قالت: ما زعمت شيئا من هذا يا غلام، وخير لك ولكرامتك أن تحفظ لسانك، وإلا لطمتك على وجهك بنعلي هذا! وأما وحق الله ما يزيد كراهتي لصحبة أبيك إلا أنه يصحب فدما قليل الحياء مثلك. قال النضر: أنت امرأة وقحة، لا أدري كيف يعاشرك أبي، وخير لأبي أن يخلص إلينا منك وتذهبي أنى شئت. قال الحارث: أقصر يا نضر ما لك ولهذا. قال ولم يأبه لكلام أبيه: إنا راحلون في الغد إلى صنعاء رضيت أو لم ترضي، وآخذون ابنتنا معنا، فافعلي ما تريدين. قالت لمياء: لا أدري علام كل هذا اللجاج؟ إذا كان أبي في حاجة إلى السفر إلى صنعاء فليفعل. إنا سننتظره هنا. ليست هذه أول مرة فارقنا فيها، ولن أكون معك على أمي إلا أن أكون عاقة. قال النضر: إنك لحمقاء يا فتية، اسكتي. قالت: إنما الأحمق من يقول حمقا ولو كان ذا لحية! تريد لأمي أن تبقى هنا وحيدة، وأنا معك في صنعاء ولا ترى هذا سفها! حسبك هذا. أنا لا أرحل إلا مع أمي.
لم يدر الحارث ماذا يفعل إزاء هذه الثورة؟ ولا ماذا يقول في هذا الموقف؟ فنهض من مجلسه صامتا، وخرج يتبعه ولده، وفي نيته الرحيل على كل حال عن نجران.
الفصل الثاني والعشرون
وداع الأحباب
ضاقت الدنيا في وجه هرميون، فلم تدر ماذا تفعل إزاء ما بدا من رغبة الحارث في الرحيل إلى صنعاء، وما جرى بينها وبين النضر من المشادة والتنابذ بالألفاظ، وأحست كأنما حدثا عظيما يوشك أن يقع؛ لأنها كانت تعلم ما للنضر على والده من السلطان، وتعلم من ناحية أخرى أن الحارث لا بد راحل إلى صنعاء، وأن أهون ما يفعل إزاء ذلك هو تركها هي وابنتها في نجران حتى يعود، ولا تدري متى يعود، وأنه سيأخذ ورقة معه، بل إنها لا تستطيع أن تستبقيه بجوارها؛ لأنه إنما يسير معهم لأن الحارث معهم، وهو رفيق الحارث وتلميذه، يرافقه رغبة في التعلم على يديه نزولا على إرادة الخير من سيده ابن نوفل المتوفي، وطوعا لأمر مولاته خديجة سيدة قريش، وأحست كأنما النضر سيوغر صدر أبيه من جديد عليها، وربما حمله على أخذ ابنتها منها إذا هي أصرت على مخالفته فيما يريد من التنقل بها من بلد إلى بلد، وأحست كأنما أخطأت؛ إذ تمسكت بالمقام بنجران حتى أقسمت ألا تفارقها إلا إلى الإسكندرية، ثم ذكرت الإسكندرية وما فيها من شرور ومخاطر، وذكرت وادي النيل في مصر وما يملؤه اليوم من عصابات اللصوص، وما يحمل الناس في قلوبهم لكل رومي الأصل من الضغن والحقد، وذكرت ذلك وغيره مما لا بد أن يذكره الباحث في أمر نفسه، وما يحيط بها من احتمالات الشر، فنبا بها مجلسها ، وأقضها مضجعها. فرأت نفسها تهرول إلى صومعة الأسقف وتدخل عليه بغير استئذان، ثم تنفجر أمامه باكية مما هي فيه.
ذعر الأسقف لهذا، وأخذ يسائلها عن سبب بكائها، حتى استطاعت أن تجيب فشكت له بثها، وأنحت باللوم في ذلك على النضر بن الحارث، وعزت إليه كل ما هي فيه من الشر، وكادت وهي تذكر قصة وجدها أن تدع شكواها وتذهب من فورها؛ لتنفيذ فكرة شريرة خطرت لها بين الدموع والشجن، وهي أن تستعدي عليه ورقة، وتغريه بقتله جزاء ما يقتلها بما يفعل، ولكنها استفاقت ووجدت الأسقف يعزيها ويعدها خيرا ويطمئنها، وهي لا تزداد إلا نحيبا بين يديه؛ إذ ذكرت ما كانت فيه من العز والطمأنينة في بيت أبيها في الإسكندرية، حتى قضى سوء الطالع فتزوجت من الحارث.
كان الحارث قد دخل في هذه الأثناء، وسمع بعض شكايتها، ولا سيما عتبها على القدر، فأحزنه منها هذا القول، وقال: ما أردت لك إلا المتعة بالنقلة إلى بلدة فيها من الحضارة ما ليس في سواها، وأنا طبيب لا بد لي أن أرتزق ولو كنت غنيا، وأنا فار بولدي من مكان كان يحيط فيه الأذى به وبغيره منه، وقد سئم المقام هنا. فإذا أنا لم أسارع إلى تشريد السأم عنه حن إلى العود إلى صحبه فما أكون فعلت شيئا، وأنا ما أردت شرا لك. أما وقد رفضت وزدت الرفض تعقيدا فما لي إلا أن أتركك في حمى الأسقف، ولكني لا أدري متى أعود؟ وسأترك لك ابنتك فما بيني وبينك خلاف حتى اليوم يقضي بالانفصال، ولكن اعلمي أني قد حزنت لما سمعت منك من كرهي، ولما أبديت من أسفك على أن زوجك أبوك مني. لن أكون بعد اليوم مضاعفا حزنك، وها هي ذي نفقتك أنت وابنتك لعام كامل. فإذا عدت إليك في غضونه فبها، وإلا فسأرسل إليك نفقة عام آخر. فإما قضيته هنا أو سافرت بها إلى أهلك ولن تجدي هناك إلا اليسر بما ملكتك من ثروتي وعقاري في رقودة وأنت إذ ذاك حرة طليقة. أستودعك الله يا صديقي الأسقف، وأوصيك بها خيرا أنت البر كله والتقوى كلها.
قال الأسقف: ما أنت يا حارث من ينظر إلى ظاهر الأمر ويحكم على باطنه. فهذه زوجة غريبة عن هذه الديار، سئمت كثرة الأسفار، وهي قطع من العذاب، فإذا هي كرهت أن تهم بسفرة أخرى فلها لديك من إبائها عذر. إن تقبله كله وعفوت فأنت عادل، وإن قبلت بعضه وعفوت فأنت بار رحيم، ولكنها في الحالين غير ظالمة. هي زوجة آثرتك على نعمة الحياة في الإسكندرية، وسارت معك تشم ريح السعادة في جوارك. فإذا وجدت اليوم هذه الريح قد اختلطت بما يفسدها وكنت أنت الخالط فقد حملتها بملكك على إتلاف سعادتها وتنفيرها منك، وأنت على هذا إن عاتبتها أو لمتها أو هاجرت عنها لا تكون على معدلة معها ولا منصفة. قد يكون لك العذر فيما كان، ولكنها لا تكون هي الظالمة، وللزوجة على زوجها حقوق أخرى توجبها المودة وحسن الأمل والوفاء؛ حقوق تجعل شديدها هينا وهينها دلالا وثقة بمحبة الزوج ومكانتها لديه، وأنت يا حارث تريد أن تسقط هذا كله، ولعمري لهو من غيرك ظلم ومنك منكر؛ أنت الحكيم العليم، التقي البار، والبصير الذي لا يجعل كل لفظ ينطلق به اللسان في الغضب حجة على صاحبه، فالغضب يا حارث شيطان يركب الإنسان؛ ليتكلم بلسانه لا بجنانه، ليوقظ في السامع شيطانا يسمع بآذانه لا وجدانه، ومن ثم يحكم شيطانان عن إنسانين، ويقضيان بينهما وهما لا يدريان.
إني لأعرف وجه عذرك، وأدعو لك بالطمأنينة، ولكني لن أضع يدي في يدك حتى تعفو وتصلح وتسترضي هذه السيدة الوفية، وتبارك لبنتك قبل رحيلك.
كانت هرميون ولمياء تبكيان أثناء حديث الأسقف، وكان الحارث مطرقا. فلما سكت الأسقف عن الكلام قال: والله ما أردت سوءا ولا بيت شرا، ولكن الزوج إذا وجد نفسه في غير منزلة الكرامة نبت به الكرامة إلى مكان تستطيبه، والنفس كالنجم تنزل في أحوال رضاها وغضبها منازل وبروجا تتغير فيها آثارها وأعمالها، ولقد حملني شر ولدي وخشيتي عليه أن أكون اليوم على غير عادتي من تمام البر والرعاية لزوجتي ابنة صديقي وأخي قوزمان. بيد أني كنت أرجو أن تتئد وتصبر، وتساعدني على ما أنا فيه، ولكنها نفرت على الفور، ونفرتني قبل أن أستمسك، وأخذت كلامنا عزته في غير وعي؛ إذ كان شيطان كل منا يتكلم بلساننا كما قلت ويسمع بآذننا. فأنا الآن أعفو وأعتذر معا، وأمنح زوجتي وابنتي البركة والرضا، وأدعو الله لهما بالسلامة والتوفيق حتى ألقاهما في القريب؛ وأرجو أن تتبينا وجه عذري في متابعة ولدي، فإنه إن عاد إلى مكة حمله صحبه على ما خيب الله سعيه فيه ليلة الحجون التي ذكرت لك، وربما مكنه الشيطان من قتل أبر خلق الله محمد بن عبد الله، نقطة العطر المشتارة من ربيع بني هاشم، بل ربيع بني عدنان وإبراهيم، وإذا لم يرضني من أمره إلا أن أقتله بيدي وأنا أبوه وهو وحيدي، فماذا يرضي بني عبد المطلب منا أجمعين!
অজানা পৃষ্ঠা