73

1

أما وربي لنظرة من عينيك بالعطف على سيدتي هرميون وسيدتي لمياء، ونظرة الحب منهما إليك لأرجح في لمحها على كل تلك السعادة المستمدة من جمود الحس، ولألم تستشعره نفسك في العطف على الناس، أملأ للقلب بالسعادة من استقلالك عن الناس وآلامهم، ولولا هذه اللذة القدسية لذة الألم ما سارعت إلى التضحية والهداية، والذود عن الناس، وتطبيب المرضى، والانتصاف لهم من نفسك ومن غيرك، وإحسانك إليهم، وأما وربي ما هو إلا ألمك لي قد حملك على أن تقول ما قلت لتروح عني. هذا بعض برك يا سيدي. جعلت فداءك من كل سوء. قال الحارث: شكرا لك يا ورقة. أنت ولدنا وعلينا أن نكون لك، والآن فاذهب وهات نبيذك الذي وصفت سخينا إنه لهو الدواء حقا، وإن كنت لا أجد بي الآن شيئا.

فنهض ورقة يحضر النبيذ سخينا لمولاه، وبقي الحارث مع السيدتين يذكر ورقة متعجبا لحاله. قال: يا هرميون، ما كنت أريد أن يأتي ذكر أبيك على لساني في حضرتك؛ لئلا يتيقظ فيك الشوق إليه، ولكني لا أحبس عنك الآن بعض ما علمت منه. قالت: وما ذاك؟ قال: لقد كان يقول: إن الهجين خير من الأبوين. قالت: ما معنى ذلك؟ قال: إنه يرى أن نتاج أبوين مختلفين جنسا يجمع خير ما في الجنسين. فهذا ورقة أبوه مصري وأمه عربية، فهو ينطوي على أحسن ما في المصري والعربي معا من صفات؛ أره أذكى وأكرم وأعف وأشجع، ولكأني وربك حين أحادثه أنظر إلى فتى من سادة بيزنطة إلا أنه أعف عينا وقلبا. قالت: صدقت يا حارث، ولكنه يقول: إن أباه عربي من الحيرة. قال: إن الصنوف تختلف: فعربي الحيرة غير عربي بني لحيان. لكل منهما صفات أحدثتها فيه البيئة والمناخ والحياة التي يحياها. قالت: كذلك، وأرى أنه أصبح من حقه علينا وقد مات موئله أن نكون له موئلا، ولا نكتفي من أمره بأن نعوله ويتعلم من علمك. فهل فكرت في ذلك؟ قال: نعم فكرت من يوم أن جئنا إلى هدى. قالت: وما ذاك؟ قال: فكرت في أن أجعل له عندي دينارين كل شهر لا يعطاهما حتى ينقضي العام؛ ليكون المال عدة له، وقد استودعني ابن نوفل عشرين أخرى أعطيه إياها عندما أرى أنه أصبح صالحا للاتجار في العقاقير، وأراه اليوم أصبح بصيرا لها كولدي النضر، ولكني لن أخبره بذلك؛ لئلا يرى الغلام أنه أصبح أجيرا فيتأذى ويلتزم حد الأجير وهذا ما لا أطيقه. بل إني وحقك لأخشى أن يحمله الأمر على تركنا. قالت: صدقت يا حارث. بورك لنا فيك. إنه لفتى نبيل. قال الحارث: فإذا أذنت لنا أن نرحل إلى اليمن شهرين كان في هذا كل ما ترجينه له من الخير. قالت: يسوءني أن أرفض، ولكني أخشى ألا أجد في اليمن مكانا كهذا. قال: لن يكون هذا المكان طيبا بعد شهر فسيدخل الشتاء، وسيكون هذا الجبل العالي أجمع لثلوج الشتاء من جبال لبنان، وما تطيقين فتح هذه النوافذ يومئذ، ويبقى الجبل قاعا باردا صفصفا. قالت: فلنبق إذن حتى نرى هذا، ويتنادى كل منا الرحيل. الرحيل. أما مكة فأقسم لن أسكنها. قالت لمياء: ولا أنا. إني لأوثر أن أتنقل في الجبال والوديان على أن نستقر حيث كنا. قال الحارث: نرحل إلى نجران. إنها كبعض هدى، لولا أن الثلوج لا تغشاها، ففيها شعاب وفيها وهاد، وفيها ظهور وفيها بطون، فلنسكن في الوادي. قالت: كذلك.

وكان ورقة قد عاد لسيده بكأس فيها نبيذ قليل. فقال الحارث: شكرا يا ورقة. إني وحقك أكره الخمر مهما بالغ السفهاء في امتداحها. أأنت تشربها يا ورقة. قال: والله ما ذقتها منذ رأيت سيدي ابن نوفل يحرمها على نفسه، ولكم سمعت مولاي محمد بن عبد الله يقول إنها «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»، ولكن هناك ما هو أشد منها في الرجس والأذى يأمر به الطب والدواء، فلا يكون إذ ذاك رجا بل دواء، على أن يكون ذلك طوعا لأمر طبيب كريم. قال الحارث ممازحا: وأنت اليوم طبيب كريم؟ قال: ما أعطيتك هذا الدواء فأكونه، وإنما أعطيتك ما وصفت أنت نفسك. ألم تعطها للوليد بن المغيرة في مثل حالتك؟ فضحك الحارث ازدهاء بكلام الفتى.

وفيما هو يشرب النبيذ كان زياد واقفا يتراءى في طرقة الغرفة، ولمحته هرميون من حيث كانت جالسة، فنادته، فدخل وفي يده شيء منبسط قد كسي بخرقة وربط بخيط. قالت: ما هذا؟ قال: رسالة من سيدي النضر. فتناولها، ثم استمر يقول: مررت بالدار قبل أن أعود لأراهم عسى أن تكون لهم حاجة عند مولاي، فاستمهلني مولاي النضر حتى يكتب هذه الرسالة.

فكت هرميون خيوطها وعرضتها، فإذا هي مكتوبة على رق من الجلد بالعربية، فقدمتها على الفور إلى الحارث حين قدم الكوب إلى لمياء؛ إذ كانت أقرب إليه من ورقة، ثم أخذ يقرؤها صامتا، ولاحت على وجهه سحابة لم يستطع أحد فهم سببها، ولكنه لم يتركهم في حيرتهم طويلا، فقد أعطى الرسالة إلى ورقة وهو يقول: الأمور متداركة يا هرميون، قالت: كيف ذلك؟ قال: إن الوليد بن المغيرة زار ولدي ليخبره بأن ولده خالدا ورفقته عائدون من ديار الشام قبل أن ينتصف الشهر، وأنه أرسل إليه ليرسل أهله إلى بيته هذا في هدى في انتظار مقدمه؛ لأنه سيقضي بقية الصيف في بيته.

قالت هرميون: لم يبق علينا إلا أن نستعد للرحيل. قالت لمياء: إلى أين نرحل؟ إني لا أعود إلى مكة، وخير لنا أن نرحل من الآن إلى نجران إن كنا فاعلين. قالت هرميون: مضى اليوم من الشهر ثلاثة أيام، ويجب أن نترك البيت لزوجة خالد قبل مقدمه بما يكفي لإعداده. قال الحارث: أمامنا إذن أربعة أيام أو مثل ذلك. إنا راحلون إلى اليمن يا ورقة فماذا ترى! لقد قررنا ذلك الآن قبل أن تأتينا رسالة النضر. قال: كل مكان أكون معكم فيه طيب، وإني لأشتهي أن أرى اليمن السعيدة فهي ديار الرخاء والعلم، ومرابع الأخيار. أليس أهل يثرب والحيرة والعراق والشام من اليمن؟ حمير وكندة وأزد والأوس والخزرج وغيرها؟ قال الحارث: إذن فاستعد لذلك. إني ذاهب في الغد إلى مكة؛ لتدبير أمر هذه السفرة فدبروا أنتم لها من هنا.

على هذا اتفقوا، ورأوا أني يتركوا الحارث؛ ليستريح، وينصرفوا هم للعشاء، وإعداد ما يليق أن يعطاه الحارث من الطعام لليلته.

الفصل الثامن عشر

من أجل عين

অজানা পৃষ্ঠা