وتغيرت أمور أهل الربع تغيرا شديدا؛ فأما كبار الطلاب فقد ظفر اثنان منهم بدرجة العالمية والتحق سائرهم، ومنهم أخو الفتى؛ بمدرسة القضاء الشرعي لأول إنشائها، وأما الفتى فقد فارقه ابن خالته ذاك الذي كان يعينه على وحدته في الأزهر والربع معا والتحق بدار العلوم.
ونظر الفتى فإذا هو يعود إلى عزلته القاسية المنكرة التي طالما حملته ألوان العذاب في أول عهده بطلب العلم، وإذا أمره يزداد شدة وقسوة، فلن يفرغ له أحد إذا عاد إلى القاهرة بعد انقضاء الصيف، سيذهب أخوه إلى مدرسة القضاء، وسيذهب ابن خالته إلى دار العلوم، وماذا عسى أن يصنع هو وحيدا في الربع؟ وأي نفع له أو لغيره في أن يذهب إلى القاهرة؟ لقد أخذ من العلم حظا لا بأس به، وما عسى أن يفيد من درجة العالمية إن ظفر بها! وأكبر الظن أنه لن يظفر بها؛ فإن نيلها يحتاج إلى جهد عظيم لا يستطيع هو أن يبذله وحده. كذلك قال أخوه للأسرة في يوم من أيام الصيف حين أوشكت الإجازة أن تبلغ أجلها، وقد هم الشيخ الوالد أن يقول شيئا فقطع ابنه عليه الكلام بهذه الحجج المفحمة. ولم تجد أم الفتى ما تقول فأرسلت دموعا صامتة غزارا. ونهض الفتى فمشى متعثرا حتى خلا إلى نفسه في إحدى الحجرات جامدا واجما لا يفكر في شيء.
وكانت ليلة ثقيلة طويلة لقي الفتى فيها من نفسه عذابا شديدا، ثم أصبح لا يقول شيئا ولا يقول له أحد شيئا، فقضى نهارا ثقيلا طويلا، ثم أقبل عليه أبوه الشيخ مع المساء فمسح رأسه وقبله وقال له: ستذهب إلى القاهرة، وسيكون لك خادم خاص، هنالك أجهش الفتى بالبكاء وأجهشت أمه بالبكاء أيضا.
وجاء يوم السفر وخرج شباب الأسرة إلى القطار وفيهم الفتى، وكان أهل الخادم قد ضربوا للأسرة موعدا في المحطة، فهؤلاء الشباب يبلغون المحطة، وهذا القطار يصل ولم يأت الخادم، وهؤلاء شباب الأسرة يركبون القطار وهو يمضي بهم وقد تركوا الفتى فعاد به أبوه إلى الدار وكلاهما واجم حزين.
ويأتى الخادم مع الليل فيعود الفتى إلى استبشاره وابتهاجه، ويسافر مع خادمه الأسود الصغير إلى القاهرة بعد يومين وقد حمل إلى أخيه طعاما وزادا.
وقد بلغ القاهرة وأقام فيها مع خادمه هذا الأسود، يختلف معه إلى دروس الأزهر، ويهيئ له طعام الإفطار، ويقرأ له قراءة محطمة متعثرة أثناء فراغه.
ولكن الجامعة قد أنشئت، وإذا صاحبنا يقبل عليها وينتسب إليها، وإذا هو يختلف مع غلامه الأسود إلى دروس الأزهر مصبحا وإلى دروس الجامعة ممسيا. وإذا هو يجد للحياة طعما جديدا، وإذا هو يتصل ببيئة جديدة وبأساتذة لا سبيل إلى الموازنة بينهم وبين أساتذته في الأزهر.
وقد بعدت الجامعة عن الربع، وبعدت عنه مدرسة القضاء، وبعدت عنه دار العلوم، فلم يبق للجماعة فيه مقام، وإذا هي تتحول عنه إلى بيت جديد أيضا في درب الجماميز.
وإذا الفتى يستأنف حياة لا صلة بينها وبين حياته القديمة إلا أنه كان ربما ألم بالأزهر مرة في الأسبوع أو في الأسبوعين، وإلا أنه كان ربما لقي أصدقاءه من الأزهريين حين كانوا يسعون إلى الجامعة بين حين وحين، وإلا أنه كان يزور الشيخ المرصفي من وقت إلى وقت.
وفي الحق أن الفتى قد قطع الصلة بينه وبين الأزهر في دخيلة نفسه وأعماق ضميره، ولكنه ظل مقيدا في السجلات. ولم يظهر أباه على ما تم عليه عزمه مخافة أن يحزن الشيخ أو ييأس، فما كان يعرف من أمر الجامعة شيئا، وما كان يعنى من أمر الجامعة بقليل أو كثير.
অজানা পৃষ্ঠা