وقالت منيرة لمحمد وهما في الفراندا وحيدين: أنا لا أفهم شيئا!
فقال بامتعاض شديد: إنها مأساة ألقيت على بابا لتلقى بعد ذلك على ماما ثم تطوقنا جميعا.
ودفع الزواج الجديد الزوجين إلى ضربين من الجنون؛ جنون صمت وكبرياء غزا الأم، صممت على ممارسة حياتها اليومية وكأنها لا تبالي، بيد أنها كانت مشتعلة القلب والعقل طيلة الوقت؛ فراحت ترى وراء الأحداث اليومية - المسموعة والمقروءة - شبح مأساة كونية غامضة، وأن حماقة الإنسان داء متأصل لن يشفى منه إلا بمتناقضات شتى كالعنف والحكمة والرحمة! وبذهاب «العجوز المتصابي » أتيح لها فراغ لم تعهده من قبل فتعلق اهتمامها بالبيت، وشعرت أكثر من أي وقت مضى بأنه ليس على ما يرام؛ إنه يطعن في القدم دون رعاية ولا عناية، ها هي تتجول بين الحجرات والحديقة، تنظر وتتفحص، بهتت الألوان، تقشرت الأركان، تشقق خشب الأرضية وفقد مرونته، ذبلت الحديقة وملأتها الوحشة وتراكمت في أجزاء منها الأوراق الجافة، وقالت: العين بصيرة واليد قصيرة.
وتابعها محمد مرة بعينيه ثم همس في أذن منيرة: إني قلق.
فهمست له بدورها: ليتها تروح عن نفسها ولو بالدموع؟
أما حامد برهان فلم يبق له إلا أن يغمض عينيه ويصم أذنيه حيال الماضي، وأن يرمي بنفسه في بحر العسل. انقلب إلى مراهق ذي رأس أبيض وجسم مليء بعنفوان لا يدري من أين جاء. ووجد في ميرفت امرأة فائقة المقدرة، متقنة لفنون من العشق لم يعرفها من قبل. وبادلته هياما بهيام، ولولا دعمها المالي لحياتهما المشتركة ما أمكن لها دوام. وبمضي الأيام انتقل مجلس السمار إلى الشقة الجديدة، وأضافوا إلى أحاديثهم المألوفة موضوعات جديدة عن وصفات ناجعة لتجديد الشباب. وفي أثناء ذلك ولد رشاد ابن كوثر، وتخرج محمد، ثم لحقت به منيرة، وهي أحداث خليقة ببعث السرور الشامل ولكنها لم تحظ إلا بفرحات سريعة الزوال كانفراج السحب عن شروق الشمس دقائق في يوم مطير عاصف. وزاد من تجهم الجو اشتعال حرب فلسطين، فعلا صوت المعركة المبهم المشحون بالقلق على معارك حامد برهان الجنسية الظافرة، وشد سنية المهدي من حال سيئة إلى أخرى، كمن يفلت من قبضة صداع ليقع فريسة لروماتيزم، على حين تابعت منيرة الأنباء من موقع وظيفتها الجديدة كمدرسة للغة الإنجليزية بمدرسة البنات بالعباسية، أما محمد فوجد عملا في مكتب الأستاذ عبد القادر قدري المحامي الوفدي المعروف، وكان موصولا بصداقته من عهد وفديته الخالصة فلم ينقطع عنه بعد أن مازجت وفديته «إخوانية» متصاعدة. وبذل محمد جهدا صادقا في عمله حاز به ثقة أستاذه، غير أن الحرب انتهت بهزيمة العرب، ومقتل النقراشي، وإعلان حرب داخلية لا هوادة فيها ضد الإخوان، فقبض على محمد فيمن قبض عليهم ضمن شعبة حلوان. وهز النبأ الأسرة هزة فاقت أحزانها الخاصة والعامة. واستقبل البيت القديم بحلوان الوجيه نعمان الرشيدي وكوثر، بل جاء حامد برهان نفسه. وتجاهلت سنية زوجها تماما فتجنب إزعاجها ومضى يوجه حديثه إلى نعمان أو منيرة. ولم يكن دون سنية قلقا حتى قال الوجيه نعمان: مؤكد أنه لم يتورط في جريمة فلا خوف عليه.
فقالت منيرة: أخشى ألا يفرقوا بين البريء وغيره في حومة الانتقام.
فقال حامد برهان: لم يرتح قلبي قط لانضمامه إلى الإخوان، وكلنا مسلمون والحمد لله!
وشعر نعمان الرشيدي بأنه مطالب بأكثر من الكلام لعلاقته الوثيقة بالمسئولين من جميع الأحزاب فقال: سأبذل ما في وسعي رغم أن الدفاع عن إخواني في هذه الظروف تصرف مرعب!
كان حريصا على علاقاته الودية بجميع الأحزاب؛ لذلك ساءه أن يكون أخو زوجته إخوانيا، فكيف يسعى بنفسه إلى الكشف عن هذه الحقيقة الفاضحة؟! وجعلوا يواسون سنية باعتبارها المحور الأول للحزن، فقالت بأسى: ثقتي بالله لا تتزعزع.
অজানা পৃষ্ঠা