جولي لي وين راحت يا تعويضة
ووثب فؤاد داخلا إلى السرادق يخترق الصفوف المتزاحمة حتى بلغ صاحب الصوت، فماذا رأى؟ كان قوية أمامه يبدو كأنه شيخ نحيل فيه شبه من الفتى القديم، كان أغبر الشعر ضعيفا حائل اللون له لحية شعثاء، يرتدي «حراما» مهلهلا من الصوف ومن تحته ثوب مرقع مختلف الألوان، وقد وضع حول عنقه سبحة طويلة غليظة الحبات من خشب أسمر، وهو يهز رأسه يمينا ويسارا في غنائه، وكلما فرغ من سمط ختم قائلا:
وين راحت يا تعويضة!
أهذا قوية الذي أمامه؟ لم يصدق فؤاد عينيه لولا أنه يذكر تعويضة، وهاتان العينان الغائرتان وهذا القوام المنحني النحيل ما له قد تبدل مثل هذا التبدل في عامين أو ثلاثة؟ لكأنه قد غاب عنه ثلاثين عاما.
وامتلأ قلبه حزنا واقترب من الرجل مندفعا، حتى إذا وقف حياله رآه يتجه إليه بنظرة خاوية، ثم رآه يبتسم بسمة حزينة ويمضي في غنائه الباكي، فأخذه فؤاد من ذراعه يريد أن يبعد به عن السرادق لعله يحدثه ويسأله عن حاله وعن حال امرأته المسكينة، ولكنه نزع ذراعه عنه في رفق ولم يتوقف عن الغناء.
فناداه: ألا تذكرني يا قوية؟
فالتفت الرجل إليه باسما ومال عليه هامسا: ماتت، ماتت تعويضة!
ثم هز رأسه واغرورقت عيناه وعاد إلى الإنشاد، فارتبك فؤاد وهو يرى الأنظار تتجه نحوه في ريبة ، وحاول مرة أخرى أن يتجاهل من حوله وينزعه خارجا به من السرادق، ولكن قوية انفلت منه فجأة فخرج مسرعا كأنه يفر فرارا، وهم فؤاد أن ينطلق في أثره غير عابئ بمن يتهامسون ومن وراءه، ولكنه لم يستطع أن يلحق به فقد كان يحس قدميه ثقيلتين وهو يسير خلفه.
ووقف عند مدخل السرادق ينظر في أعقاب قوية المسكين حتى غاب بين الجموع الزاخرة، وصعدت إلى ذهنه صورة العود الضئيل الذي تتقاذفه الأمواج فوق اللجة المضطربة، تقذف به يمنة ويسرة حتى تبتلعه الدوامة في أعماقها.
وسار يجرر قدميه بقلب مفعم ألما، يسأل نفسه متى عاد ذلك المسكين من منفاه؟ وهل ماتت تعويضة حقا؟ وكيف عرف المسكين مصيرها مع أنها اختفت منذ نفي فلم يعثر أحد عليها؟ ألا يكون هو الخيال المضطرب الذي يصور له أنها قد ماتت لأنه عاد من منفاه فصدمته غيبتها؟ وأطرق يسير حزينا بين الناس لعله يعثر عليه في سرادق آخر أو في حلقة من حلقات الأذكار أو في مسجد السيد البدوي، ثم سمع من خلفه اسم إبراهيم ميسور، فلما التفت رأى جماعة من أهل الريف يخرجون من السرادق وهم يتحدثون، فتريث حتى حاذوه، ونظر إليهم فسكتوا ونظر بعضهم إلى بعض نظرة ارتياب.
অজানা পৃষ্ঠা