أعداؤنا ذاهبون إلى قبرص. ترى هل تنزلق شمس الإمبراطورية عن قبرص؟ ترى عن قريب؟ ترى هل يضيف العسكري الإنجليزي إلى صدره - وقد ازدحم ساعداه - وشما آخر يدقه في نيقوسيا، ويكون الوشم الأخير؟
أعداؤنا يرحلون، فلتتبعهم الهزيمة أنى يرحلون.
بورسعيد يونيو 1956
صح ..
كان واضحا أن الصبي لا يمت إلى جاردن سيتي أبدا!
فصبي حاف مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلع، وفيه نتوءات كحبة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» ... صبي مثل هذا لا يمكن أن يمت أبدا إلى جاردن سيتي، حي القصور والفيلات والسفارات.
أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضل الطريق، والغريب أنه لم يكن حزينا ولا مبتئسا أو خائفا .. كان في الحقيقة يبدو منتعشا طروبا.
كانت الدنيا في ساعتها الأولى، والشمس تلون الأرض وحسب ولا تلهبها، والبنايات غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يسمع من أصوات إنما كان يأتي من العصافير والبوابين الضخام السود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرسون القصور، ويرتدون الجلاليب البيضاء الواسعة والعمامات المضحكة الكبيرة.
كل ما في الجو كان يوحي بالبشر ويبعث على النشاط، والولد يمضي على غير هدى في الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البنايات والأشجار والنحاس الكثير اللامع، ويصفر، ويدندن أحيانا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقص فيمد كلا من قدميه مكان الأخرى، ويسير أحيانا بعرض الشارع، وأحيانا يرفع قدمه ويمسكها بيده من الخلف، ويحجل على قدم واحدة، ولسانه يلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنقيق الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتل وجهه كله تعبير خالي البال المستمتع بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يفسد المتعة .. لا عمل، ولا أب، ولا أسطى!
وتعثر فجأة في شيء، ووجعته قدمه، وانحنى فوجد أن ما تعثر فيه كان قطعة حجر بيضاء، فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتف بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحجر إلى الأمام مسافة ثم توقف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربة قوية أخرى، فطار الحجر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدق فيه مليا؛ ليتأكد أنه ليس شيئا ذا قيمة، واستأنف المشي وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غير الحركة فأمسك الحجر في قبضته ومد سبابته لتلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أصبعه آلمته؛ فقد استبدلها بالحجر وتلفت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطا أبيض .. وأعجبته اللعبة فاستأنف المشي وهو يمر بالحجر على الحائط ، فيرسم خطا أبيض يبدو واضحا فوق الجدران الأنيقة الملونة، ورسم خطا على طول سراية آل سليمان، ثم مده إلى أن وصل عمارة الفكهاني، ثم فيلا سمعان، وعبر الشارع واستأنف حك الحجر بسور حديقة السفارة الأمريكية.
অজানা পৃষ্ঠা