وكان يقول لأصدقائه: ألا ترون أنه لم يكد يذكر أن صاحبته كانت هيفاء إذا أقبلت حتى استدرك أمره وقوم رأيه فذكر أنها عجزاء إذا أدبرت! ثم يمضي بعد ذلك في ألوان شنيعة من التفصيل، ثم يقص الفكاهات وينثر النوادر، ويرسل الضحك ثم يمسكه، وقد ملك على هؤلاء الشباب أمرهم بما يلقي إليهم من حديث، وأي شيء أبلغ أثرا في نفوس الشباب المحرومين هذه اللذات بريئها وآثمها من هذا الحديث!
وكان الصبي يسمع ذلك وهو في ركنه منحن مطرق كأنه ليس مع القوم، وما يفوته من حديث القوم لفظ، وما تشذ عنه من أصوات القوم نبرة. وكان يقول في نفسه: لو عرف هؤلاء الرجال مقدار ما أسمع لهم وما آخذ عنهم لاجتنبوا أن يديروا مثل هذه الأحاديث بمحضر من الصبية الناشئين.
وقد أنفق الرجل منذ عرفه الصبي أعواما في الربع اختلفت عليه فيها شئون كانت كلها تضحك في ظاهر الأمر، ولكنها تحزن وتثير الأسى عند الرؤية والتفكير.
كان فلاحا بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الحب للأرض، والحرص على المال، والجزع كل الجزع أن يغلب في بيع أو تأجير أو شراء. وكان المال، والمال وحده، يسيطر على أمره كله إذا ذهب إلى قريته أو فكر فيها أو لقي أحدا من أهلها. وكان صاحب لذة بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الاستجابة للحس والطلب لهذه المتع القريبة التي لا تحتاج إلى رقة نفس ولا إلى دقة عاطفة ولا إلى صفاء ذوق. وكان طلبه للعلم وانتظاره للدرجة وسيلة من وسائله - أو قل غاية من غاياته - يستريح إليها إذا جد في تحصيل المال حتى أعياه الجد، وإذا تهالك على الاستمتاع باللذة حتى أضناه الاستمتاع. هنالك يعود إلى ربعه ويستقر في غرفته، ويفكر في زملائه وشيوخه ودرجته، ويتحدث إلى أصدقائه هؤلاء، ويشاركهم في بعض الطعام ويشاركهم في بعض الشاي. ولكنه كان على هذا كله مؤمنا شديد الإيمان، له نزعات صوفية غريبة تخرجه بين حين وحين عن أطواره هذه كلها، وترده زاهدا متقشفا يأخذ نفسه بالشدة والعنف، ويفرض عليها عذاب الحرمان والجوع.
وقد اختلف مع حميه ذات يوم في بعض الأمور، وزهد في زوجه الفلاحة، وطمح إلى أن يتخذ لنفسه زوجا من أهل القاهرة، ويصهر إلى أسرة متحضرة متأنقة، فطلق امرأته. وكان يتحدث بآماله هذه إلى أصدقائه مفصلا لهم في أصرح الألفاظ وأبشعها ما يكون من الفروق بين نساء المدينة ونساء الريف. ولكنه أصبح ذات يوم وقد صرف عن المال وصرف عن نساء المدينة ونساء الريف، وصرف عن لذة الطعام والشاي؛ لأنه أحس أن الحظ سيواتيه إن تقدم للامتحان، فلا بد إذن من أن يتقدم، ولا بد إذن من أن يتهيأ لهذا الصراع بينه وبين الشيوخ، وأمامه أشهر يستطيع أن يستعد فيها، فليعبئ أصدقاءه وزملاءه القدماء والمحدثين، وليفرغ للأصول والفقه وللبلاغة والنحو والتوحيد، ولهذه المواد التي كان يتألف منها «التعيين». وقد فعل، وتقدم للامتحان وكان يوم امتحانه يوما مشهودا.
أقبل على اللجنة مع الصباح وانصرف عنها عند المساء، فأتعبها وأتعبته، وكان قد دبر لنفسه حيلة ظريفة طريفة يستريح بها من اللجنة إن اشتطت عليه، فاشترى بطيخة أو جماعة من البطيخ وتركها قريبا من غرفة الامتحان، وزعم للجنة حين أدخل عليها أنه مريض بسلس البول، واستأذنها في أن ينصرف كلما اضطرته علته إلى الانصراف، وقد رحمته اللجنة وأذنت له أن ينصرف كلما دعته علته إلى ذلك. فكان يأخذ في تقرير الدرس ويأخذ في محاورة الممتحنين إن ألقى عليه أحدهم هذا السؤال أو ذاك، ثم يقطع تقريره أو حواره فجأة ويستأذن في الخروج، فإذا خرج لم يذهب إلى حيث يرضي حاجة أو يشفي علة، وإنما ذهب إلى حيث يصيب مقدارا من البطيخ يبرد به قلبه ويشحذ به ذهنه ويسترد به خاطره كما كان يقول، ثم عاد إلى اللجنة فاستأنف التقرير أو الحوار من حيث قطع التقرير أو الحوار. وما زال باللجنة وما زالت اللجنة به حتى انقضى أكثر النهار، وعاد إلى غرفته سعيدا موفورا؛ فقد أتيح له النجاح وظفر بالدرجة الثالثة وأصبح من العلماء.
وتفرق عنه أصدقاؤه مع الصيف، فلما لقوه من الخريف كان قد فارق غرفته في الربع وحقق آماله تلك، فأصهر إلى أسرة من المدينة، وأقام معها غير بعيد من مسكنه القديم.
وقد أخذته نزعته الصوفية ذات يوم، فاعتزم أن يعتكف في المسجد أياما يروض نفسه فيها على الصلاة والصوم وذكر الله. وقد فعل، فلزم الخلوة أياما لا أدري كم عددها ولكنها لم تكن قليلة؛ فقد خرج من الخلوة نحيلا منهوكا. فلما عاد إلى أهله أنكروه، ولعلهم سخروا من رجولته، فعادت إليه نفسه الفلاحة المتهالكة على اللذات، وأدركته حميته الريفية، فخرج مع الصباح حتى أتى مطعما أو قهوة فأسرف على نفسه أشد الإسراف فيما التهم من فول وزيت وخبز وبصل، ثم أسرف على نفسه أشد الإسراف فيما أطفأ به نار هذا الإفطار من شاي، ثم أضاف إلى كل ما ألقى في جوفه من سائل وجامد شيئا من هذه الأشياء التي كان أمثاله يشيرون إليها ولا يسمونها؛ فلما استقر هذا كله - أو اضطرب - في جوفه عاد إلى أهله فائرا ثائرا، فأنكروا قوته واتقوه، وانتهى أمره إلى أن هم بأن يثب من النافذة لولا أن أدركه بعض أعضاء الأسرة فردوه عن ذلك بعد جهد وأوثقوه، وإذا هو مجنون قد ذهب عقله.
وما ينسى الصبي ذلك الصوت الذي كان يصل إليه ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، والذي وقف له أولئك الشباب من الطلاب واجمين محزونين تريد دموعهم أن تنهل فلا يمسكها إلا الحياء. وكان ذلك الصوت صوت ذلك الرجل الذي أخذه الجنون وأطلق لسانه فهو يتغنى بأبشع الهذيان، فلما أصبح ذهب به أصهاره إلى المستشفى هناك حيث يداوى أمثاله. وقد أقام في هذا المستشفى أسابيع، ثم خرج منه وقد تغيرت حاله كل التغيير؛ فانخفض صوته أكثر مما كان منخفضا، وهدأت حركاته وانقطع ضحكه، وأصبح يبعث في نفس من يلقاه شيئا غريبا من الخوف منه والإشفاق عليه.
وقد مضت الأيام بما تمضي به من الأحداث، وتفرق عن هذا الرجل أصدقاؤه الشباب، وذهب كل منهم لوجه من وجوه الحياة، وقل لقاؤهم لهذا الرجل ثم انقطع، وجعلت أخباره تصل إليهم متقطعة، ثم انقطعت هي أيضا، وأنبأ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات.
অজানা পৃষ্ঠা