وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ، مسرة لا تزول.
وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول. وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، والبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه.
وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحترق ولا يهرق وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول: «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطر. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته. ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسهل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر.
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: كان بالأمس وسيكون غدا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق.
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحد المكان بقولي: هنا وهناك وهنالك. وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون؛ وأن أنام وهم منتبهون، وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامي في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم.
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع، وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة.
অজানা পৃষ্ঠা