ولم أعد أنظر الشاب بعد ذلك، ولكن ذكره لم يفارقني، وكنت دائما أؤاخذ نفسي على الافتكار بشاب غريب فقير كهذا، ولكن نزوع هذا الفكر إليه كان فوق مقدرتي.
وذهبنا لقضاء فصل الصيف بعد أيام، ولما رجعنا سمعنا بذكر مصور شهير أتى دمشق، وقد أصبح ذكره بها كذكر روفائيل في العالم.
ورأينا من تصويره ما أدهشنا نحن أيضا، فقالت لي جدتك: يجب أن تتصوري عنده، فبعثنا نستحضره، ولا تسلي عن خفقان قلبي واضطرابي يا بديعة؛ إذ دخل المصور وعرفته بأنه نفس ذلك الشاب الذي كانت صورته في قلبي، أما هو فبغت أيضا وخاطبني بلغته التي لا تفهمها والدتي قائلا: إنني سعيد يا سيدتي لأنني قدرت على أن أشكرك مرة ثانية.
ولما كان يصورني خاطبني قائلا: إذا كان أحد يقدر على فهم الجمال الحقيقي وتصوره، فهم المصورون يا سيدتي. ومن تلك الدقيقة عرف كل منا ما عند الآخر، وتدرجنا في المحبة إلى الوعد بأن كلا منا هو للآخر، وعملا بالعهد فاتحت والدتي بالأمر فحزنت جدا، وأخبرت والدي الذي غضب وأخذا يتهدداني، أما أنا فلم يثبط كل ذلك عزمي، فهربت مع الشاب من دمشق إلى بيروت حيث اقترنا وسكنا هناك.
وقد كنت أظن أنني متى اقترنت به أحصل على كل سعادة ويمتلئ فراغ قلبي، ولكن قلبي التعيس امتلأ من جهة وفرغ من أخرى؛ لأنني بعد أن ظننت أن الحب هو كل سعادة في الحياة، اختبرت وعرفت أن الحب الذي يداس به على الواجب المقدس لا تكون سعادته خالصة، بل مشوبة بوخز الضمير الحي.
وكنت يا بنيتي سعيدة مع أبيك وهو سعيد بي، ومع أننا قاسينا مضض الفقر والهم ، فإنني لم أكن أبالي بشيء ولا يزعجني غير مثول وجهي والدي الغاضبين دائما أمامي.
وكان أبوك يذهب إلى القرى يصور مع رفيق له، ولكن مهنته لم تكن تأتي بمال كثير؛ لأنها مع شرفها لم تكن معتبرة في تلك الأيام كما هي الآن، لذلك كنا يوما في نعيم وآخر في جحيم من جهة الماديات.
وكان أبوك ذا إحساس وشرف غريبين، فكان يقول لي دائما بأنه مذنب نحوي؛ لأنه انتزعني من بين ذراعي والدتي ووالدي وجلب علي نقمتهما، وأتى بي من بين العظمة والرفاه إلى حيث لا يقدر أن يعوض علي شيئا منهما.
فكنت أقول له بأنه إذا كان من ذنب فكلانا مشتركان به، وأظهر له سعادتي دائما لئلا أزعجه، ولكنه لم يقتنع بمظاهراتي وعرف ما أنا عليه من الهم. وكان يرى دائما مهموما ويقول بأن ضميره لا يريحه، ويكد ويجتهد لأجل سعادتي، حتى ضعف جسمه فاعترته حمى خبيثة لم يقو عليها ذلك الجسم الناحل، فمات - وا حسرتاه - إذ كنت في الشهر الأول من عمرك، وذقت أنا بموته أمر وأشد حسرة في حياتي، لم تزل تعذبني لليوم، وكنت بغاية الفقر إذ ذاك؛ لأن ما كان معنا صرفناه على مرض وموت والدك، فعزمت أن أحصل رزقي بيدي، وفي تلك الأثناء أتت جدتك تزورني؛ لأنها عرفت بموت والدك، وبعد جدال ورجاء طويلين أغرتني - سامحها الله - وأنا إذ ذاك صغيرة السن بوضعك في العازارية وإخفاء المسألة والرجوع معها، وإلا فهي لا تقر بي ولا تقر بي مع والدي.
وكأن وطأة الهموم كانت قد أضعفت عقلي حتى رضيت معها بهذا الأمر، فنزعتك عن صدري وقلبي، وأرسلتك إلى دير العازارية، ورجعت مع والدتي إلى البيت، وكنا أرضينا رفيق والدك الذي هو أبو لوسيا التي كانت في المدرسة معك لإخفاء الأمر بمال كثير، وقلنا له أن يدعوك ابنة أخته حتى لا ترتابي في نفسك.
অজানা পৃষ্ঠা