وهذا إخطار لحضرتكم بذلك، واقبلوا وافر تحياتي.
رئيس الجامعة المصرية
وكذلك تحقق هذا الحلم السعيد الذي داعب نفس الفتى وداعبته نفسه أعواما، وأصبح صاحبنا عضوا في بعثة الجامعة. وتقرر أن يعبر البحر على الباخرة لوكس في الثامن من شهر أغسطس، وسافر الفتى إلى أقصى الصعيد حيث كانت تقيم أسرته ليودع أبويه، فأقام في أسرته أسابيع كانت تثير في نفسه كثيرا من الشجون، فقد كان يرى أباه مبتهجا أشد الابتهاج بسفر ابنه إلى أوروبا بعد أن ابتهج أشد الابتهاج كذلك بفوز ابنه بدرجته الجامعية.
كان يتحدث بذلك إلى أهله، وكان يتحدث به إلى الناس، وكان كثيرا ما يقول لأولئك وهؤلاء: لله في خلقه شئون! هذا أضعف بني وأخفهم علي حملا وأقلهم نفقة، قد أتيح له ما لم يتح لإخوته الأقوياء المبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أطيق وما لا أطيق، لم تتحدث الصحف عن واحد منهم، ولم يقابل الخديو واحدا منهم، ولم يخطر لي ولا لواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوروبا كما سافر إليها أبناء الأغنياء. وكان قصارى ما تمنيت لابني هذا أن يجلس إلى عمود في الأزهر ليلقي الدروس على بعض طلابه، فإذا هو مسافر إلى باريس تلك التي نسمع من أحاديثها الأعاجيب!
وكانت أم الفتى راضية عما أتيح لابنها من النجاح، ولكن رضاها كان مرا ثقيلا. كانت تفكر في حال ابنها وفيما سيعرض له من الخطوب في بلاد الغربة، وفيما سيتكلف من الجهد ويحتمل من المشقة، وكانت كلما رأت ابتهاجه وابتهاج أبيه ثقل عليها هذا التفكير، وربما استخفت بدموعها حتى لا تنغص على الأسرة هذا الابتهاج.
وأقبل الفتى ذات يوم إلى القاهرة يتهيأ للسفر البعيد، ولكنه لا يكاد يأخذ في ذلك حتى ينقلب فرحه حزنا وسروره ألما ولوعة؛ فقد أعلنت الحرب، واستردت الجامعة طلابها من أوروبا، ووقفت إرسال البعثة الجديدة واضطر الفتى إلى أن ينتظر ... ماذا ينتظر؟ وإلى متى يكون هذا الانتظار: أيقصر أم يطول؟
الفصل العاشر
أستاذ جامعي بخمسة جنيهات!
وكانت تلك الأيام الطوال الثقال التي قضاها صاحبنا في القاهرة مروعا ملتاعا بعد أن حالت خطوب الحرب بينه وبين ما كان يريد؛ فقد أسلمته هذه الصدمة القاسية إلى هم متصل ذاد عنه النوم، فلم يكن يذوقه إلا حين يسفر الصبح ويستيقظ الطير، وقد بلغ منه الجهد غايته، وانتهى به العناء إلى أقصاه، بعد ليل مسهد وفكر مشرد ونفس قلقة عرفت كيف تنسل من ماضيها الثقيل، ووقفت أمام المستقبل المظلم حائرة لا تعرف كيف تنفذ منه إلى ما كتب لها فيه من سعادة أو شقاء.
في تلك الأيام كان الفتى فارغ النفس والقلب، ليست أمامه غاية يسعى إليها، ولا أرب يطمع فيه. يصبح فلا يجد أمامه عملا ينفق فيه بياض النهار، ويمسي وقد ثقلت عليه الراحة، فلا يحس من التعب والجهد ما يغريه بالنوم أو يغري به النوم. يرى نفسه بعد أن جاوز العشرين لا يزال عيالا على أبيه الذي أثقلته نفقة البنين، وعلى أخيه الذي جعل يعمل في الجمعية الخيرية الإسلامية منتظرا ذلك المنصب الذي جد وكد في سبيله، وهو منصب القضاء الشرعي. في تلك الأيام أبغض صاحبنا نفسه، ومل حياته، وزاده درسه لأبي العلاء بغضا لنفسه، وتبرما بحياته، وإغراقا في التشاؤم المظلم الذي لا قرار له. ورأى نفسه ذات يوم وقد انتهى به التشاؤم والضيق إلى حيث ندم على ما فرط في جنب الأزهر وشيوخه حتى حيل بينه وبين درجة العالمية تلك التي كان يسخر منها أشد السخر، ويزهد فيها أعظم الزهد، بعد أن صرفت عنه فلم يحاول أن يستأنف السعي إليها.
অজানা পৃষ্ঠা