فابتسم فؤاد إذ ذاك وقال: إنك تذكر بديعة بالطاهرة والشريفة والبريئة، فهل أنت متأكد من هذا؟
أجاب والده: هكذا يدلني فكري، والفكر الصادق أكبر دليل.
وبعد أن رجعت أم فؤاد من وداعه وهي محمرة العين وحزينة القلب ندمت على فعلها لما رأت من نتائجه، والبلوى هي بأن البعض لا يتوبون إلا عن فشل وعجز.
سافر فؤاد مسرورا لأن كلام والده كان رفيقه كما قال، ولما وصل إلى مدينة نيويورك ونظر إليها عند نزوله من البحر أحس بأن مدينته مع عظمتها لا تعادل شارعا واحدا من هذه المدينة، وبما أن «الغريب أعمى ولو كان بصيرا» وقف الشاب مبهوتا وقد هم بمناداة أحد سائقي العربات وإذا بصوت من ورائه يقول: هل هذا أنت في أمريكا يا خواجة فؤاد أم أنا في حلم؟ فالتفت فؤاد ليرى من ذا الذي يخاطبه بلغته بين تلك الجماهير الغريبة، وقد ارتاح لسماع الصوت، وإذا بشاب جميل الصورة حسن البزة طويل القامة واقفا أمامه فلم يعرفه فؤاد، وقال للمخاطب: إن اسمي فؤاد يا سيدي، ولكنك لا تعرفني على ما أظن؛ لأنني لم أسعد بمعرفتك من قبل.
فابتسم الشاب إذ مد يده إلى فؤاد مصافحا وقال: أظنك نسيتني فأنا وديع ... وإنني أعرفك وأعرف بيتكم وأباك وأمك، وسرد له أشياء كثيرة عنه وعن والديه كان قد تلقنها من نسيب لهذه الغاية.
وكان الفتى لطيفا جدا، «كما هي العادة عند الغاية»، فظن فؤاد أن لطفه كان أدبا ونعومته تهذيبا، وسر به جدا؛ لأنه أنس منه صداقة وهو مفتقر إلى صديق ودليل في بلاد هو غريب فيها، وكان فؤاد نقي القلب طيب السريرة، وعهد دخوله بمدرسة العالم حديثا، وكان يقيس الناس كلهم على نفسه، وهذا الأمر كثيرا ما يكون آفة الأفاضل، ولكنهم يأتونه انقيادا بالغريزة.
وبعد أن تصافح الشابان وتعارفا استأجرا عربة أقلتهما إلى نزل سوري في شارع واشنطون أو «شارع السوريين»، وفي ذات الساعة التي وصل فيها فؤاد أرسل وديع تلغرافا إلى نسيب ينبئه فيه بوصوله، فأتى نسيب وتبعته لوسيا التي لم تشأ مفارقته.
ومع أن نسيبا لم يكن يحب لوسيا ولا مرافقتها؛ «لأن كل شيء يبتذل يهان» ولوسيا كانت قد «رخصت» نفسها بعين نسيب؛ لأنها هي خطبته لا هو، وسعت وراءه بخفة، وكل شيء يكون من واجبات الرجل وتغير عليه المرأة بأمور كهذه يحتقرها لأجله، فكلما ترفعت الفتاة عن الشاب كلما أحبها وكلما تساهلت معه كلما زاد احتقاره لها.
ولما وصل إلى نيويورك أنزلها في نزل وذهب وحده لملاقاة فؤاد، وكان هذا في قهوة مع بعض الرفاق، فلما وصل نسيب إليه انطرح على عنقه يقبله ويبكي، فبهت الحضور لبكائه؛ لأن بكاء الرجال عزيز، لذلك هو يلذ ولا ندري إن كان ذلك البكاء عن حب أو عن شعور بالذنب أو حيلة للجذع، والأصح أنه الأخير؛ لأن نسيبا عزم على إحكام عمله الشرير لا على فصم عراه.
ولم يكن فؤاد بانتظار هذا الملتقى، فاضطرب وخفق قلبه وتصور نسيبا أمامه خائنا ومناظرا له في حب بديعة، فلعبت نار الحقد في قلبه، ولكنه تذكر كلام والده له، وكان لم يزل يحفظه، فصافح نسيبا لأجل ذلك وتأدبا أمام الحاضرين.
অজানা পৃষ্ঠা