الازدحام والضجة التي قابلتها بنفسي أول الأمر فرضت بعد قليل نفسها علي، وأعنف الأفكار وأحدها قد يذيبها من العقل تماما وجودك في حضرة إنسان. إنه وهو الكائن الحي المتحدث أشد مفعولا من أعمق الأفكار. فما بالك وهم عشرات من الكائنات الإنسانية الحية التي جلست تحكي قصتها مع المرض، وتطلب بأمل وإلحاح علاجك ورأيك. ذهب فجأة كل ما كان يشغل بالي.
ولم يعد رأسي سوى مكان التقاء وتفاعل بين الداخل إلى حجرة الكشف أو الخارج منها وبين كل ما درسته ووعته ذاكرتي من معلومات، وفي خضم فرحتي بالعدد الكبير من الناس الذي أصبحت محل ثقته وملجأه لم يدهشني كثيرا أني وجدت بعضهم لا يعاني من أي مرض بالمرة، وعزوت هذا للوهم أو لذيوع صيتي في الحي ورغبتهم في عرض أنفسهم علي.
ولم يحتج الأمر وقتا طويلا لتظهر آثار واضحة لهذا الإقبال غير المتوقع؛ فقد زارني صاحب الأجزخانة المجاورة ليلتها، وبدأ حديثه بعتاب طويل لأني أمر عليه ولا ألقي السلام ولم أزره ولو مرة، وأنهاه باستعداده لأية خدمة ولأي تخفيض، فقط ما علي إلا أن آمره. وكذلك جاء أناس أفندية وأولاد بلد من الحي لا أعرفهم كان عنتر يقدمهم لي ويضخم في أسمائهم ويعدد مناصبهم ونفوذهم، وكانوا هم يحبونني ويشيدون بي وبمهارتي التي «طبقت شهرتها الآفاق»، وكنت أخجل أنا وأتواضع وكأن شهرتي كطبيب قد طبقت الآفاق حقيقة، وكان عنتر في خير حالاته، يضحك ووجهه السمين يلمع بالعرق والاحمرار والانفعال. ولم تنته العيادة إلا في منتصف الليل، وكان الإيراد يسمح لي بأخذ تاكسي لو أردت، ولكني آثرت أن أقطع المسافة بين بولاق والزمالك سيرا على الأقدام، كنت في حاجة لدقائق أخلو فيها لنفسي بعد هذا الازدحام، حاجة ملحة لم يكن يمنعها إلا العمل المستمر، وكنت أريد أن أفكر في الخلاء في الخارج، بعيدا عن البيت وفراشي وحجرتي، وكأني كنت آمل أن يتغير طعم أفكاري إذا غيرت المكان، ومن يدري؟ ربما وجدت أيضا ما أبحث عنه وما شيبني البحث عنه.
وعدت إلى البيت ماشيا أفكر كما أردت، ليس هذا فقط بل انقضت بضعة أيام - ثلاثة أو أربعة لا أذكر - وأنا أيضا أفكر، لم تكن سانتي قد جاءت خلال تلك المدة أو سمعت عنها شيئا، وكنت لا أزال في نفس الحالة، بل تقريبا أعيش في نفس اللحظة التي غادرتني فيها وأنا أنادي عليها وهي لا تجيب. وكلما كنت أغرق في التفكير كان اضطرابي يزداد، ولم يكن هذا لتخلخل أصاب ثقتي بنفسي، ولكن لأني في الحقيقة لم أكن أعرف ماذا يجب علي أن أفعل تجاه هذا المستحيل الذي قررت أن أقهره وأنتصر عليه.
في كل ثانية من تلك الأيام القليلة كنت إذا رفعت الغطاء عن عقلي وجدته يسأل نفسه: ماذا يجب علي أن أفعل؟ يسأل وفي نفس الثانية يرفض كل ما يقترحه على نفسه من إجابات وحلول. كنت أحس أني عاجز عن التصرف تجاه هذا الموقف الجديد علي، لو كنت قد قررت أن أخترع صاروخا يوصلني إلى القمر مثلا باعتبار أن هذا شيء مستحيل على شخص مثلي لكان الطريق واضحا، ولكان علي أن أبدأ فورا في دراسة كافة الحقائق المتعلقة بالموضوع. أما وهدفي كان أن أحتفظ بسانتي وأجعلها تحبني على الرغم من إدراكي أن هذا شيء مستحيل، فلم يكن أمامي ثمة طريق ممكن أن أتبعه، هل «أتقل» عليها؟ وكيف أتقل عليها وهي بعيدة عني؟ هل إذا جاءتني أتجاهلها وأقابلها مقابلة عادية جدا وأمثل أمامها دور الزاهد فيها المشغول بغيرها؟ ولكن ربما دفعها هذا لأن تزهدني هي أكثر وأكثر. هل أقبل عليها وأركع أمامها؟ ولكن سلوكا كهذا لا يمكن أن يدفع امرأة في الدنيا للحب؟ هل أكتب لها؟ ولكني كتبت وكتبت، وقلت كل ما يمكن كتابته، وتكلمت معها وتكلمت حتى قلت كل ما يمكن قوله، لدرجة أني ذات مرة قلت لها: أعتقد أني تحدثت كثيرا. فابتسمت وقالت بقليل من الجرأة: يبدو أنك تتحدث أكثر من اللازم فعلا. بل ما زلت أذكر ضمة شفتيها وهي تنطق «أكثر» بالإنجليزية. هل أقدم على عمل آخر؟ ولكنها ضاقت بما فعلته بطريقة أزعجتني وأخجلتني. وحتى ما فعلته كان سببه ذلك الأثر الخاطف لقبلتها، كان شدة انفعال مني لا أكثر؛ إذ إني أبدا لا أستطيع اغتصاب قبلة منها عن عمد وإصرار. ثبت لي هذا وأعرف أكثر أن الذي يغتصب هو من لا يحب، أما من يحب إنسانة ما فهو لا يستطيع أن ينالها رغم نفسها أبدا.
في كل ثانية كان السؤال يدور بإلحاح في عقلي، وفي كل ثانية أطرح عشرات الإجابات وأرفضها وأحس بالعجز والتعب فأروح أحلم، أحلم أني استطعت أن أجعلها تحبني بطريقة ما، وأحلم بسعادتي حين يحدث هذا، أحلم بالمستحيل، أو يدفعني العجز إلى الشك فأقول لنفسي: لماذا لا تكون في هذه اللحظة بالذات التي تفكر أنت فيها مع شوقي مندمجة في حديث ساحر معه؟ لماذا لا تكون واهما وعلاقتكما قد انتهت من نفسها إلى الأبد وهي الآن تبحث عن علاقة أخرى وشخص آخر؟
وهكذا أجد نفسي بلا وعي أبحث عن شوقي وأتعمد أن أقضي معه أكبر وقت ممكن. ولكن لم يكن باستطاعتي أن أبقى معه طول الوقت. كانت أعماله كثيرة، وخروج البارودي قد أشاع موجة نشاط غامرة في المجلة وفينا بشكل عام، لا لأنه حمسنا، ولكن ربما لمقاومة آثار خروجه، وللحيلولة بينه وبين أن يعود رئيسا مرة أخرى للتحرير، ولكنا كنا نكبت رغبتنا الخفية هذه في أنفسنا ولا نعارض عودته جهرا، وهو أيضا لم يكن يبدي رغبته في العودة عيانا بيانا، بالعكس كان يصرح دائما بأن مرض عينيه سيعوقه، وأنه في حاجة لإجازة طويلة يعالج فيها بصره، وفي نفس الوقت تزداد حركته وتتضاعف، ويخرج من اجتماع ليدخل في اجتماع، ويناقش ويتدخل في كل كبيرة وصغيرة، ويقترح فإذا لقيت اقتراحاته معارضة يحاول شيئا فشيئا أن يفرضها، ولم يكن ينافسني في البحث عن شوقي والالتصاق به والبقاء معه ليل نهار إلا هو. بدا أنه من أول وهلة لمس بذكائه الخارق أن شوقي هو رأس الرمح في التيار الثائر الجديد، وأنه قائده، وأن هناك إجماعا على أن يبقى في منصبه كرئيس للتحرير حتى بعد خروجه هو، رئيس التحرير الأصلي، ولو كان شوقي ضعيفا أو أقل كفاءة لسحقه، ولكن أحمد شوقي اسم وكفء ومحل ثقة الجميع، وفوق هذا وذاك تلميذ البارودي وصديقه. الطريقة المثلى إذن أن يحيطه ويأخذه تحت جناحه، حتى إذا ما ابتلعه وأعاد صياغة تفكيره أصبح تحطيم بقية هذا التيار الصاعد مهمة سهلة. أفكار كهذه كانت كثيرا ما تخطر لي وأنا محموم أبحث عن شوقي، وأجد البارودي هو الآخر لا يقل عني شغفا في البحث عنه. أنا أريده من أجل سانتي، وهو يريده من أجل رئاسة التحرير. وكثيرا ما كان يختفي شوقي وأسأل عنه في المطبعة فلا أجده، وأسأل عنه في بيته فلا أجده، وأكاد أقسم لنفسي حينئذ وأقول لا بد أنه معها. ويؤلمني تفكيري على هذا النحو، لا لخوفي أن يكون معها، ولكن لأني لم أكن أعتقد أن سيأتي يوم أنظر فيه لأحمد شوقي - الصديق وزميل المعركة ورفيق السلاح - تلك النظرة المغرقة في بعدها عن نوع علاقتي بسانتي وحبي لها إلى هذا الدرك؟ إلى هذا السرداب المظلم المتعفن الذي أنسى فيه نفسي وقيمي ولا أعود أحكم على أعز الأشياء وأقدسها إلا من خلال علاقتي بها؟
عذاب ما كنت أحسه، أبشع أنواع العذاب. إذا سألت نفسي ماذا أفعل عذبني السؤال، وإذا أجبت عذبتني الإجابة، وإذا حلمت تعذبت، وإذا شككت أقاسي أمر الهوان.
كل قوتي وكل طاقتي وإرادتي وقدراتي كنت أجمعها وأحشدها وأحيا بها المشكلة محاولا أن أجد المخرج، وأفظع شيء أن تجمع قواك كلها لتفعل بها لا شيء، كياني كله يزأر، وكل خلية في تعوي وتصرخ، وأعتصر نفسي كلها وأفكر، وأخرج من هذا كله بلا شيء، حتى قارب تفكيري في نهاية تلك الأيام القليلة أن يصبح لونا غريبا من التفكير، مجرد تفكير متصل طويل لغير ما هدف أو فكرة، تفكير على الفاضي، تحس في لحظات أنه على الفاضي وأنك لا تطحن به فكرة محددة، وإنما تفري به عقلك، ومع هذا لا تستطيع أن توقفه أو تكف عنه.
وبمثل ما توقفت توقفت الحياة من حولي، العمل لا أذهب إليه، والطعام بالكاد أتناوله، وحتى الكتابة في المجلة كدت أتوقف عنها.
অজানা পৃষ্ঠা