ولما عرف الخبر خارج شقة ميرفت عاده محمد ومنيرة وكوثر ونعمان الرشيدي، وعادته أيضا سنية المهدي خاصة وأنه لم ينتزع من نفسها تماما رغم كل شيء. أجل ضاق صدرها لدى اقتحامها لحصن ضرتها ولكنها صافحت لأول مرة ميرفت وألفت، وانحنت فوقه متمتمة: شد حيلك!
ابتسم معلنا امتنانه، وتأزم الجو بتوتر خفي، وتضاربت شعارات المجاملة مع الانفعالات العدوانية الباطنة. وعلمت ميرفت بأنه لن يخلو يوم من أيامها من التنغيص لرؤية الوجوه التي لا تطيقها. وطال الرقاد، وعرف أنه سيطول أكثر، بل عرف أن حامد برهان لن يرجع إلى سابق عهده أبدا. وأصبح تمريضه عبئا على امرأة صاحبة مزاج كميرفت. ولم يفقد المرض حامد برهان حساسيته فسرعان ما شعر بأنه غريب في مرقده، وضاق بموقعه. ووجد في قهر المرض ما شجعه يوما على أن يهمس لمحمد ابنه: أريد أن أرقد عندكم!
وفي الحال قال محمد على مسمع من ميرفت مخاطبا أباه: لو رقدت عندنا لأعفيتنا من زيارات لا نهاية لها!
وأدركت ميرفت مغزى قوله فقالت مدارية ارتياحها: إني في خدمته مهما طال الزمن!
فقال محمد بشجاعة رجل شارع في الزواج من ابنتها: هذا لا شك فيه .. ولكن يوجد عندنا كثيرون وأنت وحيدة!
فقالت بلباقة وهي في الواقع تختم علاقتها بالرجل: إني راضية بما يريحه!
ولم تعارض سنية، وخالط حزنها على حامد ارتياح لاعترافه بأنها رفيقة المرض وأن بيتها هو المأوى. هكذا رجع حامد برهان إلى فراشه القديم بالحجرة الخضراء فاستقر السلام في عينيه الجميلتين. ولم يكن بقي من جسمه الهائل شيء يذكر، وتجسدت الشيخوخة في وجهه كأنما ألقيت عليه في لحظة خاطفة. ونظر فيما حوله بسرور طارئ وقال بصوت متهدج: أوحشتموني يا أولاد!
ولم يوجه كلمة إلى سنية قانعا بأن رجوعه يغني عن أي قول. والحق أنه عندما جفت ينابيع شهوته لم يجد في قلبه سوى حبها القديم كالكنز المدفون عندما تزاح عنه طبقة الأرض. وأن روحه - إذا حان الأجل - يجب أن تصعد من هذا المكان العتيق المبارك المعبق بأطيب الذكريات. وجعلت كوثر تنظر إليه طويلا ثم خانها صبرها فدمعت عيناها وقالت: تغيرت كثيرا يا بابا!
فوجم الحاضرون ولكن حامد برهان ابتسم وقال بلسان مضي يثقل: وأنت يا بنت ألم تصيري أما؟!
ولكنه سر الجميع بطمأنينته وأنسه بالمكان وأصحابه. وجاء يوم في مطلع الربيع شديد الحرارة فقال: لم أستحم منذ عهد طويل!
অজানা পৃষ্ঠা