14
هبطت الطائرة في بيروت وصعد فؤاد في السيارة إلى الجبل فنزل في فندق يشرف على واد أخضر من أودية لبنان الباسمة، ووقف في الأصيل على الشرفة يطل على الهوة التي تحته تنحدر إلى أعماقها جريئة جبارة في درجات عالية كأنها سلاليم بنتها المردة العماليق.
كانت أشجار الصنوبر توشي السفح قائمة بعمائمها الخضراء فوق جذوعها الباسقة، وفي أسفلها الكروم وأشجار الفاكهة تتكئ على جوانب الدرج طبقة تحت طبقة حتى تنتهي إلى قاع أسمر يتعرج فيه جدول دقيق من ماء ضحل يلمع في آخر أشعة الشمس المائلة، وكان البحر يلوح من وراء الوادي أزرق هادئا فسيحا يخدع البصر عن أعماقه فيخيل إلى الناظر إليه أنه بساط ناعم من مخمل، وكان الجو رفيقا والهواء هادئا لا تخفق فيه ورقة ولا يتحرك عليه طائر، فأين العصافير المزقزقة وأين البلابل الصادحة وهذه أعشاشها فوق غصونها خاوية؟ وانحدرت الشمس إلى الغرب وامتدت الظلال في السفوح فرأى السحب ترنق في السماء بيضاء حمراء ذهبية، تترامى من بينها أشعة الأصيل نحو البحر مثل فيض دافق، وخيل إلى فؤاد أن الكون معبد يتردد فيه ترتيل مقدس، هذا هو لبنان الذي طالما حلم به، فلما رآه كان حلما في حلم، وشاع من حوله صفاء بعث في نفسه شجنا لا مرارة فيه.
وذهب في تأمله إلى ما بعد وما قرب، وأحس للمرة الأولى منذ سنتين أنه نسي آلامه وعاد يستجيب إلى طرب الحياة، وصعد إلى غرفته يحس دافعا علويا يبعثه إلى الصلاة، فتوضأ وصلى ثم جلس حينا يقرأ من آيات القرآن.
ونزل بعد أن ساد الظلام إلى الشرفة فأجال بصره خلال حلقات المصطافين ولم يكونوا بعد قد تزاحموا، وتمنى لو اندس في إحداها وخاض معها في أحاديثها، فقد كان قلبه ينبض خفيفا متعطشا إلى الائتناس.
وكان البحر قد توارى في حجاب الليل وأخذ الوادي يتشح بعناقيد من أنوار الكهرباء تنبعث من القرى المنثورة في قيعان الوادي وعلى سفوحه، فكأن تلك الأنوار قلائد من الماس تتلألأ على صدر زنجية حسناء، ولله در شاعر الشام الأعمى كأنه أدرك ببصيرته ما يعجز عن وصفه المبصرون إذ قال:
ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان
ونزل فؤاد من الشرفة على سلم الفندق إلى الطريق المنحدر نحو الوادي، ثم سار يقلب بصره عن يمين وشمال في جذوع الصنوبر وأغصان الكروم الملتفة وما يتخللها من أعواد الأعشاب والشجيرات، وكان نور القمر الصغير ما يزال خافتا لا يكاد يهديه سبيله، فأحس شيئا يشبه خيبة الأمل، فإن الأودية البديعة التي تبتسم في ضوء النهار لم تخلق لسير الليل لمن أراد أن يسبح في السماء، فأين سحر وادي النيل السهل الحبيب الذي يسحر اللب في مثل هذه الليلة الساكنة؟ أين جانب النيل في القاهرة والجيزة حيث يسرح البصر في الحدائق الفيحاء يصعد حينا في شجر باسق ويصوب حينا في خمائل زهر باسم؟ وأين الألوان التي تبعثها أرض السحر القديم فيما ينبت على ثراها وما يسبح في سمائها؟ ووثب الخيال بفؤاد عائدا إلى الربوع التي أنس إليها وخطرت له خطرة من علية ذات الوجه النبيل الذي ما زال يطل عليه من ثنايا ذكرياته باسما قاسيا، ولم يسر طويلا على سفوح الوادي إذ كانت عيناه تصطدم في كل خطوة بظلمة من وراء ظلمة، وكانت صفحة السماء تبدو من وراء أضراس الجبال قاسية مكشرة جامدة، فعاد إلى الفندق المرح حيث كانت الأنوار تسطع فيضا غامرا، ودخل إلى البهو يتلفت بين الناس لعله يجد فيهم من يدعوه بنظرة، ولكن الحلقات الضاحكة كانت منصرفة إلى الموسيقى الصاخبة قانعة بأنفسها، فلم تتجه إليه بنظرة إلا أن يرتفع رأس نحوه يحسبه صديقا، ثم يرتد عنه مسرعا، وكان الراقصون يتواثبون في رشاقة مع الأنغام الصارخة الجشاء، ولا يلتفت أحد منهم عن زميله إلا بمقدار ما يزهى بنصيبه على من يليه، أما هو فقد كان وحيدا، وكانت الساعة قد بلغت العاشرة، فأحس شيئا من الاغتباط إذ فاته العشاء؛ لأنه كان أعد فاكهة في غرفته لتكون عشاءه، إنها فاكهة لبنان.
ووقعت عينه في آخر البهو على أسرة رآها عند أول مقدمه، تقيم في الجناح الذي ينزل فيه، فنظر رجلها إليه نظرة فيها تحية قصيرة فرد تحيته حانيا رأسه، ودعاه الرجل إلى الجلوس صائحا بلهجته اللبنانية: «شرف»، والتفتت زوجته نحو فؤاد وتبسمت وأحنت رأسها في ظرف، فذهب فؤاد إلى كرسي قريب وجلس عليه، ولم تمض إلا دقائق حتى كانوا يفيضون معا في شعاب الحديث.
অজানা পৃষ্ঠা