ودقته هذه تلازمه في كل شيء، في ملبسه، في مشيته، في عمله، في منزله في سريره، في بيته، وتزداد دقته في مسائل الدين، من صلاة إلى صوم إلى كل ما أمر به الدين ما عدا الزكاة.
وتقضي عليه الدقة ألا يسكن من العمارات إلا الطابق الأعلى، وتسأله عن السبب فيجيب: «حتى لا يمر صاعد أو هابط على العيال.» و«العيال» هنا هي زوجته بطبيعة الحال. وتقضى عليه الدقة أن يصدر إلى العيال، إلى زوجته، الأوامر بألا ينفتح الباب بحال من الأحوال وهو غائب، فإن طرق الباب طارق فليطرقه ولا تجيب هي، وزوجته - رعاها الله - سيدة وقور نزحت معه من الريف، وقد نزحت معها أخلاق الريف العفيفة. فأوامر زوجها تطاع في دقة، دقة حازمة، تلك الدقة التي يحبها زوجها ولا يحيد عنها أبدا.
وقد امتدت هذه الأوامر إلى أولاده، وامتدت طاعة الأم إلى أولادها؛ فالأب يأمرهم فينفذون، لا يدرون للأمر معنى ولا سببا إلا أنه واجب التنفيذ.
ولكن أمرا واحدا لم يستطع الأولاد أن ينفذوه، كان ذلك الأمر هو أن يكونوا أذكياء، وكيف لهم أن ينفذوه وهم لا يفهمونه! لقد أمرهم أبوهم: «كونوا أذكياء.» فقالوا: «حاضر.» ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفذوا «حاضر» هذه أبدا.
وكان عبد الله أفندي يأخذ أولاده بالشدة؛ فقد كان يرى فيهم لصوصا لعمره الذي أضاعه في إطعامهم، وإلباسهم، وتعليمهم ولكنه لم يعترف لنفسه أن شدته على أولاده مبعثها أنهم أضاعوا شبابه، بل كان يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه لا بد للأولاد أن يؤخذوا بالشدة حتى ينفعوا في حياتهم، وكذلك كان عبد الله أفندي في دينه؛ فهو متعبد لأن العبادة لا تكلف صاحبها شيئا ولكنه يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه متعبد حبا في الدين.
وكان أكبر أولاد عبد الله أفندي في الخامسة عشرة من عمره، وكان أمام أبيه مثالا للطاعة العمياء، والأدب الجم، والحياء المفرط، فهو كسير العين، منطبق الفم إلا إذا أكل، ساكن الحركة إلا إذا أمره أبوه بإحضار شيء! حتى إذا خلا بنفسه وبأصدقائه أصبح عربيدا لا يبارى في عربدته؛ فهو أضحوكة الإخوان ومسلاتهم، وهو من يتصدى عنهم لكل عبث يمنعهم عنه الحياء!
لم يطل انتظار عبد الله أفندي للترام في يومه هذا؛ فقد أخطأ السائق وجاء في موعده وركب عبد الله أفندي محاولا الوقار، ولكنه لم يستطعه، فقد وجد نفسه في وسط كومه من الآدميين تصعد فصعد معها، وكان الوقار يقتضي أن يجد عبد الله أفندي مكانا ليجلس فيه، ولكنه لم يجد فوقف مكرها وجاء «الكمساري» فأخرج عبد الله أفندي من جيبه ثمن التذكرة لا ينقص ولا يزيد مليما، فهو يعد لكل شيء عدته، ألم أقل لك إنه دقيق؟
ووصل عبد الله أفندي إلى البيت وصعد درجات السلم، أربعا وثمانين درجة، لقد أحصاها ويحصيها كل يوم. كأنما يخشى أن تنقص درجة، وفتح باب منزله ونادى: يا أم سعيد. - نعم يا عبد الله أفندي.
وكان الجواب آتيا من المطبخ، وكانت زوجته هي المجيبة، فهي لم تكن تدعوه بغير «عبد الله أفندي»، وارتفع صوته ثانية: أين الغداء؟ - جاهز. - أسرعي؛ فالساعة الثانية والنصف ودقيقتان. - جاهز يا عبد الله أفندي، جاهز.
وخرجت زوجته من المطبخ تحمل الأكل الذي أعدته، وجلسا إلى المائدة، وقبل أن يمد يده إلى الطعام قال: اليوم يوم الاثنين. - نعم. - فأين سعيد؟ - لم يجئ بعد. - لم يجئ؟ كيف؟ - الله يعلم. - كيف هذا؟ لقد طالما نبهت عليه ألا يتأخر في الطريق. - لعل لديه عملا بالمدرسة. - لا يمكن. - على كل حال كل أنت ولن يلبث سعيد أن يجيء.
অজানা পৃষ্ঠা