كان ثمة هدوء على الشاطئ. هدوء متكاتف ثقيل. والهدوء حين يتكاتف ويستتب يصبح شيئا مروعا، وكانت الدنيا «ليل»، والبلد ساكنة هامدة بجوارنا. بيوتها أشد سوادا من الظلام. بيوت قديمة متراصة، حيطانها لا تحتمل البرد، وطوابقها متآكلة متساندة كجماعة من خفر الليل العواجيز.
وتجاهنا شارع واسع جدا لا يسمح ضيق البلدة باتساعه، وتلمع فيه برك ماء، وتتجمع على حوافه أكوام من قشر الأرز الذي تنفثه ماسورة طويلة تمتد عبر الشارع وتنتهي من مضرب الأرز، أعلى بناء في البلدة، والبناء الوحيد الصاحي؛ إذا كان يعمل رغم إطفاء الأنوار والأوامر. وتتصاعد دقات وابوره لب دب. لب دب .. لب دب. موحشة كئيبة في البلدة المظلمة، كأنها القلب لا يزال يدق في جثة ماتت وشبعت موتا.
وكان قاربنا واقفا على حافة البحيرة وظهر البلد إليه. وكنا إذا التفتنا إلى البحيرة ضاعت أبصارنا بين البحيرة الراكدة المظلمة في السماء، والسماء التي استقرت بنجومها في قاع البحيرة، وكان قلع المركب مطويا، نرى بدايته القريبة منا، ولا نرى نهايته المذابة في الظلام. وكنا أربعة، والقارب صغير، وحلمي مضطجع، والريس جالس القرفصاء مستندا إلى الصاري، والريح نائمة، ودق الوابور يصل إلينا بانتظام يضايقنا انتظامه، وأنفاسنا تتقارب وتتباعد، والأحداث كثيرة، وغريبة، ومتتابعة، وكلها تحدث في يوم واحد، ونتنفس بعمق فتمتلئ أنوفنا برائحة الزفارة. كل ما في البلدة يضج بها. الأرض والبيوت ورغبات الناس والقوارب .. فالبلدة أهلها صيادون، والسمك صناعتهم، وفي كل مكان تجد آثاره، والقارب يهتز اهتزازات خفيفة، يجذبه موج صغير إلى الداخل ، ثم يدفعه الموج الكبير ليصفع به الشاطئ، والريس كوعه فوق ركبته، ويد من يديه ممدودة إلى آخرها، واليد الأخرى فوق الدفة ورموشه الطويلة مسبلة، وفمه نصف مفتوح، ويكاد شخيره يتصاعد.
واهتز القارب، وتحرك واحد، وخرجت في الظلام علبة سجائر، وتناولناها كلنا، وأخذ الريس سيجارة .. وضعها بين أصبعي يده الممدودة ورفض أن يشعلها.
ومضى الدخان يتصاعد من أنوفنا وأفواهنا في صمت، والبقعة التي نحن فيها أصبحت صفحة سوداء. فيها لطع بيضاء، تحدد هيكل القارب، وولعة أربعة سجائر تتوهج، وفوانيس النجوم الصغيرة تتأرجح، وناب الريس البلاتيني يبرق.
وقال حلمي فجأة: دا مش كلام، ما نرجع أحسن.
قال هذا وهو ينتفض بشدة ويقوم. ومال القارب حتى كاد ينقلب، وارتطمت جبهته ارتطاما عنيفا بالصاري حتى إنه صرخ، وما كاد القارب يعتدل حتى كانت يده تتحسس جبهته، وحتى كان يقول: أنا اجرحت يا جماعة، والله اجرحت، ياه، ده فيه دم، إدوني منديل.
وحدثت ضجة، وتناثرت الشتائم من فم حلمي، وكثرت التعليقات، ثم خمد الكلام، وانقطع، ودلفنا إلى سكون لا يعكره إلا صرير الصراصير المتصل الدائم.
ورفع الريس رأسه، وحدق إلى بعيد، وتمايل القارب حين اندفعنا كلنا لنحدق.
كانت ثلاث كتل سوداء تتحرك مسرعة في اتجاهنا. كتلة قصيرة صغيرة في المقدمة، والكتلتان اللتان وراءها تحاولان اللحاق بها، وتخوضان برك الماء دون جدوى.
অজানা পৃষ্ঠা