وهو على كل حال قد أعان الفتى على الخروج من بيئته تلك المغلقة إلى الحياة العامة، وعلى أن يكون له اسم معروف. ومثل ذلك فعل الأستاذ أحمد لطفى السيد؛ فعرف الفتى إلى كثيرين من الذين كانوا يلمون بمكتبه في الجريدة من الشيوخ والشباب. وفي مكتبه اتصل برفاق له أحباء عمل معهم فيما بعد، ولقي معهم خطوبا أي خطوب، عرف عنده هيكل ومحمود عزمي والسيد كامل، وكامل البنداري وأترابا لهم كثيرين. وعرف بفضله لونا من المعرفة لم يكن يقدر أنه سيتاح له في يوم من الأيام؛ فقد لقي عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة، ولا لأنها كانت جذابة خلابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملحة في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها، وهي نبوية موسى.
وكان الفتى قد لقي السيدات في بيئته تلك الريفية، ولكنه لم يلق منهم القارئة الكاتبة البرزة التي تظهر في مجالس الرجال وتحاورهم، فتلج في المحاورة وتخاصمهم فتعنف في الخصام، قبل أن يلقى تلك الفتاة.
واحتفل ذات مساء في حجرة من حجرات الجامعة القديمة بتكريم خليل مطران رحمه الله، وكان الخديو قد أهدى إليه وساما. وكان شقيق الخديو الأمير محمد على رئيسا لهذا الاحتفال، وكان الشعراء سينشدون فيه الشعر، وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب، فاعتذر الفتى إلى أستاذه في الجامعة من حضور الدرس، ولم يكن يكره شيئا كما كان يكره التخلف عن الدروس، وآثر شهود ذلك الحفل. وفيه سمع كثيرا من الشعر وكثيرا من الخطب، فلم يحفل بشيء مما سمع، لم يعجبه شعر حافظ في ذلك المقام، مع أنه كان كثير الإعجاب بشعر حافظ، ولم تعجبه قصيدة مطران؛ لأنه لم يفهم منها شيئا، ولم يذق منها شيئا، وربما أحس فيها إسرافا من الشاعر في التضاؤل أمام الأمير الذي أهدى إليه ذلك الوسام؛ فقد شبه نفسه بالنبتة الضئيلة، وشبه الأمير بالشمس التي تمنحها الحياة والقوة والنماء. لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا وأرق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلا ضئيلا، وكان عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئا، ولم يحاول أن يفهم من حديثه شيئا، شغله الصوت عما كان يحمل من الحديث، وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى. ولم يستطع الفتى حين أصبح من ليلته تلك أن يمتنع عن السعي إلى مدير الجريدة، وقد جلس إليه فقال له وسمع منه. ثم ما زال يدور بحديثه حتى انتهى إلى حفل مطران، وحتى انتهى من حفل مطران إلى ذكر تلك الفتاة التي تحدثت فيه، والتي لم يسمع الفتى عنها قبل يومه ذاك. وقد سأله مدير الجريدة عما قالت الفتاة فلم يحسن ردا، وإنما لجلج في القول. وأثنى الأستاذ على مي، وأنبأ الفتى بأنه سيقدمه إليها في يوم قريب، وابتهج الفتى بهذا الوعد وإن لم يعرب عن ابتهاجه، وظل يرقب البر به. ولكن الأستاذ نسيه، واستحيا الفتى أن يذكره فحمل نفسه على المكروه، وما أكثر ما كان يحملها على المكروه! وأعرض عن ذكر مي، واجتنب حديثها إلى الأستاذ، ومضت أيام وأشهر وظفر الفتى من الجامعة بدرجة الدكتوراه، وأعطى مدير الجريدة رسالته عن أبي العلاء، فقرأها ورضي عنها، ولكنه لم يردها إلى الفتى، وإنما قال له: إنما سترد إليك رسالتك بعد أيام؛ لأن الآنسة مي قد طلبت أن تقرأها، وسمع صاحبنا ذكر مي، فبدا عليه فيما يظهر شيء من وجوم، وكأن الأستاذ لاحظ ذلك فذكر وعده القديم وقال للفتى في رفق: ألم أعدك بتقديمك إليها؟
قال الفتى: أكاد أذكر ذلك.
قال الأستاذ: فالقني مساء الثلاثاء فسنزورها معا.
وفي مساء الثلاثاء رأى الفتى نفسه لأول مرة في حياته في صالون فتاة تستقبل الزائرين من الرجال، حفية بهم، معاتبة لهم في رشاقة أي رشاقة، وفي ظرف أي ظرف، وفي حديث عذب يخلب القلوب ويستأثر بالألباب.
وطال المجلس وكثر الزائرون، ودارت أكواب الشاي والفتى في مكانه لا يكاد يحس من ذلك شيئا، قد ملك الوهم والوجل عليه أمره كله، فهو لم يشهد مثل هذا المجلس قط، وليس له عهد بمثل ما يجري في مثل هذه المجالس من المراسم ولا بما يتبع فيها من التقاليد والعادات، فهو منكر نفسه، منكر من حوله وما حوله، إلا شخصين اثنين، هما: الأستاذ لطفي السيد والآنسة مي.
وقد أخذ الزائرون في الانصراف، ورغب الفتى فيه ليخلص من حرجه، وأشفق منه حرصا على صوت مي وحديثها، ولم يحاول أن ينصرف، فما كان له أن يحاول ذلك قبل أن يؤذنه به الأستاذ.
وقد انصرف الزائرون جميعا وخلا للأستاذ وتلميذه وجه مي، فخاضت مع الأستاذ في بعض الحديث، وأثنت للفتى على رسالته في أبي العلاء، فأغرقت في الثناء، واستحيا الفتى شيئا، ولم يحسن أن يشكر لها ثناءها. ولكن الأستاذ يطلب إلى الفتاة أن تقرأ عليه مقالها ذاك، فتتردد الفتاة شيئا، ثم تقدم بعد أن تعلن إلى الفتى أنها تقرأ على الأستاذ هذا المقال؛ لأنه هو الذي يعلمها العربية ويعلمها الكتابة.
قال الفتى في صوت مختنق ولفظ مجمجم: كما يعلمني أنا.
অজানা পৃষ্ঠা