বাদাইয়াতুল খায়াল
بدائع الخيال
জনগুলি
نزلت بهما كل هاتيك المصائب، وأحاطتهما الشدة إحاطة السوار بالمعصم، فألجأتهما إلى بيع كل ما عندهما من بقايا أثاث المجد القديم حتى أصبحا لا يملكان إلا ما يستر عورتهما من ثياب أبلاها الدهر والحدثان، وما هي إلا عشية وضحاها حتى كنت ترى الشيخ وزوجه في حالة يستمطران معها أكف المحسنين ويسألان العطف بعجوزين تقوس ظهراهما تحت عبء الفاقة والكبر، وهكذا أنزلهما الزمان في الحضيض بعد السنام، وصدمهما بكلكله؛ فاسترد ما أعارهما من مجد مؤثل، وعز قديم.
بجوار منزل إلياس كان يقطن محمد شاه رجل طيب القلب كريم الأخلاق، إلا أنه ليس من ذوي الثراء الواسع، ما كاد هذا الرجل يرى ما وصل إليه جاره حتى تذكر مجده الضائع، وكرمه الماضي، وعاودته ذكرى تلك السعادة التي تقلب بين أعطافها زمنا طويلا، فعطف عليهما وقال لهما: «هيا عيشا معي أيها الرفيقان، واشتغلا بقدر ما تسمح به قوتكما، وأنا الكفيل بأمر طعامكما ولباسكما وقضاء كل مهامكما.» فلم يسعهما إلا أن يشكراه على حسن صنيعه، وأصبحا من ذلك الوقت مشمولين برعايته بعد أن انتظما في سلك خدمته.
لقد بدا لهما المركز حرجا والعمل شاقا في أول الأمر، إلا أنهما ألفاه بتأثير العادة، واستمرا يباشران كل ما يقويان عليه من العمل بهمة ونشاط، وكان محمد شاه يرى أن من منفعته الاحتفاظ بمثل هذين العاملين؛ لأنهما تمرنا على كثير من الأعمال، فضلا عما كان يبدو عليهما من اليقظة والنشاط، إلا أنه من جهة أخرى كان كلما تمثلت أمام عينيه شدة السقطة التي لاقاها هذان المنكودان - سقطة المجد من أعلى قمته إلى أعماق هاوية المذلة السحيقة - هز رأسه أسفا وحزنا.
واتفق مرة أن وفد على محمد شاه بعض أقاربه القاطنين لزيارته وبرفقتهم أحد المتصوفين (ملا )، وبينما هم جالسون يشربون الكومس وإذا بشيخ نقض الدهر مرته يمر من أمامهم، فالتفت إليهم صاحب الدار قائلا: «ألا ترون هذا الرجل؟» فأجابه أحدهم: «نعم، وماذا بعد؟!» فاستمر يقول: «إن اسمه إلياس، ولقد أتى عليه يوم كان فيه أغنى رجل بيننا، وأكبر وجيه في هذه النواحي، أما الآن وقد قلب له الدهر مجنه فأصبح مثمودا ضريكا فقد أشفقت عليه هو وزوجه، وشملتهما بعطفي، وأدخلتهما في خدمتي يشتغلان معي بقدر ما تسمح إرادتهما، وإني لا أخالكم قد سمعتم بهذا الاسم من قبل.»
فقال الزائر: «كيف لا وقد عبقت شهرته في طول البلاد وعرضها؟!» واستمر المضيف يقول: «وهو وزوجه يقيمان معي الآن، ويشتغلان عندي كعاملين.»
فهز الزائر رأسه بعد أن بدت على وجهه علامات الأسف وقال متأوها: «ما أشبه الحظ بدورة الفلك! فهو آونة يرفع المرء إلى سماء السعادة وجنات النعيم، وأخرى يؤدي به إلى مقر البؤس والنحوس، ولكن هل قلبه - يا ترى - مفعم بالحزن والأسى على تلك السعادة المفقودة والثروة الضائعة؟!» فقال محمد شاه: «ومن يدري؟! فهو يعيش عيشة يحوطها الهدوء، وتظللها السكينة، ويباشر العمل بهمة لا تعرف الكلل.»
فقال الضيف مخاطبا صاحب الدار: «أتأذن لي ببضع دقائق أقضيها في محادثة هذا الشيخ لأستجلي بعض أسرار حياته الماضية؟!» - «ولم لا؟!»
فناداه صاحب الدار قائلا: «تعال أيها الشيخ الجليل لتشاركنا في بعض كئوس من الكومس نقدمها إليك.»
فاقترب إلياس محييا سيده وسائر ضيوفه، ثم ناوله كأسا إلا أنه ما كاد يأخذ منها جرعة نخب الحاضرين حتى أعادها مكانها وجلس بجانب الباب، وكذا أتت زوجته وجلست مختبئة وراء الستائر، بعدئذ ابتدأ الضيف في محادثته قائلا: «إننا - على ما أظن - مسيئون إليك بوجودك بيننا، فإن ذلك ربما يذكرك سعادتك الماضية، ويعيد إليك أشجانك الحاضرة.» فتبسم إلياس وقال: «إن أردتم أن أحدثكم عن السعادة والشقاء فلا أظنكم مصدقي، والأحرى بكم أن تسألوا زوجتي فهي امرأة، وكل ما في قلبها يظهر جليا على لسانها، فكلامها الصدق، وحديثها هو كل ما يختلج في أعماق فؤادها.»
فأدار الزائر وجهه نحو الستائر وسأل زوجة الشيخ: «كيف تقيسين بين سعادتك الغابرة، وشقائك الحاضر؟» فأجابته قائلة: «أصغ إلي؛ فسأفضي إليك بالحقيقة، قضيت أنا وزوجي نحوا من خمسين عاما باحثين عن شيء مفقود منقبين عنه في كل مكان فلم نجده إلا الآن، نعم في هاتين السنتين الأخيرتين فقط منذ فقدنا كل شيء وصرنا عاملين عثرنا على ضالتنا المنشودة، عثرنا على السعادة الحقيقية التي لا مطمع لنا بعدها.»
অজানা পৃষ্ঠা