وصحبه إلى غرفة خاصة لنوم الضيوف في مثل هذه الحالات، واطمأن إلى صلاحية الغرفة للنوم، وأقفل بابها عليه وذهب إلى أريكة بحجرة الجلوس واتكأ عليها، وغفت عيناه وأحلام سعيدة تداعب جفنيه. •••
حين صحا سعدون من النوم جلس إلى هارون في حجرة الاستقبال يحتسيان القهوة، وقال هارون: ما رأيك يا سعدون بك، عندي لك مشروع يفرحك. - يا ليت. قل ما هو. - أنت أغلب الوقت بعيد عن البلد، وأرضك حوالي سبعين فدانا ليس فيها أرض مؤجرة لفلاحين. - عندك أخباري كلها، كيف عرفت أنها سبعون فدانا مع أن المسجل منها خمسون فقط؟ - أتحب أن أذكر لك أسماء الأربعة الذين بعت لهم العشرين فدانا الأخرى بيعا صوريا؟ - لا، لا داعي، واضح أنك تعرف كل شيء عني. - أنت لست هاويا للفلاحة، والبنتان عندك لا تحبان الريف ... وأنت تحب أن تقضي وقتا مع الأصدقاء، والزراعة عندك الآن لا تأتي بهمها. - والله لك حق. - كم تكسب من الأرض الآن؟ - حوالي ألفي جنيه في السنة. - هذا ما قدرته فعلا. - أنت وضعت يدك على حقيقتي. أنا لست فلاحا ماهرا ولا محاسبا ماهرا، وأعلن أنني مسروق في كل شيء، سواء فيما أنفق على الزراعة، أو ما أحصل عليه من محصول الأرض على السواء. - ما رأيك لو أعطيتك ثلاثة آلاف جنيه في السنة، تأخذها دفعة واحدة كل عام في شهر نوفمبر.
وصمت سعدون قليلا، ثم قال: أحيانا أحب أن أجيء إلى البلدة ومعي أسرتي. - سبحان الله! أنا أستأجر الأرض لا أشتريها، وبيتك لا يلزمني. تعال أنت وأسرتك كلما شئت. - على بركة الله. - نكتب عقدا. - عقد إيجار؟ - عقد توكيل بإدارة الأرض، وعندما أسلمك المبلغ تكتب لي إيصالا به. - توكلنا على الله. - توكلنا على الله.
الفصل الثاني
حين عاد سعدون إلى بيته، استقبلته زوجته وفية الزهار التي تزوجها منذ خمسة وعشرين عاما زواجا نمطيا؛ فقد كان والده عبد الهادي بك عمارة صديقا لوالدها عثمان بك الزهار، وكانا متجاورين في الأرض، وكانا يقيمان شأن ذلك الزمان بالريف أغلب الوقت. فكانا يسهران معا في بيت أحدهما يلعبان النرد ويلتقيان بالناس. وكان كل منهما يعرف أصدقاء الآخر معرفته بأصدقائه وبفلاحي أرضه هو؛ فكان عبد الهادي دائما يلتقي في مجلس عثمان الزهار باثنين لا يغيبان عن مجالسته؛ أحدهما عطا الله عبد السيد، وهو تاجر أقطان صغير يعمل في كميات قليلة من القطن دون توسع في البيع أو الشراء، ولكنه كان ميسورا كريما على نفسه، حسن المظهر دائما، وكان يلبس الجلباب البلدي الأنيق، فإن كان الشتاء يلبس معطفا من الصوف الجيد. وكان يجيد الحديث عالما بأسرار المنطقة. وكان عبد الهادي يسمع منه دائما أخبارا جديدة. وكان لبيبا في تعليقاته، ذكيا كل الذكاء في تفهمه لما يسمع. وكان يقرأ الجرائد بدقة شأن التجار ليتقصى أخبار السياسة صاحبة العامل الأول في أسعار التجارة وخاصة القطن. أما الرجل الثاني فقد كان الحاج وافي العسكري، وليس اسم العسكري دليلا على أنه كان يعمل في الجيش أو الشرطة، وإنما هو اسم وجده لنفسه وعرفت به أسرته دون أن يكون له معنى أو أصل تاريخي. وقد كان الحاج وافي من أعيان بلدة النمايلة التي بها أرض عثمان بك الزهار وبيته. وكان الحاج وافي يعمل في تجارة الغلال. وكان يأبى أن يشتري أرضا لتظل أمواله كلها سائلة حرة يشتري بها ما يتاح له من صفقات. وكانت محاوراته مع عطا الله أفندي تضفي على الجلسة نسمات رطيبة من الضحك وخفة الروح. وقد كان أيضا على صلات كثيرة بالناس، شأنه شأن عطا الله أفندي، وكان يعرف خباياهم. ولم يكن له إلا ولد واحد، وكان هذا يسعده على عكس ما عرف عن أعيان الريف من حبهم لكثرة الأبناء، في حين كان لعطا الله أربعة أبناء كلهم ذكور.
وكان عثمان بك إذا زار عبد الهادي بك وجد عنده دائما ناظر زراعته إبراهيم أفندي جندية، ولم يكن أفنديا كامل الأفندية، وإنما كان يلبس مثل عطا الله عبد السيد الجلباب البلدي والطربوش. وبالطربوش وحده اكتسب لقب أفندي كما اكتسبه أيضا بخبرته الدقيقة بالحساب والدوبيا. والدوبيا هذه لفظة لا يعرفها أبناء الجيل الجديد ... إنها طريقة خاصة للحسابات، أغلب الأمر كانت تتم بها محاسبات الزراعة.
وكان إبراهيم رجلا أمينا غاية الأمانة، لا عيب فيه إلا ادعاءه لنفسه من الأعمال الجلائل ما لم يقم به، ولكن هذا في ذاته كان يضفي على حديثه ظرفا يتيح لعبد الهادي بك وجلسائه أن يتفكهوا به ويتندروا عليه. فكان يقبل دعاباتهم في سماحة، ويمضي في حديثه عن أعماله الجليلة وكأن أحدا لم يقل شيئا أو يسخر مما يقول.
وكان من جلسائه الشيخ متولي عبد الموجود، وكان فلاحا حاذقا في الفلاحة، ويحفظ القرآن وإن كان لا يلبس العمامة، وكان لا يملك إلا فدانين يحصل منهما على محصول لا تنتجه خمسة أفدنة. وكان عبد الهادي يغدق عليه الهدايا، وكان هو محبا أشد الحب لعبد الهادي بك.
وكان في مجلس عثمان أيضا شخص آخر يجده عبد الهادي كلما زاره، وهو بلال أفندي عبد الفتاح. وكان مدرسا في المدارس الإلزامية، ومحبا للشعر يحفظ منه الكثير وينظم منه القليل. وكان عبد الهادي وعثمان يأنسان إلى حديثه، سواء كان راويا للشعر أو ناظما له. وكان لماح الذهن حاضر البديهة يملك أربعة أفدنة، وكانت مع مرتبه تجعل منه واحدا من أغنياء القرية، خاصة وأنه كان شديد البخل إلا في ملبسه الذي كان دائما أنيقا. وكانت الصداقة بين عثمان وعبد الهادي وطيدة، ولهذا لم يكن غريبا أن يتزوج سعدون وفية. ولم يلاق عبد الهادي بك من ابنه أي ممانعة؛ فلم يكن سعدون يعرف فتاة أخرى، وكانت الفتيات عنده كلهن متساويات لا فارق ثمة بين فتاة وفتاة، وكل ما فعله أنه سأل أباه عنها: شفتها يا أبويا؟ - طبعا شفتها. - حلوة؟ - قمر. - توكل على الله.
ولم تكن وفية قمرا، ولكنها أيضا لم تكن قبيحة. كانت فتاة كأي فتاة لا تجتذب عينيك إذا رأيتها، وهي أيضا لا تجعل عينيك تنصرفان عنها. كانت بيضاء البشرة، ذات شعر أسود لا هو بالمسترسل ولا هو أيضا بالملبد، ذات عينين سوداوين في غير ضيق ولا اتساع. تلقت تعليمها في المدارس حتى بلغت السنة الثانية من الثانوي، ثم ضاقت بالتعليم أو ضاق بها التعليم فأقامت في بيت أبيها تنتظر العدل.
অজানা পৃষ্ঠা