بعد تناول الشاي تحادثنا في تحرير المرأة والحجاب الذي يحاول بعضهم تمزيقه فقالت: «سيمزق الحجاب عن قريب، ونحن سائرات حتما نحو السفور، ولكن أيكون ذلك لخيرنا؟ أنا من القائلين بتحرير المرأة، ولكن علينا ألا نحتضن الحرية دفعة واحدة لنأمن شرها. ليس من الممكن أن نخرج من الظلام الحالك إلى النهار الساطع دون أن تبهرنا الأنوار فتتضعضع البصائر ولا نعود نرى الأشياء في مكانها كما هي.» «قلت مصممة على إبقاء المناقشة في هذا الموضوع: حقا إن الأبصار تنبهر في الأوقات الأولى فتخطئ النظر والحكم ثم لا تلبث أن تعود إلى مقدرتها الطبيعية. ففي الاندفاع الأول للتحرير النسائي لا بد من بعض الفوضى ثم تعتدل الشئون وتتبع صراطا سويا.»
أجابت بقوة: «كلا! محجوبات اليوم يجب أن يبقين محجوبات دائما. أما بناتنا الصغيرات ...»
قلت: «نعم. البنات الصغيرات اللاتي ما زلن جالسات على مقاعد الدراسة ويلبسن البرنيطة الإفرنجية ...»
قالت: «قلت نعم. أولئك يستطعن متابعة السفور إذا عرفن حدود الحرية وتلقين تربية متينة. ولكن أنى لهن ذلك وأمهاتهن على ما هن عليه! ...»
3
الأمهات! نتوقف عند سماع هذا الاسم أمام كل صلاح وكل فساد، ونتطلع إلى حاملاته حيال كل تربية أخلاقية وكل إصلاح اجتماعي. لئن كانت الجنة تحت أقدام الأمهات فإن الجحيم بين أيديهن، ولهن أن يكن لذويهن ولوطنهن نعيما أو جحيما، عظمة أو هوانا. لو أدركت معنى هذه الكلمات التي طال ترديدها كل فتاة، وبذلت مجهودها في إتيان ما في مقدورها، لضمنت للذراري تربية عالية ورفعة مقبلة. لو أدركت كل امرأة أن في قبضتها السعادة والشقاء لعرفت قيمة الواجب وكبرت في عيني نفسها، وفهمت هذا العناء العذب والمجد الخفي الحلو في أن تكون مليكة الأسرة. وإذن لأصبح الشرق شرق العلو والقدرة كما أنه شرق الشمس والقمر. عبثا يقتحم الرجل منطق الذرى؛ إن لم تكن رفيقته في أفقه المعنوي فإنها تقتل مواهبه بسخافتها وتعذبه بمطالبها، وتسيء تربية أولاده بتربيتها السيئة، وكلما حاول التحليق فوق جبل كانت هي جبلا معلقا في عنقه تشد به إلى الهاوية بدلا من أن تكون بتشجيعها وإعجابها جناحين لنفسه. كل إصلاح وكل نظام جدار لصرح العمران والعائلة، المرأة أساسه. لترتفع الجدران الباذخة المزخرفة ما شاء ذكاء الباني ومجهوده ارتفاعا، ولكن إذا لم تقم على أساس خال من الضعف، سليم من الشقوق، تمر الرياح فتتداعى وتعصف العاصفة فتنتقضها حجرا حجرا. •••
والوسيلة الوحيدة لإصلاح المرأة هي تعليمها؛ لأن العلم كما قالت الباحثة:
منور العقل على أي حال، سواء عمل به أم لم يعمل. «نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»؟ إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها فإن المنزل له تأثير خاص بالأطفال. وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لكون الصلة شديدة بينه وبينها، فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه. أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية» ... «تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة. ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء. ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم.»
4
كلا، لا يتم ذلك في لحظة؛ لأن التربية كالعلم تكتسب شيئا فشيئا، وتظل مكتسبة طول الحياة. والعلم هو العلاقة الوحيدة بين الإنسان وبين الأشياء، والسلك السمباثاوي الجامع بين الفكر الفردي والفكر الكوني، هو اليد القادرة الحاذقة التي تحسر اللثام عن أسرار الحياة، وبه وحده ينتبه المرء لقيمته كفرد وكإنسان. لا ذل إلا في الجهل ولا رفعة بدون معرفة. إنما هلاك النوع البشري في سد أبواب الإدراك وحذف إمكانية التعلم والتعليم. ولكن ما زال الإنسان متناولا من بحار المعرفة والنور فهو سائر إلى الأمام مهما ألبست عليه السبل.
অজানা পৃষ্ঠা