ما كلمة الأدبيات هذه؟ وكيف تكون في الجغرافيا والتاريخ؟ وقد أقبل الفتية على الدرس فلم يفهموا شيئا؛ لأنهم لم يسمعوا شيئا.
كان الأستاذ أغنالسيو جويدي شيخا كبيرا نحيف الصوت ضئيله جدا لا يبلغ عنه أقرب الطلاب إليه مجلسا. وكان الطلاب كثيرين، وكانت ضآلة الصوت تغريهم بالضجيج، فضاع الدرس الأول في غير طائل بعد أن تعب الأستاذ في إلقائه، وتعب الطلاب في محاولة الاستماع له، واضطرت الجامعة إلى أن تختار من الطلاب أرفعهم صوتا وأفصحهم نطقا ليبلغ عن الأستاذ كما يبلغ أحد المصلين عن الإمام حين تقام الصلاة.
ولم ينفق الفتى ثلاثة أيام منذ افتتاح الجامعة حتي تغيرت حياته تغيرا فجائيا كاملا.
الفصل الثاني
كيف سقطت في امتحان العالمية!
لم يكد صاحبنا يتصل بالجامعة حتى رثت الأسباب بينه وبين الأزهر، فأصبح لا يمنحه من الوقت إلا أقصره، ولا يعطيه من الجهد إلا أيسره، ولم تكن الجامعة وحدها هي التي صرفته عن الأزهر، وإنما صرفه عنه قبل ذلك زهده فيه، وضيقه به، وملله من أحاديثه المعادة، وقد انصرف صاحباه عن الأزهر أيضا: ذهب أحدهما إلى كلية الفرير يعلم فيها اللغة العربية، وذهب الآخر إلى المطبعة الأميرية يصحح فيها ما كانت تطبع من الكتب، فلم يبق لصاحبنا في الأزهر أرب، وقد ضاق حتى بأحب ما كان في الأزهر إلى نفسه، وهو المدرس الشيخ سيد المرصفي، فأعرض عنه كل الإعراض، لا زهدا فيه، ولا نفورا منه، ولكن سخطا على الشيخ رحمه الله؛ لأنه أذعن لشيخ الأزهر وأسرف في الإذعان، وأعرض عن معابثة تلاميذه، وتوهم أن الجواسيس قد أرصدت له، وبثت عليه، فتحفظ في كل ما كان يقول، وكره أن يسمع من تلاميذه بعض ما كانوا يأخذون فيه إذا جلسوا إليه من عبث الشيوخ وخوض في حديثهم! وقال للفتى ذات يوم حين أخذ في بعض ذلك: «لا، لا، لا، دعنا نأكل العيش!» فتركه الفتى يأكل العيش ... وأصبح لا يلقاه إلا يوم الجمعة يسعى إليه في بيته، فينفق معه الساعات حلوة حرة، يقول فيها ما يشاء، ويسمع ما يشاء الشيخ أن يقول، وما أكثر ما كان الشيخ يقول!
ومنذ ذلك الوقت أيضا سلك الفتى في حياته طريقا لم يكن يقدر أن سيتاح له سلوكها، فاتصل بالجريدة ومديرها الأستاذ لطفي السيد، وقويت الصلة بينهما حتى كان يلقاه مرات في كل أسبوع، وكان يلقى عنده من شيوخ المطربشين وشبابهم قوما كثيرين، وكانت أحاديث الأستاذ وزائريه تفتح للفتى أبوابا من العلم والمعرفة لم تكن تخطر له ببال من قبل، ولم يكن يقدر وجودها فضلا عن اتصاله بها من قريب أو بعيد.
واتصل الفتى كذلك بالشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله فأكثر الاختلاف إليه والاستماع له، وما هي إلا أن أخذ يجرب نفسه في الكتابة، كما جرب نفسه في الشعر بين يدي أستاذه المرصفي. ولم يكد الفتى يأخذ في الكتابة حتى عرف بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد، قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام، ولكنه كان نقدا محافظا غاليا في المحافظة، إلا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طور الاعتدال، ويغلو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع كل التشجيع على ذلك من الشيخ عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه إغراء بذلك وحثا عليه. وكان صاحبنا موزعا بين مذهبين من مذاهب الكتابة في ذلك الوقت، أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، والآخر: مذهب الغلو والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرضه عليه تحريضا، وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعا، فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني.
ولم ينس الفتى قط كلمة كتبها فأورثته ألما لاذعا وحزنا ممضا، واضطرته إلى أن يسعى معتذرا متوسلا بالصديق إلى من كتبت فيه هذه الكلمة. كان ذلك حين اختصم الناس حول سؤال من أسئلة الامتحان في الشهادة الثانوية في الأدب، فكان ممن شارك في هذه الخصومة زميل أزهري من زملائه كان يعلم في كلية الفرير، وكان هذا الزميل ينتمي إلى أسرة كبيرة ويعد انتماءه إليها من مفاخره، ولكنه لم يكن من هذه الأسرة إلا لأن أباه كان من عتقائها، فلما رد صاحبنا عليه نسبه إلى الأسرة وبين طبيعة انتسابه إليها لم يرد إيذاء زميله، وإنما أعجبه هذا التعريض فاستجاب له، ولم يراجع نفسه فيه إلا حين قرأه مطبوعا في الصحيفة، ولامه فيه صاحباه، هنالك أسقط في يده ولم يرض زميله إلى بعد جهد وعناء. وقد رضي الزميل وصفح، ولكن الفتى لم ينس هذا الإثم قط، وما أكثر ما ازدرى نفسه، وحاول أن يأخذها بألا تضع كلمة في مقال حتى تفكر وتقدر وتتجنب الإيذاء ما وجدت إلى ذلك سبيلا!
ولم يكن هذا الندم كل ما جر عليه طول اللسان من ألم، فما أكثر ما كان يكلف بالنقد فيمضي فيه مؤمنا به حريصا عليه لا يحسب لعواقبه حسابا.
অজানা পৃষ্ঠা