وكان يقول في نفسه: «بل أنا واثق أنه سيأتي».
وقضيا سائر اليوم في جولتهما بالمدينة، وعرج فؤاد على مكتب البرق، فبعث إلى صدقي يدعوه باسمه أن يحضر سريعا.
ولما عادا إلى الفندق في ذلك المساء كانت علية مرحة نشيطة وقضت مع الأسرة صدر الليل في مجلس الشرفة، حتى إذا انصرف الجميع إلى مخادعهم بقيت مع فؤاد يتحدثان أحاديث لا ينضب معينها، وكانت ليلة قمراء هادئة الهواء دافئة، وجموع المصطافين في داخل البهو يستمتعون بعيدا عنهما بضجيج موسيقى الجاز إلى ما بعد منتصف الليل.
ولما أوى فؤاد إلى مخدعه في تلك الليلة أحس بالسلام يغمر قلبه، ولم يمض إلا يومان بعد ذلك حتى جاء صدقي على طائرة، فبلغ الفندق في نفس اليوم الذي جاء فيه زوج ثريا أخت علية.
وكانت الأسابيع الأخيرة التي قضاها فؤاد في لبنان من أسعد ما مر عليه في الحياة، كان يتنقل مع علية وأسرتها في أكناف الجبل، فيقيمون حيث يحلو لهم أن يقيموا، حتى إذا ما بدأت السآمة تدب إليهم بادروا إلى الانتقال إلى موضع آخر يختلف عما كانوا فيه، فكانوا أحيانا يصعدون إلى آلاف الأمتار فوق البحر فيذوقون به برد الشتاء في قلب فصل الصيف، ويقتربون من مواطن شجر الأرز الذي شهد في حياته طوال القرون، ثم يصوبون إلى أغوار الأودية في جوار العيون الصافية وظلال الكروم الدافئة، فكانت الأيام كلها ملأى يجعلون لليوم خطته قبل أن يطلع عليهم، حتى إذا ما استمتعوا به رسموا خطة أخرى ليوم جديد، وعادت علية إلى هوايتها، فكانت تختار من المناظر أبدعها فترسم خطوطها العامة في محاور أولى، وتؤجل إتمامها حتى تعود إلى القاهرة عندما يكون سعيد إلى جانبها ... ومن العجيب أن صدقي تغير في تلك الأسابيع تغيرا لم يكن منتظرا، فكان يسبق إلى الاستجابة إلى كل رحلة ويمد يده إلى كل خدمة، ويشارك في إشاعة المسرة في كل منزل تنزله الأسرة، وكان كلما رأى علية تصور منظرا جمع الأسرة فأخذ لها صورة فوتوغرافية يسجل فيها ما كان يسميه «اللحظات السعيدة»، وكان فؤاد أشد الجميع عجبا من تغيره؛ إذ وجد منه مودة صريحة لم يكن يتوقعها، كأنه قد حفظ له حسن صنيعه في إصلاح ما بينه وبين علية، ولم يكن عجب فؤاد من صدقي بأقل من عجبه من نفسه كلما خلا إليها وتأمل أعماقها، كان عندما عرض على علية أن يبعث في طلب صدقي يطيع عقله ويندفع مع حماسة طارئة بعثها فيه حديثه مع علية عندما حركه حزنها ودفعته ثقتها إلى أن يسمو فوق حبه وأنانيته وحنقه، ولما سألها سؤاله: «أتحرصين على صدقي ؟» وسمع قولها: «من أجل ولدي!» جرفه فكره فأنساه كل شيء سوى أنه أمام أم تثق فيه مثل أخ لها، فلا ينبغي له إلا أن يكون عند ثقتها.
فلما مضى ذلك اليوم واضمحلت تلك السورة عادت إليه الشكوك وكاد يلوم نفسه على أنه فرط في حق نفسه وفي حقها مرة ثانية، فساعد على إعادتها إلى ذلك الزوج الذي لا يستحقها.
ولكنه منذ عاد صدقي ورأى كيف عاد البشر إلى علية وكيف تغير ذلك الزوج كأنه يكفر عن زلاته الماضية، بدأ يحس نوعا جديدا من السعادة أفسح مما كان يخيل إليه، أحس أن المودة الصافية التي جمعت بينه وبين علية تمتعه من السعادة بأضعاف ما كان يستطيع أن يجده في أية صلة أخرى، حتى لقد سأل نفسه: أليس هذا هو الحب الأوفى؟ أليس ذلك هو الحب الذي يتحدث عنه رسل الإنسانية في غير تحرج؟
وأراد فؤاد أن يعود إلى مصر بعد أن انقضت إجازته فودع الأسرة في ليلة بديعة، احتفلوا به فيها في فندق شتورة الذي كانوا يقيمون به، واتخذوا مجلسهم بعد العشاء إلى جانب العين الصافية، وجرى الحديث بينهم دافقا كماء النبع، وكانت علية وصدقي يتعاوران معابثته وهو منصرف إلى صديقه الصغير توتو بن علية، كان الصغير متعلقا به لا يرضى أن ينزعه منه أحد، كأنه أراد أن يشارك بنصيبه من وداعه.
فقالت علية: أتأخذه معك يا فؤاد؟
فقال فؤاد: يكون نعم الرفيق يا علية.
অজানা পৃষ্ঠা