ولكن الفتى أحس شيئا آخر زاد به انحرافا عن الأزهر وانصرافا عن شيوخه وطلابه، أحس أن الذين بكوا الشيخ صادقين وحزنوا عليه مخلصين لم يكونوا من أصحاب العمائم، وإنما كانوا من أصحاب الطرابيش، فوجد في نفسه ميلا خفيا إلى أن يقرب من أصحاب الطرابيش هؤلاء، وإلى أن يتصل ببيئاتهم بعض الاتصال. ومن له بذلك وهو فتى ضرير قد فرضت عليه الحياة الأزهرية فرضا فلم يجد عنها منصرفا!
وكان الأستاذ الإمام شيخا لرواق الحنفية، فلما خرج من الأزهر أو لما خرج من الحياة أصبح خلفه على الإفتاء خلفا له على الرواق أيضا.
كان ابن المفتي الجديد أستاذا لصاحبنا الفتى، سمع عليه في صباه شرح السيد الجرجاني على إيساغوجي في المنطق، وكان يقوم عن أبيه بأمر الرواق، فأغرى الفتى بالانتساب إلى رواق الحنفية والانتظار فيه، وكانت الجراية في رواق الحنفية أيسر منالا وأكثر عدد أرغفة منها في غيره من الأروقة، ولم يكن الانتساب إلى رواق الحنفية أيام الأستاذ الإمام سهلا ولا يسيرا وإنما كان الامتحان سبيلا إليه. وقد احتفظ المفتي الجديد بهذه السنة، وكان ابنه هو الذي يمتحن المتقدمين للانتساب في موعد بعينه في العام، فقيل لصاحبنا الفتى: ما لك لا تنتسب إلى هذا الرواق وقد انتسب إليه أخوك من قبل وأصحابه النجباء أيام الأستاذ الإمام، وهم يأخذون منه جراياتهم أربعة أرغفة لكل واحد منهم في كل يوم؟ وزين ذلك له وحثه عليه أخوه وأصحابه. وأرسل إلى الامتحان ذات مساء ومعه كتاب إلى الممتحن. فلما أدخل الفتى على الممتحن حياه وأخذ منه الكتاب فنظر فيه ثم ألقى عليه سؤالا ورد الفتى جواب السؤال خطأ أو صوابا لم يدر، ولكن الممتحن قال له: «انصرف يا علامة!» فانصرف راضيا، ولم يمض إلا وقت قليل حتى أصبح الفتى مستحقا ونال رغيفين في كل يوم، فكثر الخبز في الغرفة، وفرحت الأسرة في الريف.
على أن الفتى لم ينل رغيفين فحسب، وإنما نال معهما خزانة في الرواق كانت آثر عنده من الرغيفين، فقد كان يستطيع إذا دخل الأزهر في الصبح أن يذهب إلى خزانته فيضع فيها نعليه ورغيفيه أو أحدهما، ويقضي نهاره حرا لا يعنى بهاتين النعلين اللتين كان يبذل جهدا غير قليل لحمايتهما من عدوان الخاطفين والسارقين، وما أكثر ما كانت تسرق النعال في الأزهر! وما أكثر ما كانت تلصق على جدران الأزهر من حول الصحن أوراق يعلن فيها أصحابها أن نعالهم قد ضاعت، وأن من ظفر بها فردها إلى صاحبها في مكان كذا، أو رواق كذا، فله الأجر والثواب، ومن احتفظ بها متعديا قطعه الله من هذا المكان!
كان الفتى إذن سعيدا بخزانته ورغيفيه، ولكنه لم يكن سعيدا بما كان يحصل من العلم أو يسمع من الدرس، وقد كان يكره نفسه إكراها على أن يسمع بعد الفجر درسا في التوحيد كان يلقيه الشيخ راضي رحمه الله، وكان يقرأ كتاب «المقاصد»، ويسمع في الصبح درس الفقه على الشيخ بخيت وكان يقرأ كتاب «الهداية»، ويسمع في الظهر درس البلاغة على الشيخ عبد الحكم عطا وكان يقرأ «شرح السعد».
وكان درس الفقه يسلي الفتى ويلهيه بما كان يسمع فيه من غناء الشيخ إذا خلى الطلاب بينه وبين الغناء، وحدة الشيخ ونكته الأزهرية إذا قطع الطلاب عليه غناءه فجادلوه في بعض ما كان يقرأ أو كان يقول. وربما كان الشيخ ينشد طلابه أحيانا من شعره إذا صفا وطابت نفسه للإنشاد. وقد حفظ عنه الفتى بيتا من الشعر لم ينس قط صوت الشيخ وهو يتغنى به مترنحا:
كأن عمته من فوق هامته
شنف من التبن محمول على جمل
وقد روى الفتى هذا البيت لأخيه وأصحابه فتضاحكوا وتذاكروا شعر الشيخ وتناشدوا بعضه. وروى الفتى إلى البيت السابق بيتا آخر ليس أقل منه طرافة وظرفا، وهو مطلع قصيدة قالها الشيخ رحمه الله في رثاء بعض العلماء، وهو:
خطب جليل بعد موتك يا نبي
অজানা পৃষ্ঠা