كان التفكير فيها وفي السفر يعسر علي كثيرا من الكتب فأسرح وأطيل التفكير، حتى لقد كان صديقي أشرف ينتبه إلى انصرافي عن المذاكرة فيسألني عما بي، وقد كتمت عنه حبي فترة طويلة من الزمان؛ فقد كنت أخشى أن يجعله سخرية ويجعل مني ضحكة له، ولكنه اكتشف حبي حين رآني معها في الطريق، فلم أستطع الكتمان وألقيت إليه بخبيئة قلبي في جد حازم جعله يأخذ مأخذا لا مجال فيه لغير المشاركة العنيفة، ولكن هذا لم يمنعه أن يحثني على المذاكرة بدلا من السرحان؛ فنفضت إليه خشيتي أن تتزوج قبل أن أحصل على الشهادة، وخشيتي أن أسافر إلى الغرب، وكان يقول: هل تتردد في السفر من أجل هذا؟ إنك إن لم تسافر وتزوجتها لظللت طول عمرك تكرهها لأنها كانت حجر عثرة في سبيل مستقبلك، ولظلت هي طول حياتها تكره نفسها وتكره زواجها بك لأنه منعك من المستقبل اللائق بك، لا، اخطبها وسافر. ولكن لا بد لك أن تسافر.
وحصلت على الشهادة وراح أبي يجهز لسفري، ورحت أنا أتحين الفرصة لأحادثه في أمر خطبتي، ولكن كيف؟ كنت طفلا كبيرا في السابعة عشرة من عمري أحس أنا أني كبير وأفهم كل شيء، بل لعلي كنت معتقدا أنني أفهم ما لا يفهمه أبي نفسه، ولكن من يعترف معي بكبري هذا وعقلي وحكمتي؟! كان أبي وأمي يعاملانني كأني طفل لا أزال، حتى لقد فكرا أن يرسلا معي خادما إلى الخارج ليرعى شأني، ويقوم على أموري فما استطعت أن أصرفهما عن هذا التفكير إلا بشق الأنفس وكثير اللجاج، بل وبالبكاء أيضا، نعم بالبكاء فقد كنت حتى ذلك الحين أبكي إن أصر أبي على أمر لا أريد تنفيذه.
كيف إذن أحدثهما عن حبي، وعن رغبتي في الخطبة وهما يريان أنني ما زلت محتاجا إلى ...!
لم أجد من ألقي إليه بما أنا فيه إلا صديقي أشرف الذي عرف حالي جميعا أثناء المذاكرة، قصدت إليه في بيته وظللت أقول وأقول، وأبين له كيف أنهم يجهلون في بيتي قدري، وكيف أنهم يستصغرون شأني ويستهينون بعبقريتي، وكان أشرف يكبرني بعض الشيء فانتهز الفرصة وراح يقف مني موقف المرشد الناصح، وأنا أضيق بحديثه غاية الضيق حتى لم أطق أن أكمل الجلسة، وخرجت من عنده وأنا أشد ضيقا مما كنت حين قصدت إليه.
وتحدد موعد السفر، وما لبث هذا الموعد أن حل، وأصبحت في اليوم الذي سأسافر في مسائه، وقد عزمت أمري على مفاتحة أبي، وقد هيأ لي الوهم أنني ما إن أخبره برغبتي في الزواج حتى يسارع إلى أهل هناء فيخطبها لي في نفس اليوم، بل في نفس الساعة.
قصدت إلى حجرة أبي وقد أعددت نفسي إعدادا تاما، ولكن لم أجد أبي؛ فقد انصرف في باكر الصباح ليكمل ما أحتاج إليه، وأخبرهم في البيت أنه لن يرجع إلا بعد الظهر.
ولم أطق أنا البقاء فخرجت عازما ألا أعود أنا أيضا إلا بعد الظهر.
وبعد الظهر عدت، وما كدت أصل إلى الحي حتى تدافعت إلى أذني زغاريد تنبعث من بعيد ويقترب صداها كلما اقتربت إلى البيت، ماذا ترى بعث هذه الزغاريد؟ ليس هناك إلا سبب واحد.
لا بد أن أشرف أخبر أبي برغبتي في الزواج من هناء، وأراد أبي أن يفاجئني بهذه المفاجأة الهائلة الرائعة العظيمة، كم هو عظيم أبي هذا! كم هو وفي أشرف صديقي! أحقا تحققت الأحلام؟ أحقا هدأ لي مضطرب الفؤاد واستقرت بي نفسي الحائرة؟ وتزداد الزغاريد قوة وكأنها تجيب أن نعم، نعم، لقد تم لك ما تريد.
وبلغت مصدر الزغاريد، إنه بيت هناء، إذن فهو ما فكرت فيه، وإذن تحققت الآمال، ووجدت بالباب سيارات وقوما متجمعين، ووجوها يطيب البشر من قسماتها، ولكن أين أبي من هؤلاء؟ أين سيارته؟ وأين سائقنا؟ أين نحن في هذه الجموع؟ لا، لم يكن هناك، عدوت جريا إلى منزلنا فوجدت أبي جالسا في مكتبه، ورأى اضطرابي وأدركه، ولكن لم يلفت أمره ولم يسألني، «ما لك؟» بل قال في صوت شوق عاطف: أين أنت يا أخي؟ أتترك البيت في هذا اليوم وسيأتي الناس لتوديعك، وأمك تهفو أن تقضي معك هذه الساعات التي تسبق سفرك؟ - والله كنت ... كنت ... كنت أودع أصحابي ... أبي ... - نعم. - أبي ... - نعم. - ما هذه الزغاريد؟ - يا سيدي هناء تخطب اليوم، وأنا ذاهب لأهنئ أباها فقد دعاني الرجل وألح علي أن أذهب، وهو يريدك أيضا، أتأتي؟
অজানা পৃষ্ঠা