مؤمن أن إرجاعها هذا أمر مستحيل، ولكنه أيضا مؤمن أن من المستحيل أن يقهره المستحيل أكثر من هذا، مؤمن على أنه قادر على قهر المستحيل.
بعد أقل من عشر دقائق كنت إنسانا آخر قد رش وجهه بالماء على عجل، وارتدى البدلة، ومضى يقطع طرقات الزمالك كمن فقد صوابه، ويتشعبط على طرف السلم في أول أوتوبيس قادم ليقطع الثلاث المحطات التي تفصل بينه في الزمالك وبين شارع بولاق الجديد، كان لي يومان لم أذهب فيهما إلى العيادة.
أدركت هذا فجأة بعد آخر نداء أطلقته وراء سانتي، وكمن يتخبط من النقيض إلى النقيض، وكمن يستخرج نفسه من الضياع الكامل ليلقي بها في أي طريق آخر لمجرد أنه يؤدي إلى شيء واضح محدد يمكن عمله، وجدتني لم أعد أفكر إلا في ضرورة الذهاب فورا إلى العيادة وبأي ثمن. وكان شارع بولاق الجديد مزدحما كعادته طوال الليل والنهار، مزدحما بأناس أحس أني غريب بينهم، خجلا منهم ومن نفسي خجلا لا أعرف سببه وكأني خيبت آمالهم في شيء، وما كدت أقطع بضعة أمتار حتى فاجأتني صيحة: شوف الراجل يا خويا، نستناه امبارح ما يجيش وأول ما يجيش، حمد الله ع السلامة.
وعرفت أنه عنتر حتى قبل أن ألتفت، ولأول مرة وجدته وحيدا من غير عبلة، وسألته عنه وهو بالكاد يحاول أن يلاحق خطوي الواسع، فأشاح بيده وقال: الولية مراته أصلها بتولد النهاردة، راح يشوف لها فرختين، أصل خايف لحماته تدبح فراخ من اللي مربينهم فوق السطح، أصلهم بيبيضوا، خسارة.
واستغربت لكلامه؛ فقد بدا وكأنما يأتيني من عالم آخر، من دنيا مارست فيها الحياة يوما ثم أصبحت في دنيا ثانية، أيهما الحقيقي يا ترى، ما أحيا فيه أو ما أسمع عنه؟ الناس تحيا وتتزوج ونساؤنا تلد، والدجاج يبيض بغير مشاكل، وحتى إذا وجدت المشاكل فالحل جاهز لا يحتمل إلا مجرد التنقيب، أين هذا من مشاكلي أنا؟ عنتر وعبلة وهؤلاء الناس الذين يزحمون الشارع بإسراعهم وصخبهم يضيقون بالحياة مثلما أضيق أنا بها، ولكنهم يحبونها أيضا، يحبونها ويضيقون بها، أما أنا ما أتعسني! أنا لا أريد أن أحياها إلا كما أريد، هم يغيرون تفاصيل الحياة لتروق لهم، وأنا أريد أن أغيرها كلها جملة وتفصيلا لتروق لي. أريد أن أفعل المستحيل ولا أرضى بأقل من المستحيل.
إما حياة كاملة كما أريدها أو لا حياة، لماذا لا أحيا مثلهم؟ لماذا ليس باستطاعتي أن أساوم؟ لماذا خلقت هكذا؟
لم أتوقف لألتقط أنفاسي أو أجمع شتات أفكاري إلا حين وضعت قدمي على باب العيادة، ونظرة واحدة ألقيتها على الصالة أذهلتني وأوقفتني في مكاني لا أجرؤ على الدخول. كانت الصالة مزدحمة إلى آخرها بالمرضى المنتظرين، ازدحاما لم تشهد العيادة الصغيرة مثله، ازدحاما بلغ من شدته أن بعضهم كان قد فضل أن ينتظر بالخارج وحين ظهرت جاء يتبعني ويملأ المدخل. والنظرة الثانية ألقيتها على عنتر، كان قصيرا سعيدا متهدلا كعادته، ولكن كان على وجهه ابتسامة من يخفي في جعبته شيئا.
وقلت له همسا: إيه دول؟
قال: عيانين، أمال ... مش قلت لك يا دكتور ح تفرج، ده بعضهم مستني هنا، علي الحرام، من أول امبارح، خش خش.
ودخلت، كنت قد حضرت وفي ظني أن العيادة ستتيح لي مكانا جديدا أستخرج فيه أفكاري على مهل وأعيد النظر فيها، ولكن شد ما خاب أملي:
অজানা পৃষ্ঠা