وكان الشاب والفتاة لا يزالان واقفين، فلما أقفل الباب وراء الذاهبة تقدم هو إليها، وقال بصوت مرتجف: بديعة ارفعي نظرك إلي.
عند ذلك نظرت إليه الفتاة قائلة: ماذا تريد يا سيدي؟
فقال متنهدا: ماذا أريد؟ آه ... ما أحلى هذا السؤال وما أمره! وما ألطفه وما أقساه! فكأنك لم تفهمي للآن مرادي.
عند ذلك شعرت الفتاة بوجود التصريح، وعرفت أن السكوت لا يعد في ذلك الوقت حشمة بل جبانة؛ لأن للكلام أوقاتا لا ينفع فيها السكوت، كما أن للسكوت أوقاتا يعز فيه الكلام. وقالت بصوت مرتجف: آه يا سيدي إن قلبي قد اضطرب لصوت والدتك وهيئة وجهها؛ لأني لا أقدر أن أتصور أنها تحبني الآن كما كانت تحبني قبلا.
فقال الشاب بفرح: إنك مخطئة يا حبيبتي؛ لأن والدتي تحبك الآن أكثر من قبل. - هذا ما تظنه أنت ولا أصدقه أنا؛ لأنني قد ذقت طعم حبها على الحالين، وأقدر على معرفة الحقيقي من الوهمي منه.
فقال فؤاد بشيء من الحزن: وماذا يهمك إذا كانت محبتها قد تناقصت قليلا الآن؟ أليس رضاها وحده الذي يهمنا ومحبتها تأتي تدريجيا مع الأيام؟ فأرجوك يا بديعة أن لا تكدري سماء أفكاري الصافية بأوهامك هذه؛ فإنني أحسب نفسي أسعد الناس الآن، فدعيني أبقى هكذا.
فأصاب هذا الكلام مكان الجرح من قلب الفتاة، ولكنها أظهرت عدم الاكتراث؛ اندفاعا بعوامل الحشمة وحب الاعتدال، إذ إنها كانت تعلم بأن الحشمة وجدت لترافق المرأة في أعمالها وأقوالها وأفكارها، وأنه متى وجد الاعتدال في الحالتين لا تكون قط أسيرة الكبرياء والقنوط، بل هما يصبحان أسيرين لها. وبعد أن سكتت برهة أرادت أن تحول مجرى حديثه إلى موضوع تقدر على التكلم فيه، فقالت: لم تذكر شيئا عن سيدي والدك.
فأجاب الشاب: إن والدي مسافر إلى مصر في الأسبوع المقبل، ومن رأي والدتي أن نكتم الأمر عنه الآن؛ لأنه حاد الطبع، ويجب أن نحصل على رضاه بالتأني.
وكانت أقل كلمة أو إشارة تدل على التفاوت الذي بينهما تؤلم بديعة وتجرح نفسها، فلما سمعت كلامه تنهدت وافتكرت في كيف أنها مضطرة إلى أن تحصل عليه بهوان وتذلل.
وأدرك الشاب موضوع أفكارها فقال: إن أمر والدي لا يهمك شيئا يا بديعة، فكما أنه لا يهمني أنا سوى رضاك والحصول على قولك بأنك «تحبينني»، فكلميني وقولي إن نعم فنعم، وإن لا فلا؛ لأني أريد الجواب وأريده الآن.
অজানা পৃষ্ঠা