البديع في علم العربية
تأليف
المبارك بن محمد الشيباني الجزري أبي السعادات مجد الدين ابن الأثير
(المتوفى سنة ٦٠٦ هـ)
تحقيق ودراسة
د. فتحي أحمد علي الدين
جامعة أم القرى
অজানা পৃষ্ঠা
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد، فقد شرفني أخي وصديقي الدكتور/ عبد الرحمن بن سليمان العثيمين حين كان مديرا لمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، حرسها الله وصانها، بأن طلب مني القيام بتحقيق الجزء الأول من كتاب" البديع فى علم العربية" لأبى السعادات المبارك بن محمد، مجد الدين المعروف بابن الأثير الجزري ﵀، وأجزل مثوبته.
وقد أهداني الأخ الدكتور/ عبد الرحمن مصورة لنسخة الجزء الأول - وهي نسخة وحيدة - من" البديع".
وفي أثناء قيامى بالعمل علمت بأن أخي الدكتور/ صالح العايد قد وقع اختياره على الجزء الثاني من" البديع" ليكون موضوع رسالته للدكتوراه فى كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد يسر الله لأخي الدكتور/ صالح أن يتم دراسة الكتاب وتحقيق الجزء الثاني منه قبل أن أتم أنا إنجاز عملي فى تحقيق الجزء الأول.
وكان ذلك حافزا لي أن أضاعف الجهد لكي أنهي عملي، حتى أتم الله - وله الحمد والمنّة - نعمته على بإنجاز تحقيق الجزء الأول من" البديع".
واتفقنا - الدكتور/ صالح وأنا - على أن نقدم الكتاب إلى مركز البحث العلمي؛ ليطبع كاملا فتتم به الفائدة إن شاء الله.
ووافق مجلس إدارة البحث العلمي - مشكورا - على طبع الكتاب كاملا بعد تقويمه من أستاذين متخصصين.
واستدركت ما أشار به الأستاذان المحكمان، وأفاد الكتاب ومحققاه من
مقدمة / 5
ملاحظاتهما القيمة وتصحيحاتهما السديدة، وسبحان من تفرد بالكمال.
وبعد قراءتى لعمل أخي الدكتور/ صالح العايد وجدته - حفظه الله، وأدام عليه نعمة التوفيق - قد قدم بين يدي تحقيقه للجزء الثاني من" البديع" دراسة شاملة وافية للكتاب بجزئيه الأول والثاني؛ إذ أن الدراسة الجامعية تحتم على الطالب دراسة الكتاب كله.
ومن ثم رأيت أن دراسة أخي الدكتور/ صالح للكتاب لا تتحمل مزيدا، ولا تترك مجالا لإضافة.
بيد أني رأيت أن أسهم بجهد متواضع، يضاف إلى الجهد الكبير الذي بذله الأخ الكريم، وهذا الإسهام - على تواضعه - خاص بالجزء الأول، وهو الجزء الذي جعله ابن الأثير خاصا بأبواب النحو؛ إذ أن الجزء الثاني الذي حققه أخي الدكتور/ صالح خاص بأبواب الصرف.
وسأشير هاهنا إلى ما أضفته من مسائل إلى ما ذكر الأخ الدكتور/ صالح في الدراسة.
أولا: فى الكلام على الإيجاز في الأدلة والعلل.
من رقم (١) إلى رقم (١٠) من ص ٨٤ إلى ص ٨٩ (السطرين الأول والثاني).
ثانيا: في الكلام على أنه قد يبسط القول، ويزيد الشرح .. الخ
من رقم (١) ص ٩٢ إلى رقم (٢) ص ٩٣ (السطور الخمسة الأولى فقط).
ثالثا: في الكلام على مصادر الكتاب الأساسية، عند الكلام على منهجه فى ذلك.
من ص ١١٠ إلى آخر ص ١١٣.
رابعا: في الكلام على نقل النحاة عنه.
من ص ١٣٨ إلى آخر ص ١٤٥.
مقدمة / 6
خامسا: في الكلام على عرضه لمذهب البصريين والكوفيين.
ص ١٤٦ - ١٤٧ رقم (١)، (٢).
سادسا: في الكلام على موافقته الكوفيين أحيانا.
من رقم (١) ص ١٤٩ إلى رقم (٢) ص ١٥٠.
سابعا: في الكلام على شخصيته العلمية.
من ص ١٥٣ إلى ص ١٦٢.
هذا وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله أجمعين.
دكتور/ فتحي أحمد مصطفى على الدين
مكة المكرمة فى ٢٤ جمادى الآخرة
سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة المشرفة
مقدمة / 7
الدراسة
مقدمة / 9
ابن الأثير (حياته - ومؤلفاته)
مقدمة / 11
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الفصل الأول (مجد الدين ابن الأثير)
عصره:
عاش ابن الأثير في شمال العراق في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وكان هذا العصر وسطا بين مجد الأمة الإسلامية، في عصر قوتها إبان حكم الخلفاء العباسيين الأوائل، وبين سقوطها على أيدي التتار في منتصف القرن السابع الهجري، بل كانت الحقبة التي عاش فيها ابن الأثير ممهدة لذلك السقوط بما حفلت به من تفريق للأمة الإسلامية وتنازع بين الحكام، وقد ضعفت سلطة الخلافة العباسية في بغداد، وسيطر السلاجقة على البلدان بما امتازوا به من قوة شكيمة، ولم يبق للخلفاء من الخلافة إلا اسمها، أما القوة الحقيقية فهي للسلاجقة، فاقتسموا الأقاليم بينهم، فقد وزع ملكشاه السلجوقي (١) البلاد إلى مجموعة مقاطعات كانت تسمى (الأتابكيّات)، يحكمها أتابكة أقوياء.
وشهد النصف الثاني من ذلك القرن أوج الجهاد الإسلامي لصد الصليبين، فكان السلاطين من آل زنكي يتنافسون في ذلك الجهاد الذي بدأه عماد الدين زنكي بن آق سنقر (٢)، حتى تم النصر على يد صلاح الدين
_________
(١) ترجمته في: وفيات الأعيان (٥/ ٢٨٣).
(٢) ترجمته في: وفيات الأعيان (٢/ ٣٢٧).
مقدمة / 13
الأيوبي بفتح بيت المقدس، سنة (٥٨٣ هـ) (١).
وكانت الموصل تحت حكم آل زنكي، وكان أبناء الأثير من خاصتهم، فحكمها قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي من سنة (٥٤٤ هـ) إلى سنة (٥٦٥ هـ)، وقد قاتل قطب الدين الصليبيين مع أخيه نور الدين - حاكم حلب - وذلك
في سنة (٥٥٩ هـ) في بلاد الشام، وأفنوهم قتلا وأسرا (٢).
وفي سنة ٥٦٢ هـ هاجم نور الدين وقطب الدين طرابلس، وفتكوا بعدة قلاع ومدن للصليبين، وغنموا وأسروا، (٣) وبعد وفاة قطب الدين تولى حكم الموصل ابنه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود (٥٦٥ - ٥٧٦ هـ)، وكان سيف الدين ضعيف الرأي والتدبير، ميالا إلى اللهو والغناء، غلب على أمره الوزراء وبطانة السوء، ودخل في نزاع مع أخيه عماد الدين زنكي، صاحب سنجار (٤) والخابور والرقة، وضعضعت دولته، بل إنه قد أساء إلى وزرائه وكبار رجال دولته، وتوفي سنة ٥٧٦ هـ، فتولى بعده ابنه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود، (٥٧٦ - ٥٨٩ هـ)، وكانت مملكته ضعيفة ممزقة.
وسار صلاح الدين الأيوبي إلى الموصل، فملك ما حولها، وحدث قتال بين صلاح الدين وعز الدين، وحاصر صلاح الدين الموصل، ولم يستمر فيه خوفا من إضعاف جيشه في أمر غير ذى بال، فتركها وعاد إلى الشام، وكان ذلك في سنة ٥٨١ هـ، وظل عز الدين على الموصل فقط، ولما توفي خلفه ابنه نور الدين أرسلان شاه، (٥٨٩ - ٦٠٧ هـ) ودخل في نزاع كبير مع عمه عماد
_________
(١) الكامل (١١/ ٥٤٩).
(٢) زبدة الحلب من تاريخ حلب (٢/ ٣١٩)، تاريخ الموصل (٢٩٠).
(٣) الكامل (١١/ ١٣٢)، تاريخ الموصل (٢٩٠).
(٤) ترجمته في وفيات الأعيان (٢/ ٣٣٠).
مقدمة / 14
الدين زنكي بن قطب الدين صاحب سنجار ونصّيبين، ثم مع ابنه قطب الدين (١) بعد وفاة أبيه، وسار نور الدين إلى نصيبين واستولى عليها، وحاصر الملك العادل (٢) بن أيوب في ماردين، وظل الأتابكة يتحاربون حتى شارفوا على الفناء، وكان ابن الأثير الساعد الأيمن لنور الدين، وكان يشير عليه كثيرا، فعاش هذه الأحداث الأليمة، بل كان أحد مسيّريها.
وقد كانت هذه الحقبة من الزمن من الناحية العلمية والأدبية مزدهرة، فلم يتوقف البحث والتأليف بسبب الحروب والانقسامات؛ لأن الحكام كانوا يتنافسون في تقريب العلماء والشعراء والكتاب وتكريمهم، فبرز مؤرخون ونحاة وأدباء منهم: ابن الخشاب (٣) (ت ٥٦٧ هـ)، وابن الدهان سعيد بن المبارك (٥٦٩ هـ)، وابن عساكر (٥٧١ هـ) (٤)، وكمال الدين الأنباري (٥٧٧ هـ) (٥) والقاضي الفاضل (٥٩٦ هـ) (٦)، والعماد الأصبهاني (٥٩٧ هـ) (٧)، ومجد
الدين بن الأثير (٦٠٦ هـ)، والشاعر فتيان الشاغوري (٦١٥ هـ) (٨)، وأبو البقاء العكبري (٦١٦ هـ) (٩)، وابن قدامة (٦٢٠ هـ) (١٠)
_________
(١) ترجمته في وفيات الأعيان (٢/ ٣٣١).
(٢) وفيات الأعيان (٥/ ٧٤ - ٧٩).
(٣) وفيات الأعيان (٢/ ١٠٢ - ١٠٤).
(٤) وفيات الأعيان (٢/ ٣٠٩ - ٣١١).
(٥) وفيات الأعيان (٣/ ١٣٩ - ١٤٠).
(٦) وفيات الأعيان (٣/ ١٥٨ - ١٦٣).
(٧) وفيات الأعيان (٥/ ١٤٧ - ١٥٣).
(٨) وفيات الأعيان (٤/ ٢٤ - ٢٦).
(٩) وفيات الأعيان (٣/ ١٠٠ - ١٠٢).
(١٠) فوات الوفيات (٢/ ١٥٨ - ١٥٩).
مقدمة / 15
وياقوت الحموي (٦٢٦ هـ) (١)، وعبد اللطيف البغدادي (٦٢٩ هـ) (٢)، وعز الدين بن الأثري (٦٣٠)، وضياء الدين بن الأثير (٦٣٧ هـ)، وابن المستوفي (٦٣٧ هـ) (٣)
وكانت الموصل من أكثر البلدان اهتماما بالعلم، تزخر بالعلماء والمدارس فكان فيها ما يزيد على ستين مدرسة في تلك الحقبة منها: المدرسة النظامية، والأتابكيّة العتيقة، والكامليّة، والزينيّة، والعزيّة والنوريّة والكماليّة القضويّة، واليوسفيّة والمجاهديّة، والمهاجريّة، والنفيسيّة والعلائيّة ومدرسة الجامع النوريّ (٤).
وهكذا كانت الموصل وغيرها من بلاد المسلمين زاخرة بالعلم والعلماء، ولكن الفرقة والتناحر بين الحكام كانا نذيرين بسقوط وخيم؛ فلم يفق الإخوة من صراعهم إلا على طبول التتار وجيوشهم تدك بغداد سنة (٦٥٦ هـ).
- نسبه:
العلاء المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد (٥) بن عبد الكريم بن
_________
(١) وفيات الأعيان (٦/ ١٢٧ - ١٣٩).
(٢) فوات الوفيات (٢/ ٣٨٥ - ٣٨٨).
(٣) وفيات الأعيان (٤/ ١٤٧ - ١٥٢).
(٤) تاريخ الموصل (٣٤٣ - ٣٥١).
(٥) في عنوانات النسخ المخطوطة من كتب مجد الدين بن الأثير،" البديع في علم العربية" و" منال الطالب فى شرح طوال الغرائب"، و" المرصع في الآباء والآمهات والبنين والبنات والأدواء والذوات" التي يبدو أنها جميعا بخط ابن أخيه شرف الدين محمد بن نصر الله، فيها اسم المؤلف:
المبارك بن محمد بن عبد الكريم، وكذلك في السماعات التي بخط أخيه عز الدين علي بن محمد في المرصع ومنال الطلب وجامع الأصول في أحاديث الرسول وبخطه. قال الذهبي - في تاريخ الإسلام ق: ٩٦ - في ترجمة أخيه عز الدين بن الأثير: (كان يكتب بخطه علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري، وكذا ذكره الحافظ المنذري والفوطي في معجمه وابن الظاهري في تخريجه للصاحب مجد الدين العقيلي، وأبو الفتح بن الحاجب في معجمه وغيرهم، على سبيل الاختصار، وله أشباه ونظائر، وإنما هو علي بن محمد بن محمد بلا ريب).
مقدمة / 16
عبد الواحد الشيبانيّ الجزريّ، الموصليّ، الإربليّ، الشافعيّ، أبو السعادات مجد الدين بن الأثير (١)، والأثير لقب لوالده (٢).
مولده ونشأته:
ولد مجد الدين بجزيرة ابن عمر المعروفة أيضا بالجزيرة العمرية (٣) وإليها نسب فقيل: الجزري، وكانت ولادته في أحد ربيعي سنة أربع وأربعين وخمسمائة (٤). ولم يخالف في تحديد سنة ولادته إلا إلى ابن تغري بردي وأبو شامة؛ إذ ذكرا أنه ولد سنة أربعين وخمسمائة (٥).
ونشأ في جزيرة ابن عمر وكان والده على ديوانها نائبا عن قطب الدين مودود بن زنكي بن آق سنقر (٦) - كما سيأتي إن شاء الله تعالى (٧).
ثم انتقل الأثير وابناؤه إلى الموصل سنة (٥٦٥ هـ) (٨)، وبها تعلم على كبار علمائها، وإليها نسب فقيل:" الموصلي".
أسرته:
ابن الأثير من قبيلة شيبان، وهي قبيلة عربية أصيلة ذات تاريخ وأمجاد،
_________
(١) عقود الجمان في شعراء هذا الزمان (٦/ ١٥ أ).
(٢) معجم الأدباء (١٧/ ٧١).
(٣) وهي الآن تابعة لتركيا.
(٤) عقود الجمان (٦/ ١٥ أ).
(٥) النجوم الزاهرة (٦/ ١٩٨)، الذيل على الروضتين (٦٨).
(٦) ترجمته في وفيات الأعيان (٥/ ٣٠٢).
(٧) ص: ٤٥.
(٨) تاريخ ابن الفرات: المجلد ٥، الجزء ١، ص ١٠٠)، معجم الأدباء (١٧/ ٧١)، وفيات الأعيان (٤/ ١٤١)، وفي ذيل مرآة الزمان (١/ ٦٤):
(وانتقل - أى ضياء الدين بن الأثير - مع والده في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة).
مقدمة / 17
وحظيت أسرته - بالإضافة إلى النسب العريق - بالجاه، والسلطان والمال الوفير، ف والده كان أحد المقربين من أتابكة الموصل، بل كان أحد رجالات الدولة، وقبل أن ينتقل إلى الموصل كان واليا على بلده" جزيرة ابن عمر"، وكان الأثير يملك ضياعا وبساتين وقرى، فله في جزيرة ابن عمر قرية تسمى" العقيمة" (١)، وله في جنوب الموصل قرية تسمى" قصر حرب" (٢)، وكانت لأثير الدين تجارة وافرة وقوافل تتابع من الشام إلى العراق، فجمعت هذه الأسرة بين المكانة العالية نسبا وجاها وغنى، فتفرغ أبناؤها لطلب العلم على علماء الجزيرة ثم الموصل وغيرها، فأضافوا إلى الغنى والجاه علما غزيرا، فجمعت هذه الأسرة أسباب الفخر كلها.
فشارك أبناء الأثير - كما شارك أبوهم - في الحكم، فكان السلاطين والوزراء يستشيرونهم، ويقدرون فيهم النبوغ وبعد النظر، وكما سيأتى (٣) فإن مجد الدين تولى مناصب عالية في أتابكية الموصل، وعرضت عليه الوزارة غير مرة فأبى، وذكر ابن كثير: أن عز الدين وزر لبعض ملوك الموصل (٤)، وأما ضياء الدين فكان وزيرا للملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي سنة (٥٨٧ هـ) (٥)
والده:
هو: أثير الدين أبو الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ الشافعيّ (٦). لم يذكره من المؤرخين إلا ابنه عزّ الدين في بعض
_________
(١) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية (١٤٧).
(٢) الكامل (٥/ ٥٧٢).
(٣) ص: ٤٥ - ٤٧.
(٤) البداية والنهاية (١٣/ ١٣٩).
(٥) انظر ص: ١٠٠.
(٦) معجم الأدباء (١٧/ ٧١).
مقدمة / 18
الحوادث الواقعة في الموصل، وكان ذكره له مقتضبا، فلم يحدد سنة ولادته ولا وفاته.
ولكن يتبين من حديثه عنه أنه كان أحد المقربين من حكام الموصل خاصة عماد الدين زنكي (١)، ففي عام (٥٤١ هـ)، سار أثير الدين إلى قلعة جعبر حينما كان يحاصرها عماد الدين (٢)، وذكر ابنه عز الدين أن أباه كان في عام ٥٦٥ هـ يتولى ديوان جزيرة ابن عمر نائبا عن قطب الدين (٣)، بل يبدو أنه كان يشغل هذا المنصب قبل سنة ٥٥٥ هـ، ففي تلك السنة يذكر عز الدين أن الوزير جمال الدين أبا جعفر بن علي بن أبي منصور الأصفهانيّ (٤) استدعى والده أثير الدين وقال له: (قد استقرّ الأمر كيت وكيت، فتعود إلى الجزيرة، وتقطع علائقك، وتقضي أشغالك، فإنني أريد أن أجعلك نائبي بالعراق) (٥).
ولكنه استدعاه مرة أخرى، وقال له: (عد إلى بلدك؛ فإن سليمان شاه (٦) لم ينتظم حاله) (٧).
وذكر ابن الفرات (٨)، وياقوت الحمويّ (٩)، وابن خلكان (١٠): أن أثير
_________
(١) ترجمته في وفيات الأعيان (٢/ ٣٢٧ - ٣٢٩).
(٢) الباهر (٧٨).
(٣) الكامل (١١/ ٣٥٦ - ٣٥٧)، الباهر (١٤٧).
(٤) ترجمته في: وفيات الأعيان (٢/ ٧٢).
(٥) الباهر (١١٥).
(٦) هو: سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه المقتول سنة (٥٥٦ هـ).
(٧) الباهر (١١٥).
(٨) تاريخ ابن الفرات (م ٥، ج ١، ص ١٠٠).
(٩) معجم الأدباء (١٧/ ٧١).
(١٠) وفيات الأعيان (٤/ ١٤١).
مقدمة / 19
الدين وأبناءه انتقلوا من جزيرة ابن عمر إلى الموصل سنة (٥٦٥ هـ)، ولم يخالف في ذلك إلا اليونيني، فذكر في حديثه عن ضياء الدين بن الأثير أنه انتقل مع والده في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة (١).
ويؤيد القول الأول: أن ياقوت الحمويّ ذكر أن مجد الدين سمع الحديث بالموصل من أبي الفضل الطوسي، وأبو الفضل توفي سنة (٦٥٨ هـ)، وربما كان انتقالهم بعد وفاة قطب الدين وترك أثير الدين عمله في جزيرة ابن عمر.
وبعد هذا لم يذكر ابن الأثير أن أباه تولى منصبا، وإنما ذكره في الحديث عن قوافل التجارة التى استولى عليها الصليبيون سنة (٥٦٧ هـ)، فذكر أن لوالده قافلة كانت من القوافل التي استولو عليها (٢).
وآخر مرة ذكر فيها أباه سنة (٥٨٧ هـ) حينما حاصر عز الدين جزيرة ابن عمر، فإن أثير الدين كان فيها، لذا سمح عز الدين مسعود لمجد الدين بن الأثير أن يدخلها وقاله له: (إن والدك أثير الدين له مدة ما رآك، ولا شك أنه قد اشتاقك، فتدخل إليه وتسلم عليه وتسأله الدعاء) (٣).
وسيأتى (٤) أن نور الدين الذي تولى حكم الموصل سنة ٥٨٩ هـ عرض على مجد الدين بن الأثير الوزارة غير مرة، ورفضها، فلامه والده وأخوه.
وقد ذكر بعض الباحثين: أن أثير الدين كان حيا عند وفاة ابنه مجد الدين سنة (٦٠٦ هـ) (٥). مستدلا برسالة كتبها ضياء الدين إلى والده جوابا عن
_________
(١) ذيل مرآة الزمان (١/ ٦٤).
(٢) الباهر (١٥٥).
(٣) الباهر (١٨٧).
(٤) ص: ٤٧.
(٥) الدكتور: نوري القيسي وهلال ناجي: رسائل ابن الأثير (٢٩).
مقدمة / 20
كتابه المخبر بوفاة أخيه (ولم يسمّه) أرسلها إليه من دمشق (١).
وأظن أن هذه الرسالة ليست دليلا كافيا للبتّ فى ذلك، لأن لأثير الدين ابنا غير مشهور اسمه أبو المظفر بن محمد
بن محمد بن عبد الكريم سيأتي الحديث عنه (٢)، فربما كان أخوه المتوفّى هو: أبو المظفر وليس مجد الدين؛ لأن الرسالة الآنفة الذكر مرسلة من دمشق، وكانت إقامة ضياء الدين في دمشق من شهر ربيع الأول سنة ٥٨٧ هـ حتى رجب سنة (٥٩٢ هـ) (٣)، ولما يدخلها بعد، بل إنه كان في سمسياط عند وفاة أخيه مجد الدين، فقد وصلها في شهر ربيع الأول سنة (٥٩٨ هـ) ولم يغادرها إلا في ذي القعدة سنة (٦٠٧ هـ) (٤)
ثم إن الرسالة لم يصرح فيها باسم أخيه، بل قال: (... فوقفت عليه وألفيته مخبرا بوفاة الأخ فلان) (٥) ولا أظن أن ضياء الدين سيكني عن أخيه بقوله فلان، لو كان المعنيّ مجد الدين.
- إخوته:
وبنو الأثير ثلاثة قد حاز كلّ مفتخر فمؤرخ جمع العلوم وآخر ولى الوزر ومحدث كتب الحديث له النهاية في الأثر (٦)
١ - علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزريّ أبو
_________
(١) رسائل ابن الأثير (تحقيق: د. نوري القيسي وهلال ناجي): ٨٥ - ٨٧.
(٢) ص: ١٢.
(٣) انظر: وفيات الأعيان (٥/ ٣٩٠).
(٤) انظر: وفيات الأعيان (٥/ ٣٩١).
(٥) رسائل ابن الأثير (٨٦).
(٦) تاج العروس (أثر)
مقدمة / 21
الحسن عز الدين بن الأثير، ولد في الرابع من جمادى الأولى سنة (٥٥٥ هـ) في جزيرة ابن عمر، ثم سكن الموصل، وتجوّل في عدد من البلدان، ونال مرتبة عالية عند الأمراء والعلماء، توفي بالموصل في شعبان سنة ٦٣٠ هـ له من الكتب: (الكامل في التاريخ)، و(أسد الغابة في معرفة الصحابة)، و(اللباب في تهذيب الأنساب) و(التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية) وغيرها (١).
٢ - نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيبانيّ الجزريّ، أبو الفتح ضياء الدين بن الأثير، ولد في جزيرة ابن عمر، يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ٥٥٨ هـ، ثم سكن الموصل مدة، ثم انتقل إلى دمشق ثم مصر ثم حلب،
ثم عاد إلى الموصل، ولي الوزارة للملك الأفضل بن صلاح الدين، وهو من العلماء الكتاب المترسلين، مات ببغداد يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ٦٣٧ هـ.
وله كتب كثيرة، منها (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) و(الوشي المرقوم في حل المنظوم)، و(البرهان في علم البيان)، و(المعاني المخترعة في صناعة الإنشا)، و(المفتاح المنشأ في حديقة الإنشا، و(الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور) وغيرها (٢).
_________
(١) ترجمته في: تلخيص مجمع الآداب ٤ / ق ١/ ٢٦٠ - ٢٦١)، مرآة الزمان (٨ / ق ١/ ٣٢) التكملة لوفيات النقلة (٣/ ٣٤٧ - ٣٤٨)، وفيات الأعيان (٣/ ٣٤٨ - ٣٥٠)، تذكرة الحفاظ (٤/ ١٣٩٩ - ١٤٠٠)، العبر - للذهبي (٥/ ١٢٠ - ١٢١)، طبقات الشافعية للسبكيّ (٨/ ٣٦٦ - ٣٦٧)، ابن الأثير المؤرخ - د. عبد القادر طليمات.
(٢) ترجمته في:
عقود الجمان (٩/ ٢٦ ب - ٤٣ ب)، التكملة لوفيات النقلة ج (٣/ ٥٣٥)، وفيات الأعيان (٥/ ٣٨٩ - ٣٩٧)، دول الإسلام للذهبي (٢/ ١٠٩)، العبر - للذهبي (٥/ ١٥٦).
مقدمة / 22
قال الذهبى: (وكان بينه وبين أخيه عز الدين مقاطعة كلّية) (١).
ولضياء الدين ابن اسمه: شرف الدين محمد بن نصر الله الموصليّ مولود بها سنة (٥٨٥ هـ)، وقد توفي شابا سنة ٦٢٢ هـ، وله من الكتب (نزهة الأبصار في نعت الفواكه والثمار) (٢).
ويبدو أنه كان ملازما لعمه مجد الدين في رباطه، يتضح ذلك من كتابته أسماء الذين سمعوا كتب ابن الأثير على مؤلفها، وأنه ناسخ كتاب (منال الطالب في شرح طول الغرائب)، وسيأتي الحديث عن ذلك (٣).
٣ - أبو المظفر بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيبانيّ، لم أعثر على ترجمة له وهو ابن رابع لأثير الدين، لم يعرفه كثير من الباحثين، وقد تبين ذلك لي ممن أثبت سماعهم للجزء الأول من كتاب (جامع الأصول في أحاديث الرسول) (٤) فمنهم (شمس الدين عبد الكريم بن أبي المظفر بن محمد ولد أخي المصنف (٥) ولم أعثر على ترجمة لشمس الدين عبد الكريم.
ولأبناء الأثير عم يدعى" أحمد بن محمد عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني"، ولده أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الشيبانيّ الموصليّ شمس الدين، الكاتب، المولود بعيد الستين والخمسمائة.
وقد تلمذ لأساتذة أبناء الأثير: كأبي الحرم مكي بن ريان الماكسينيّ والخطيب أبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسيّ، وقد كتب شمس الدين الإنشاء
_________
(١) العبر (٥/ ١٥٦).
(٢) ترجمته فى: عقود الجمان (٦/ ٢٧١ أ)، مطالع البدور (١/ ١٢٧).
(٣) ص: ٣٤.
(٤) نسخة فيض الله أفندي رقم (٢٢٩) بخط المؤلف: استانبول - تركيا.
(٥) انظر: تلخيص مجمع الآداب (٢/ ٨٢٠).
مقدمة / 23
لنور الدين أرسلان شاه، وبعده لولده الملك القاهر عز الدين مسعود، وكان شاعرا وحافظا لكتاب الله تعالى.
قال عنه ابن الشعار الموصلي: (لم يكن في وقته مثله في البلاغة والكتابة وبراعة الترسل وحسن الخط، وكان عاقلا رزينا وجيها مقبولا) (١)
توفي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة ثلاث وعشرين وستمائة بالموصل (٢).
من يعرف ب (ابن الأثير) (٣):
١ - المبارك بن محمد: مجد الدين بن الأثير، وهو مؤلف هذا الكتاب الذي نحققه.
٢ - علي بن محمد: عز الدين بن الأثير.
٣ - نصر الله بن محمد: ضياء الدين بن الأثير.
٤ - أبو المظفر بن محمد بن محمد بن عبد الكريم.
٥ - عبد الكريم بن أبي المظفر بن محمد، شمس الدين بن الأثير.
٦ - محمد بن نصر الله بن محمد بن عبد الكريم: شرف الدين بن الأثير (٤).
٧ - أحمد بن شرف الدين أبي الفضل سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير، أبو العباس تاج الدين التنوخيّ الحلبي، كاتب الإنشاء المتوفى بغزة سنة (٦٩١ هـ) (٥)
_________
(١) عقود الجمان (٤/ ٢٥٦ ب - ٢٥٧ أ).
(٢) ترجمته في عقود الجمان: ٤/ ٢٥٥ ب - ٢٦٠ أ).
(٣) انظر: مجلة المجمع العلمي بدمشق - مجلد ٢٣، ج ٤ ص ٥٥٩ - ٥٦٠.
(٤) سبق الحديث عنهم ص ٩ - ١١.
(٥) انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزى (جج ١ ق ٣، ص: ٧٢٨، ٧٧٩، ٧٨١)، ويعرف بتاج الدين الحلبي.
مقدمة / 24
٨ - إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد الأثير، أبو الفداء عماد الدين الحلبيّ المتوفى سنة (٦٩٩ هـ) (١) وهو ابن تاج الدين الحلبيّ.
٩ - أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير، نجم الدين الحلبيّ - وهو عماد الدين الحلبيّ - المتوفى بالقاهرة سنة (٧٣٧ هـ) (٢)
١٠ - ابن الأثير اليمنيّ (٣).
١١ - مجد الدين محمد بن الأثير (٤).
١٢ - سعيد بن محمد بن سعيد، شمس الدين بن الأثير، كاتب الإنشاء المتوفى في السابع عشر من ذي القعدة سنة (٧٠٧ هـ)، بدمشق (٥).
١٣ - محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد، شرف الدين بن الأثير (٦)، وهو ابن شمس الدين السابق الذكر.
١٤ - الحسين بن أسد بن مبارك بن الأثير عبد الملك بن عبد الله الأنصاريّ الحنبليّ شمس الدين الواعظ، المولود سنة ٦٤٩ هـ، والمتوفى سنة ٧٣٥ هـ (٧).
١٥ - الحسن بن الأثير، له رسالة في العمل بالمقنطرات (٨).
_________
(١) ترجمته في (معجم المؤلفين: ٢/ ٢٥٩)، وهو مؤلف كتاب (كنز البراعة في أدوات ذوي اليراعة)
(٢) ترجمته في: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (١/ ١١١ - ١١٢)، وهو مؤلف (جواهر الكنز في البيان والبديع).
(٣) انظر: معجم المصنفين (٢٥).
(٤) الحوادث الجامعة لابن الفوطي (ص: ٣٣٣، ٤٤٨، ٤٩٠)، وذيل مرآة الزمان (٤/ ٢٢٧، ٢٢٨)
(٥) السلوك لمعرفة دول الملوك (ج ١، ق ٣، ص: ٩٢٧).
(٦) السلوك لمعرفة دول الملوك (ج ١، ق ٣، ص: ٨٩٥، ٩٢٢، (حوادث سنة ٧٠١ هـ)
(٧) ذيل تذكرة الحفاظ - للحافظ ابن أبي المحاسن الدمشقي (١٥)، الدرر الكامنة ٢ /، المنهل الصافي م ٢ ج ق ٢١٣.
(٨) نوادر المخطوطات العربية في تركيا (١/ ٤٣١).
مقدمة / 25
١٦ - علي بن أحمد بن سعيد بن محمد - بن الأثير، الحلبيّ الأصل، ثم المصريّ، كاتب السر بمصر، المتوفى سنة (٧٣٠ هـ) (١).
- طلب ابن الأثير العلم:
نشأ ابن الأثير وإخوته في جزيرة ابن عمر التي كان أبوهم يتولى ديوانها، وكان أثير الدين - فضلا عن مركزه المرموق - غنيا يملك البساتين والضياع، وله تجارة كبيرة، وقد حرص أبو الكرم على أن يربي أولاده ويعلمهم، لذا لم يكن غريبا بروز ثلاثة من أبنائه، كان كل واحد منهم يشار إليه بالبنان؛ في علم من العلوم، إذ اجتمعت لهم البيئة المعدة لنيل العلوم والرغبة القوية في ذلك.
قال مجد الدين بن الأثير موضحا ذلك: (ما زلت منذ ريعان الشباب وحداثة السن مشغوفا بطلب العلم ومجالسة أهله، والتشبه بهم حسب الإمكان وذلك من فضل الله علي ولطفه بي أن حبّبه إليّ، فبذلت الوسع في تحصيل ما وفضّت من أنواعه، حتى صارت فيّ قوة الاطلاع على خفاياه، وإدراك خباياه ولم آل جهدا - والله الموفق - في إكمال الطلب وابتغاء الأرب، إلى أن تشبثت من كلّ بطرف، تشبثت فيه بأضرابي، ولا أقول تميزت به على أترابي، فلله الحمد على ما أنعم به من فضله وأجزل به من طوله) (٢)
ولما انتقل ابن الأثير مع والده وإخوته إلى الموصل عام (٥٦٥ هـ) كان فيها مجموعة من كبار علماء عصره، لازمهم وأخذ عنهم، قال ياقوت الحموي:
(حدثني أخوه أبو الحسن قال: قرأ أخي الأدب على ناصح الدين أبي محمد سعيد بن الدهان البغداديّ، وأبي بكر يحيى بن سعدون المغربى القرطبي وأبي
_________
(١) البداية والنهاية (١٤/ ١٤٩).
(٢) مقدمة (جامع الأصول في أحاديث الرسول): (١/ ٣٥).
مقدمة / 26