بطعام أو شراب، وكانوا يزعمون للناس أن ابتلاع هذه القطع من الورق يصرف عنهم ما تأتي به «الخماسين» من المكروه، ويصرف عنهم الرمد بنوع خاص. وكان الناس يصدقونهم ويبتلعون هذا الورق ويؤدون إلى الفقهاء ثمنه بيضا أحمر وأصفر. وليس يدري الصبي ماذا كان يصنع سيدنا بما كان يجتمع له من البيض في يوم سبت النور؛ فقد كان كثيرا يتجاوز المئات، على أن استعداد الفقهاء لهذا اليوم لم يكن يقف عند إعداد هذه القطع من الورق، وإنما كان يتجاوز ذلك إلى شيء آخر: كانوا يشترون الورق الأبيض الصقيل، ويقطعونه قطعا طويلة عريضة بعض العرض، ويكتبون عليها مخلفات النبي:
مخلف طه سبحتان ومصحف
ومكحلة سجادتان رحى عصا
حتى إذا فرغوا من هذه المخلفات أضافوا إليها دعاء آخر يبتدئ بهذه الكلمات التي كان الفقهاء يقولون إنها سريانية: «دبى دبندي، كرى كرندي، سرى سرندي، سبر سبربتونا، واحسبوا البعيد عنا لا يأتينا، والقريب منا لا يؤذينا ... إلخ.» ثم يطوون هذه الأوراق على أنها حجب وتمائم، يفرقونها في البيوت على النساء والصبيان، ويتقاضون أثمانها دراهم وخبزا وفطيرا وضروبا من الحلوى، ويزعمون للناس أن اتخاذ هذه التمائم والحجب يدفع عنهم أذي هذه الشياطين التي تحملها رياح الخماسين. وكان النساء يتلقين هذه الحجب مطمئنات إليها، ولكن ذلك لم يكن يمنعهن من اتقاء العفاريت يوم شم النسيم بشق البصل وتعليقه على أبواب الدور، وأكل الفول النابت دون غيره من ألوان الطعام في هذا اليوم.
الفصل السابع عشر
وأراد الله أن يشقي «سيدنا» بتلميذه شقاء غير قليل؛ فلم تكفه تلك الحوادث التي كانت تحدث من حين إلى حين عندما كان الشيخ يمتحن الصبي، ولم تكفه هذه النكبات المتصلة التي نشأت عن عناية الصبي بحفظ الألفية وغيرها من المتون، وجعلت الصبي ثقيلا سمجا يتعالى على أترابه وعلى سيده، ويرى لنفسه مكانة العلماء، ويعصي أوامر العريف، لم يكفه هذا كله، بل كانت نكبة أخرى لم يكن الرجل ينتظرها حقا، وكانت أشد عليه من كل النكبات الأخرى؛ لأنها مسته في صناعته، ذلك أن رجلا من أهل القاهرة هبط إلى المدينة في يوم من الأيام على أنه مفتش للطريق الزراعية، وكان هذا الرجل في متوسط عمره، وكان «مطربشا» يتكلم الفرنسية، وكان يقول إنه تخرج في مدرسة الفنون والصنائع، وكان خفيف الظل جذابا، فما لبث أن أحبه الناس ودعوه إلى دورهم ومجالسهم، وما لبث أن اتصلت المودة بينه وبين أبي الصبي.
وكان قد رتب سيدنا في بيته يقرأ له سورة من القرآن في كل يوم، وجعل له عشرة قروش في كل شهر، وهو الأجر المرتفع الذي كان يدفعه وجوه الناس، فكان سيدنا محبا لهذا الرجل مثنيا عليه. ولكن رمضان أقبل، وكان الناس يجتمعون في ليالي رمضان عند رجل من أهل المدينة وجيه يعمل في التجارة، وكان سيدنا يقرأ القرآن عند هذا الرجل طوال الشهر، وكان الصبي يرافق سيدنا ويريحه من حين إلى حين بقراءة سورة أو جزء مكانه، فقرأ ذات ليلة وسمعه هذا المفتش، فقال لأبيه: إن ابنك لشديد الحاجة إلى تجويد القرآن. قال الشيخ: سيجوده متى ذهب إلى القاهرة على شيخ من شيوخ الأزهر. قال المفتش: فأنا أستطيع أن أجود له القرآن على قراءة حفص، حتى إذا ذهب إلى الأزهر كان قد ألم بأصول التجويد،
1
وسهل عليه أن يفرغ للقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة. قال الشيخ: وهل أنت من حملة القرآن؟ قال المفتش: ومن المجودين، ولولا أني مشغول لاستطعت أن أقرئ ابنك القرآن على الروايات جميعا، ولكني أحب أن أخصص له ساعة في كل يوم فأقرئه رواية حفص، وأدرس له أصول الفن، وأعده بذلك للأزهر إعدادا صحيحا. قال القوم: وكيف لمطربش يتكلم الفرنسية بحفظ القرآن ورواية القراءات؟ قال المفتش: أنا أزهري تقدمت في دراسة العلوم الدينية إلى مدى بعيد، ثم انصرفت عنها إلى المدارس، فتخرجت في مدرسة الفنون والصنائع. قالوا: فاقرأ لنا شيئا! فنزع الرجل نعليه وتربع ورتل لهم سورة هود ترتيلا ما سمعوا مثله، فلا تسل عن إعجابهم به وإكبارهم إياه، ولا تسل عما أصاب سيدنا من الحزن والغيظ؛ فقد قضى الرجل ليلته كأنه مصعوق.
2
অজানা পৃষ্ঠা