وعاش الفتى وصاحباه أعواما غرباء عن الأزهر قريبين منه، يلمون به بين حين وحين، إن أتيح لهم ذلك، فيجلسون في مجلسهم ذاك بين الإدارة والرواق العباسي، ويتندرون كما أحبوا أن يفعلوا دائما بالمقبلين على الأزهر والخارجين منه، وبالشيوخ والطلاب. وربما قرأ عليهم أحدهم الزيات في هذا الكتاب أو ذاك من كتب الأدب القديمة أو الجديدة، وربما قرأ هذه الصحيفة أو تلك من صحف المساء، فأخذوا في حديث السياسة وخطوبها، أو في ذكر كتاب تلك الأيام وشعرائها، يلمون بهذا كله ولا يمعنون فيه، فقد كانوا في تلك الساعات لا يكرهون شيئا كما كانوا يكرهون أخذ الأمور مأخذ الجد.
كانوا يقصدون إلى الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا، فقد استقر في نفوسهم أن للمجد مكانا غير الأزهر، هو الجامعة إذا كان المساء، وهو دار الكتب أثناء النهار. وربما شاقهم طعام الأزهر، فذهب ثالثهم الزناتي فاشترى لهم من هذا الطعام، وأقبلوا عليه كلفين به ساخرين منه، ومن الذين يعيشون عليه، ومن أنفسهم حين كانوا يعيشون عليه. فقد تغيرت أحوالهم شيئا؛ عمل أحدهم مدرسا في كلية الفرير، وعمل الآخر مصححا في المطبعة الأميرية، وأصبح لكل منهما مرتب في آخر الشهر يتيح له شيئا من سعة، وينأى به عن حياة الأزهر تلك القاسية الجافية، وعن طعام الأزهر ذلك الخشن الغليظ. ولم يكن صاحبنا الفتى معلما ولا مصححا، ولم يكن له مرتب في آخر الشهر أو أوله، ولكن حياته مع ذلك لانت بعض اللين. فقد ظل الشيخ يرسل إليه وإلى أخيه وابن خالته ما تعود أن يرسل من الزاد والنفقة على اتساع فيهما قليل. وأضيف إلى ذلك ما كان أخو الفتى يأخذه من مدرسة القضاء في كل شهر، وما كان ابن خالته يأخذه من دار العلوم في كل شهر أيضا. وكان كلاهما يصيب غداءه في المدرسة التي يختلف إليها. وكان صاحبنا قد خلي بينه وبين ما يتاح له من طعام أثناء النهار، ليس لينا ولا رقيقا، ولكنه خير من طعام الأزهر على كل حال. وأتيح للفتى أن يصيب من الطعام المطبوخ مرتين في الأسبوع، فكان طعام الأزهر بالقياس إليه خشنا غليظا، وكان ربما استطرفه بين حين وحين.
وقد جعل هؤلاء الفتية الثلاثة يحيون حياة الأدباء في تلك الأيام. وكانت حياة الأدباء في تلك الأيام مزاجا غريبا من متعة تختلس بين حين وحين، ومن بؤس نفسي يفرضونه على أنفسهم، وإن لم تفرضه عليهم الحياة؛ فالأديب عندهم وعند غيرهم في تلك الأيام بائس بطبعه، طامح بطبعه إلى النعيم، يتخذ البؤس لنفسه عشيرا، ويجعل النعيم لنفسه حلما، ويختلس المتعة القصيرة بين حين وحين إن أتيح أن يخرج من حياته المألوفة إلى رياضة في الضواحي، أو تنزه في الحدائق، أو جلسة في قهوة من القهوات.
وكانت حياة الأديب فيما وراء ذلك ألوانا من الرضا والسخط تأتيه من قراءاته الكثيرة المختلفة، قوامها أن يفكر كما كان يفكر القدماء الذين يقرأ آثارهم ويشعر كما يشعرون، ويسير في الناس كما كانوا يسيرون. وقد ألح أولئك الفتية في قراءة الشعر الجاهلي والإسلامي والعباسي وحفظه، كما ألحوا في قراءة أخبار الشعراء والكتاب وعلماء اللغة، فعاشوا عيشة أولئك الناس في دخائل نفوسهم، وإن لم يستطيعوا أن يعيشوها في حياتهم الواقعة؛ لأن الظروف كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون من ذلك، وهم قرءوا شعر أبي نواس وأصحابه، وقرءوا شعر الغزلين العذريين، فاستحبوا من الغزل ما استحب أولئك الشعراء، وذهبوا فيه مذاهبهم المختلفة، حافظ منهم من حافظ فآثر شعر العذريين وغزلهم، وجدد منهم من جدد فآثر شعر العباسيين وغزلهم، وخلقوا لأنفسهم مثلا للجمال يتغزلون فيها ويشببون بها، ولم يكن للمحافظين منهم بد من أن يخترعوا مثلهم العليا اختراعا، فقد كانت الحياة تحول بينهم وبين لقاء الغواني. ولكن المجددين كانوا خيرا منهم حظا، فلم يكن من الممتنع أن يلقوا في الأزهر أو خارج الأزهر بعض الوجوه الصباح، وأن يتخذوا لغزلهم موضوعات لا يخترعها لهم الخيال، وإنما تعرضها عليهم الحياة.
وكذلك وجد بين هؤلاء الفتية من كان يذهب مذهب جميل وكثير، وكان الحرمان المطلق محتوما عليه؛ كما كان منهم من يذهب مذهب أبي نواس وأصحابه، وكان حظه من الحرمان أقل، ونصيبه من النعيم أكثر، فهو كان يستطيع أن يلقى أصحاب الوجوه الصباح، وأن يقول لهم ويسمع منهم، ويهيم بهم، ويقول فيهم الشعر، ويذهب في هذا الشعر المذاهب، وربما ورطه هيامه وشعره وورط معه صاحبيه في الشر القليل أو الكثير.
وكان ثالث هؤلاء الفتية نواسي الشعر ونواسي الهوى، وما أسرع ما ألف أفرادا من ذوي الوجوه الحسان، واطمأن إليهم وأكثر من لقائهم، يسعى إليهم وحده في مجالسهم، وربما دعا أحدهم إلى مجلسه مع صاحبيه، وصاحباه يضحكان منه ويعبثان به أول الأمر، ثم يرثيان له ويلحان عليه بالنصح بعد ذلك، يؤدون إليه ما يحبون من العبث به والنصح له، بالحديث مرة وبالشعر مرة أخرى. ولكنه لا يحفل بعبثهما ولا بنصحهما، وإنما يمضي مع هواه لا يلوي على شيء، حتى أصبح حديث أترابه، وحتى أقبل الفتية ذات يوم إلى مجلسهم ذاك من الرواق العباسي فوجدوا بعض الزارين على عبثهم قد كتب لهم على الجدار الذي كانوا يستندون إليه هذين البيتين اللذين كتبهما شاعر قديم لأبي عبيدة معمر بن المثنى:
صلى الإله على لوط وشيعته
أبا عبيدة قل بالله آمينا
فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... ... ... ... ...
ولم يكد صاحبا الفتى يريان هذا الشعر حتى أخذهما ما يشبه الصاعقة، وضحك صاحبنا، وأغرق في الضحك، وثاب صاحباه إلى مثل ما كان فيه، فضحكا معه وأغرقا في الضحك أيضا، ولكن بغضهم لزملائهم من طلاب الأزهر زاد أضعافا مضاعفة، وجعل الفتى النواسي يبحث عن كاتب هذين البيتين بدون أن يصل من بحثه إلى شيء، ولكنه رجح لغير سبب أن خصمه إنما هو ذلك الطالب الأسود الذي كان ينافسه في دروس النحو، والذي كان يبغضه أشد البغض، فاتخذه لنفسه عدوا، وجعل يتعمد إيذاءه كلما وجد إلى إيذائه سبيلا، فكان لا يراه - وما أكثر ما كان يراه - إلا رفع صوته بهذين البيتين اللذين حفظهما فيما زعم عن أبيه:
অজানা পৃষ্ঠা