وفي الإجازات قرءوا كتب قاسم أمين، وكثيرا من آثار الأستاذ الإمام، وكانوا يقرءون هذه القصص الكثيرة التي كانت تترجم لتلهية القراء، والتي كانوا يفتنون بما كانوا يجدون فيها من صور للحياة تخالف ما عرفوا في ريفهم ومدنهم. وكان هذا كله يغريهم بالمضي في القراءة حتى يسرفوا على أنفسهم، وربما أسرفوا على أسرتهم أيضا؛ فقد كانوا لا يجدون في الصحف والمجلات إشارة إلى كتاب جديد أو كتاب قديم لم يعرفوه إلا كتبوا إلى الناشر يطلبون إليه إرساله إليهم، وما هي إلا أيام حتى يأتي الكتاب أو تأتي الكتب محولة على البريد، وحتى تضطر الأسرة إلى أن تدفع ثمنها سواء أرضيت عن ذلك أم ضاقت به.
وكان صاحبنا يحب الإجازة لأنه كان يفرغ للتفكير في أصدقائه من بعيد، فيكتب إليهم ويتلقى منهم الكتب، ويجد في نفسه لذلك نشاطا وبه لذة لم يكن يجدها حين يلقى أصدقاءه في القاهرة ويتحدث إليهم من قريب.
ثم كان يحب الإجازة لأنه كان يلقى فيها شبابا آخرين غير شباب أسرته، شبابا من بيئة الطرابيش، منهم من كان في المدارس الثانوية، ومنهم من كان في المدارس العالية، قد أقبلوا مثله يلتمسون الراحة بين أهلهم في الريف. وهم يجدون في لقائه والتحدث إليه من اللذة والمتاع مثل ما يجد هو في لقائهم والتحدث إليهم، فكان يسألهم عما يتعلمون ويسألونه عما يتعلم، وربما قرءوا عليه بعض كتبهم، وربما قرأ معهم شيئا من الأدب القديم.
ولكنه أنكر بعض إجازاته أول الأمر؛ فقد حدث حدث في أسرته، فتحولت عن مدينتها التي نشأ فيها الصبي إلى أعلى الإقليم أول الأمر، فأقامت فيه عاما أو عامين، ثم تحولت بعد ذلك إلى أقصى الصعيد، فأقامت فيه أعواما طوالا. وكان صاحبنا شديد الحزن على مدينته القديمة، شديد الضيق بهذه الأماكن الجديدة التي لا عهد له بها، والتي لم يكن يستطيع أن يذهب فيها عن يمين أو شمال، ولكنه اطمأن أخيرا إلى مدينته تلك في أقصى الصعيد حتى ألفها أشد الإلف وكلف بها أعظم الكلف، وأصبحت له وطنا ثانيا، مع أن زياراته الأولى لهذه المدينة قد آذته وشقت عليه.
ذهب إليها مع الأسرة كلها لزيارة أبيه الشيخ، وكان قد بدأ عمله فيها وحيدا. فلما دبر أمره واستقر به المقام دعا الأسرة إلى أن تنتقل إليه، وصادف ذلك إجازة الصيف، فانتقلت الأسرة ومعها الفتى. ركبت القطار منتصف الليل، وبلغت تلك المدينة في الساعة الرابعة من غد، وكانت المدينة جديدة، وكان القطار لا يقف فيها إلا دقيقة واحدة، وكانت الأسرة ضخمة يقودها أكبر أبنائها، وفيها النساء والأطفال، ومعها متاع ضخم عظيم، فلما دنا القطار من المحطة أقبل كبار الأسرة على النساء والأطفال والمتاع يقربون ذلك كله من باب العربة، حتى إذا وقف القطار دفعوا ذلك كله دفعا إلى الأرض، ثم تواثبوا من ورائه، ومضى القطار ولم ينسوا فيه إلا أخاهم هذا الضرير.
وقد ذعر الفتى حين رأى نفسه وحيدا عاجزا عن أن يقضي في أمره بشيء. ولكن جماعة من السفر رأوا عجزه وحيرته، فرفقوا به وجعلوا يهدئونه، حتى إذا وقف القطار في أول محطة أنزلوه وأسلموه إلى صاحب التلغراف وعادوا إلى قطارهم.
وقد عرف الفتى بعد ذلك أن الأسرة بلغت دارها في مدينتها الجديدة، فجعلت تزور الدار وتتفقد حجراتها وغرفاتها، وتقر كل شيء في مكانه، ثم أقبل الشيخ عليها فجلس يتحدث إلى هذا وذاك من أبنائه وإلى هذه وتلك من بناته.
ثم جرى عرضا ذكر الفتى بعد أن مضى على وصول الأسرة وقت غير قصير، فلما سمع الشيخ اسم الفتى ارتاع وارتاعت أمه وارتاع إخوته، وهرول الشباب منهم إلى مكتب التلغراف، ولكنهم لم يبلغوه حتى وجدوا النبأ بأن أخاهم في المحطة المجاورة ينتظر من يأتي ليرده إليهم، فأرسلوا إليه من جاء به ردفا على ظهر بغلة كانت تسعى هادئة مرة مهملجة به مرة أخرى، فتضيف في قلبه فرقا إلى فرق وذعرا إلى ذعر.
ولم ينس الفتى قط مجلسه عند صاحب التلغراف، وكان شابا نشيطا كثير الضحك كثير المزاح، وقد اجتمع إليه جماعة من موظفي المحطة، فلما رأوا عنده هذا الفتى أنكروه ثم عرفوا أمره، فأظهروا العطف عليه والرقة له. وقد رأوا شيخا ضريرا، فما شكوا في أنه يحسن قراءة القرآن أو يحسن الغناء، وهم يطلبون إليه أن يغني لهم شيئا، فإذا أقسم لهم أنه لا يحسن الغناء طلبوا إليه أن يقرأ لهم شيئا من القرآن، فإذا أقسم لهم أنه لا يحسن التصويت بالقرآن، ألحوا عليه وأبوا إلا أن يسمعوه، واضطر الفتى إلى أن يقرأ القرآن خجلا وجلا مستحييا ضيقا بالحياة لاعنا للأيام، وإذا صوته يحتبس في حلقه، وإذا الدموع تنهمر على خديه وإذا القوم يرفقون به وينصرفون عنه، ويتركونه وحيدا أو كالوحيد حتى يأتي من يرده إلى أسرته.
آذت هذه القصة الفتى في نفسه، ولكنها على ذلك لم تبغض إليه المدينة الجديدة، ولم تزهده في زيارتها، وإنما أحبها وجعلت نفسه تشتاق إليها أشد الشوق كلما دنا الصيف، وإن كان الحر فيها شديدا لا يطاق.
অজানা পৃষ্ঠা