠা