وكان هذا الطالب ماهرا حقا؛ فقد أحصى على هؤلاء الفتية كثيرا جدا مما كانوا يعيبون به الشيوخ، ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ راضي والشيخ الرفاعي، وكانوا جميعا حاضرين، فسمعوا بآذانهم آراء هؤلاء الفتية فيهم. وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب في كل ما قال. وسئل الفتية فلم ينكروا مما سمعوا شيئا، ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم، وإنما دعا إليه رضوان فأمره في شدة بمحو أسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الأزهر؛ لأنه لا يريد مثل هذا الكلام الفارغ. ثم صرفهم عنه في عنف، فخرجوا وجلين قد سقط في أيديهم لا يعرفون ماذا يصنعون، ولا كيف يصورون هذه القصة لأهلهم.
ولم يقف أمرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب إليهم في ضحك منهم وشماتة بهم، ولكنهم أقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفي وليسمعوا منه درس «الكامل». وأقبل الشيخ، فلقيه رضوان وأنبأه في أدب ولطف بأن شيخ الجامع قد ألغى درس «الكامل»، وبأنه ينتظره في مكتبه إذا كان الغد.
فانصرف الشيخ محزونا، ومضى معه تلاميذه الثلاثة خجلين وجلين، والشيخ يسري عنهم مع ذلك، حتى إذا كانوا في بعض الطريق خطر لهم أن يذهبوا إلى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع، وقال لهم شيخهم: «لا تفعلوا، فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئا.» ولكنهم مضوا مع ذلك إلى دار الشيخ بخيت، فلما أدخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكا، ثم سألهم عن جلية أمرهم في فتور، فلما أخذوا يدافعون عن أنفسهم، قال لهم في فتور أيضا: ولكنكم تدرسون «الكامل» للمبرد، وقد كان المبرد من المعتزلة، فدرس كتابه إثم.
وهنالك نسي الفتية أنهم جاءوا مستعطفين، وأخذوا يجادلون الشيخ حتى أحفظوه، وانصرفوا عنه وقد ملأه الغضب وملأهم اليأس ، ولكنهم مع ذلك تضاحكوا من الشيخ وأعادوا بعض كلماته، وتفرقوا وقد تعاهدوا على أن يخفوا الأمر على أهلهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولقوا شيخهم من الغد، فأنبأهم بأن شيخ الجامع قد حظر عليه قراءة «الكامل»، وكلفه قراءة «المغني» لابن هشام، ونقله من الرواق العباسي إلى عمود في داخل الأزهر.
ثم جعل الأستاذ يعبث بشيخ الجامع، ويزعم لتلاميذه أنه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة، وإنما خلق ليبيع العسل الأسود في سرياقوس، وكان قد فقد أسنانه فكان ينطق السين ثاء، وكان يتكلم لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة، ويمد الواو بينها وبين السين، وكان يتكلم هامسا، فلم ينس تلاميذه قط هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة رحمة الله فسموه: «بائع العثل في ثرياؤوث.»
ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديدا حازما وكان مهيبا صارما، يخافه الشيوخ جميعا ومنهم الشيخ المرصفي؛ فقد أخذ يقرأ كتاب «المغني»، وذهب إليه تلاميذه مطمئنين، وما يعنيهم أن يقرأ الشيخ هذا الكتاب أو ذاك، حسبهم أن يقرأ الشيخ وأن يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه، فلما هم الفتى أن يقول له بعض الشيء أسكته في رفق وهو يقول: «لأ، لأ، عاوزين ناكل عيش.» ولم يعرف الفتى أنه حزن منذ عرف الأزهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من أستاذه، فانصرف عنه ومعه صديقاه وإن قلوبهم ليملؤها حزن عميق.
على أنهم لم يرضوا بهذه العقوبة التي فرضها عليهم شيخ الجامع، وإنما فكروا في الطريق التي يجب أن يسلكوها ليرفعوا عن أنفسهم هذا الظلم. فأما أحدهم فقد آثر العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلسا في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة. وأما الآخر فقص الأمر على أبيه، وجعل أبوه يسعى في إصلاح شأن ابنه سعيا رفيقا، ولكن الفتى لم يفارق صاحبه ولم يعتزل عدوا ولا صديقا، وإنما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسي والإدارة، ويمضيان فيما تعودا أن يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ.
وأما صاحبنا فلم يحتج إلى أن يقص الأمر على أخيه، فقد انتهى الأمر إلى أخيه عن طريق لا يعرفها، ولكن أخاه لم يلمه ولم يعنف عليه، وإنما قال له: «أنت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة.» ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقا ولا لينا؛ فلم يسع إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد، وإنما كتب مقالا عنيفا يهاجم فيه الأزهر كله وشيخ الأزهر خاصة ويطالب بحرية الرأي. وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم إلى حرية الرأي!
وذهب صاحبنا بمقاله إلى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسنا فيه كثير من العطف والإشفاق، وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكا إلى صديق له كان في مجلسه يومئذ، فألقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضبا: لو لم تكن قد عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك. وهم الفتى أن يرد على هذا الصديق، ولكن مدير الجريدة قال له مترفقا: إن الذي يحدثك هو حسن بك صبري مفتش العلوم الحديثة في الأزهر. ثم قال له: أتريد أن تشتم الشيخ وتعيب الأزهر، أم تريد أن يرفع عنك هذا العقاب؟ قال الفتى: بل أريد أن يرفع عني هذا العقاب، وأن أستمتع بحقي من الحرية. قال مدير الجريدة: فدع لي هذه القصة وانصرف راشدا.
অজানা পৃষ্ঠা