هذه حالة المرأة فكيف يصلحها ويجعلها نافعة لنفسها ولغيرها؟ ما الذي جعل الرجل أفضل اليوم منه البارحة؟ وعلى أي شيء تنتصب أركان العمران؟ أمر أصبح شغله الشاغل فحمل قلمه ونظر إليه كمن ينظر إلى الأمل الوحيد في الدنيا وجرى به على القرطاس المطيع، ذلك القلم الذي قال فيه خليل مطران:
يدك القبيح ويبني المليح
رجوعا إلى سنة الراسم
يشعشع نورا إذا ما انبرى
يسيل بماء الدجى الفاحم
باحثة البادية تصلح كامرأة، وقيل إن المرأة أكثر تشبثا بالماضي. وقاسم أمين يصلح كرجل؛ أي يرسل نظره أبدا إلى الأمام. هي تسير بتحفظ بين تشعب الأفكار الجديدة والآراء المستحدثة، وكلما خطت خطوة التفتت إلى الوراء لتتثبت من أنها تابعة السبيل الذي يربط الأمس بالغد. وكلما جاءت بتبديل في النصوص الاصطلاحية حاولت سبكه في قالب الاعتدال مع مراعاة العادات المألوفة ما أمكن. هي كثيرة التحذر في إصلاحها، عملية متواضعة في مطالبها، لا تبتعد فترا واحدا عن حدود بيئتها وإن حامت فوقها بما أوتيت من شجاعة وذكاء. إلا أنك حينما تسمعها صارخة كثيرا ما تظن أنها تفعل لتؤكد لك أنها غير خائفة، ولك أن تقدر كذلك أنها تصرخ لتسمع صوتا إنسيا - وإن كان صوتها - يبعد عنها الرعب والوجل في وحدتها الفكرية. أما قاسم فلا يصرخ ولا يخاف ولا يرتعش. في فكره مقدار الكمال الكافي لاختطاط النظريات، وفي أصالة رأيه وحزمه من الجدارة ما يحول النظريات إلى ما يطابق الواقع، بل هي الواقع بعينه. وله جناحان يدفعان به إلى نقطة إدراكية يشرف منها على الماضي والحاضر والمستقبل وعلى جميع البيئات والأمم والتواريخ. فيضع هناك كرسي القضاء - كرسيه - ويجلس متأملا مقابلا بين شعب وشعب وعصر وعصر، باحثا في كل آن وزمان عن تلك السعادة الحلال المتمثلة له في صورة امرأة «حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» وبين زرافات النساء المارة أمامه تستوقف خاطره امرأة بلاده: أمه وأخته وزوجته وابنته، أولئك اللاتي أوجدتهن الطبيعة صديقات لحزنه وأنسه. وكأني به يناديهن فيلبين النداء بطيئات متسكعات تعبات. ويدنين فيرى عليهن غشاء يمنع عنهن نور الشمس ونور الحياة: الحجاب!
لهذه الكلمة دوي مرعب في نفسه كما لدوي أبواب السجون في مسمع من حكم عليه بالسجن المؤبد ظلما. فيمسك بهذا الحجاب ويقلب معانيه من جميع الوجوه، ويدرس تاريخ نشأته وتأثيره في الشعوب التي اقتبسته ثم نبذته، ويحلل أسبابه ويتبصر في نتائجه، ويراجع أقوال الكتاب العزيز والحديث الشريف وعادات القوم، فيقرر بعد البحث والتعليل أنه ليس إسلامي الأصل ما دام أنه استعمل عند أمم سبقت الإسلام، وأنه ليس واجبا على المرأة المسلمة ما دام أن ليس في الشرع نص صريح يأمر به. هو في نظره أثر من آثار الهمجية الأولى، بل هو «أقصى وأفظع أشكال الاستعباد؛ ذلك لأن الرجال في عصر التوحش كانوا يستحوذون على النساء إما بالشراء وإما بالاختطاف.» ويتابع قائلا:
فلما بطل حق ملكية الرجال على النساء اقتضت سنة التدريج أن تعيش النساء في حالة وسط بين الرق والحرية، حالة اعتبرت فيها المرأة أنها إنسان لكنه ناقص غير تام. أكبر على الرجل أن يعتبر المرأة التي كانت ملكا له بالأمس مساوية له اليوم، فحسن لديه أن يضعها في مرتبة أقل منه في الخليقة. وزعم أن الله لما خلق الرجل وهبه العقل والفضيلة وحرمها من هذه الهبات. وقال: إنه «يلزم أن تعيش غير مستقلة تحت سيطرة الرجل، وأن تنقطع عن الرجال وتحتجب بأن تقصر في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت؛ حتى لا تفتنهم بجمالها أو تخدعهم بحيلها، وأنها ليست أهلا للرقي العقلي والأدبي فيلزم أن تعيش جاهلة» ... «وذلك هو السر في ضرب الحجاب وعلة بقائه إلى الآن» ... «ولما كانت تهمة المرأة بنقصان العقل هي الحجة التي اتخذها الرجال لاستعبادها وجب علينا أن نبحث في طبيعة المرأة لنعلم إن كانت كما يقال أحط من طبيعة الرجل أم لا» ... «ولا ريب أن المرأة اليوم أحط من الرجل في الجملة، ولكن علينا أن ننظر هل هذه الحالة طبيعية لها أو ناشئة عن طرق تربيتها» ... «لأن الرجال اشتغلوا أجيالا عديدة بممارسة العلم فاستنارت عقولهم وتقوت عزيمتهم بالعمل، بخلاف النساء فإنهن حرمن من كل تربية، فما يشاهد الآن بين الصنفين من الفروق هو صناعي لا طبيعي. لا نريد بهذا التساوي أن كل قوة في المرأة تساوي كل قوة في الرجل وكل ملكة فيها تساوي كل ملكة فيه، ولكنا نريد أن مجموع قواها وملكاتها تكافأ مجموع قواه وملكاته، وإن كان يوجد خلاف كبير بينهما؛ لأن مجرد الخلاف لا يوجب نقص أحد المتخالفين عن الآخر» ... «وبعبارة أخرى يوجد مذهبان أحدهما ينصح للناس بالتمسك بالحجاب والثاني يشير عليهم بإبطاله» ... «فأي المذهبين يتفق مع مصلحتنا وتتوفر به منافعنا؟ أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية ويمنعها من استكمال تربيتها. ويعوقها عن كسب معاشها عند الضرورة. ويحرم الزوجين من لذة الحياة العقلية والأدبية. ولا يأتي معه وجود أمهات قادرات على تربية أولادهن. وبه تكون الأمة كإنسان أصيب بالشلل في أحد شقيه» ... «وأما الحرية فمزاياها هي إزالة جميع المضار التي تنشأ عن الحجاب، وسبق ذكرها. وضررها الوحيد أنها في مبدئها تؤدي إلى سوء الاستعمال، ولكن مع مرور الزمن تستعد المرأة إلى أن تعرف مسئوليتها وتتحمل تبعة أعمالها وتتعود على الاعتماد على نفسها والمدافعة عن شرفها حتى تتربى فيها فضيلة العفة الحقيقية التي هي ترفع النفس المختارة الحرة عن القبيح، لا خوفا من عقاب ولا طمعا في مكافأة ولا لوجود حائل ليس في الإمكان إزالته، بل لأنه قبيح من نفسه.» وبالجملة فإن «المرأة لا تكون ولا يمكن أن تكون وجودا تاما إلا إذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معا ونمت ملكاتها إلى أقصى درجة يمكنها أن تبلغها. والحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحول بين الأمة وتقدمها.»
18
كما يخطئ من لم يعرف من قاسم أمين سوى أنه ينادي برفع الحجاب، وهو الأمر الذي اشتهر به! وأنه يريد للمرأة الحرية المطلقة بلا قيد ولا شرط، وهو ما يقوله الذين لم يقرءوا كتبه! إنه من أكثر من أعرف محافظة على أنثوية المرأة ومنزلتها في العائلة والأمة، وإن أنصفها في غير هذا الدور.
অজানা পৃষ্ঠা