أجاب الشاب: كيف لا وهو لم يفارق سريرها كل وقت مرضها، وكنت تراه آتيا من السوق كل صباح وسلة الفاكهة في يد وضمة الزهور في أخرى ...
وعند هذا الحد من الكلام فرغ صبر فؤاد، فقال لنسيب وهو ينظر من النافذة: ألم نزل بعيدين عن محل قصدنا؟
فقال هذا: كلا. وبعد برهة وقفت العربة بهم أمام نزل شهير، فنزل فؤاد ونسيب وقيدا اسمهما وصعدا إلى غرفتيهما.
وكان نسيب يترقب الفرص إلى أن علم من أحد أصدقائه بوجود أديب في غرفة بديعة، فذهب مع فؤاد إلى هناك، وكانت تلك الغرفة من جهة السوق وبابها ونوافذها مفتوحة؛ لأن الفصل فصل الصيف وأديب وبديعة وجميلة في داخلها.
وإذ وصلا وقفا إلى جانب الباب، وتوقع وصولها؛ إذ كان أديب يضع ذلك الخاتم في إصبع بديعة، وهو ينظر إلى يدها نظرة لم تخف على فؤاد، فثارت به الغيرة وهجم على تلك الغرفة بغتة كالأسد وصرخ بصوت عال: آه يا خائنة! ثم خرج حالا ونسيب وراءه يضحك في سره من هذا الفوز الباهر.
وكان نسيب مسرورا جدا من إبعاد بديعة عن فؤاد، حتى نسي أنه هو خسرها أيضا.
وظن نسيب وهو راجع إلى نيويورك مع ابن خالته أن هذا ربما أحب لوسيا واقترن بها، فيكون قد رمي عصفورين بوقت واحد، ولكن ظنه خاب بعد رجوعهما لأنه «لم يتبين عاطلا من مطوق» من كل امرأة رآها بعد بديعة؛ إذ إن حبه الصادق كان قد خلق ومات فيها.
وبعد أن اختبر فؤاد بديعة بنفسه وتحقق خيانتها كما ظن صار هذا الفكر يحاربه في ليله ونهاره حتى نحل جسمه، وسئم المعيشة فأذعن أخيرا «لنصيحة» نسيب له بإدمان الخمرة؛ لأنها «تطرد الهموم».
وكان مع فؤاد مال كثير فكان يبذله على أصدقائه بغير شفقة؛ لأنه لم يتعود قبض الكف في مال والده الكثير، وكان منعكفا على القصف والزهو مع رفقائه نسيب ووديع وآخر غيرهما.
وكان يخلص لهم الصداقة؛ لأنه كان خارجا حديثا من المدرسة، ولم يتعود غير الإخلاص مع رفقائه التلامذة. وكان يظن أن معيشته الحاضرة هي كمعيشته السابقة في المدرسة وأن رفقاءه هؤلاء هم كأولئك التلامذة، ولكن الفرق كان عظيما؛ لأنه بينما كان يعيش مع هؤلاء في عالم عظيم مملوء من المصائب والتجارب والشرور، كان يعيش مع أولئك في عالم هادئ وتحت سماء المدرة الصافية من غيوم الحسد والبغض والكبرياء والانتقام، فارتشاف كأس الخمرة المؤذية المؤدية إلى الهلاك النفسي والجسدي هي غير ارتشاف كأس العلوم الصافية التي هي بلسم جروح الشرور والجهل.
অজানা পৃষ্ঠা