في الوقت نفسه تقريبا قرر فلوري، الذي كان على بعد عشرين ميلا، أن يعود إلى كياوكتادا. كان واقفا على حافة الغابة عند ضفة جدول ناضب، بعد أن سار ليصيب نفسه بالإنهاك، وأخذ يشاهد بضع عصافير صغيرة مجهولة الاسم تأكل بذور الحشائش الطويلة. كانت الذكور صفراء فاقعة اللون، والإناث مثل إناث طيور السنونو. ولأن حجمها كان في غاية الضآلة فلا يسمح لها بثني العيدان، فقد كانت تقترب منها وهي تهتز، وتتشبث بها أثناء طيرانها وتنزلها إلى الأرض بثقلها. ظل فلوري يشاهد الطيور بلا مبالاة، يكاد أن يبغضها لأنها لم تستطع أن تثير فيه أي اهتمام. في غمرة خموله ألقى عليها سيفه لتجفل. ليتها كانت هنا، ليتها كانت هنا! كل شيء - الطيور والأشجار والزهور، كل شيء - كان ميتا وبلا معنى؛ لأنها لم تكن هنا. مع مرور الأيام تيقن أكثر من فقدانها وصار أمرا واقعا حتى بات يسمم كل لحظة.
تسكع قليلا في الغابة، وهو يضرب النباتات المتسلقة بسيفه. كان يشعر بأطرافه مرتخية وثقيلة. ثم انتبه إلى نبتة فانيليا برية تدلت على إحدى الشجيرات، فانحنى ليتشمم قرونها الرفيعة الزكية الرائحة. لكن أثار فيه العبق شعورا بالذبول والضجر القاتل. وحيدا، وحيدا، معزولا في بحر الحياة! بلغ به الألم أشده حتى إنه ضرب الشجرة بقبضته، فارتعدت ذراعه وتشقق اثنان من مفاصل أصابعه. لا بد أن يذهب إلى كياوكتادا. كان في ذلك حماقة، فبالكاد مضى أسبوعان منذ الموقف الذي جرى بينهما، وكانت فرصته الوحيدة أن يعطيها بعض الوقت لتنسى الأمر. لكن لا بد أن يرجع رغم ذلك. فلم يعد يقوى على البقاء في هذا المكان الرتيب، وحده مع أفكاره بين عدد لا حصر له من أوراق الأشجار الغافلة.
ثم خطرت له فكرة سارة. يمكنه أن يأخذ لإليزابيث جلد النمر الذي كان في السجن لدبغه. سيكون عذرا ليراها، وفي عموم الأحوال حين يأتي شخص محملا بالهدايا فالناس تصغي إليه. لن يدعها تقاطعه قبل أن يشرع في الكلام. سوف يشرح، ويلطف الأمر، يجعلها تدرك أنها كانت ظالمة له. لم يكن من الصحيح أن تدينه من أجل ما هلا ماي، التي طردها من منزله من أجل إليزابيث. قطعا لا بد أنها ستسامحه حين تسمع حقيقة القصة. ويجب أن تسمعها هذه المرة؛ سوف يجبرها أن تصغي له حتى إذا اضطر لأن يقبض على ذراعيها وهو يتكلم.
وقد عاد في نفس المساء. كانت الرحلة تستغرق عشرين ميلا، في مسارات للعربات مليئة بالأخاديد، لكن قرر فلوري السير ليلا، متعللا بأن الجو يكون أبرد. كاد الخدم أن يتمردوا على فكرة السير ليلا، وانهار سامي العجوز في اللحظة الأخيرة في نوبة شبه حقيقية وكان لا بد من إغداق الجين عليه حتى يقوى على السفر. كانت الليلة خالية من القمر، فالتمسوا طريقهم على ضوء المصابيح، الذي برقت فيه عينا فلو مثل الزمرد ولمعت فيه عينا الثور مثل حجر القمر. حين بزغت الشمس توقف الخدم ليجمعوا الحطب ويطهوا الإفطار، لكن فلوري كان متلهفا ليكون في كياوكتادا، فسبقهم متعجلا. لم يشعر بأي تعب، فقد أفعمته فكرة جلد النمر بآمال مبالغ فيها. هكذا عبر النهر المترقرق في زورق واتجه مباشرة إلى كوخ الدكتور فيراسوامي، فوصل إلى هناك في حوالي العاشرة.
دعاه الطبيب للإفطار، وأخذه إلى حمامه حتى يتمكن من الاغتسال والحلاقة، بعد أن هش النساء إلى مكان مناسب للاختباء. أثناء الإفطار كان الطبيب الشديد الانفعال وكثير الاتهامات لل «تمساح»؛ فقد اتضح أن التمرد المزيف كان على وشك الاندلاع آنذاك. لم تتسن الفرصة لفلوري ليذكر مسألة جلد النمر إلا بعد الإفطار. «بالمناسبة يا دكتور، ماذا عن ذلك الجلد الذي أرسلته إلى السجن ليدبغ؟ هل فرغ منه؟»
قال الطبيب بقليل من الارتباك وهو يحك أنفه: «آه.» دخل المنزل - كانا يتناولان الإفطار في الشرفة؛ إذ كانت زوجة الطبيب قد اعترضت بعنف على إحضار فلوري للداخل - وعاد سريعا بجلد ملفوف.
شرع يقول وهو يفرده: «في الواقع ...» «ويحي يا دكتور!»
كان الجلد تالفا تماما. فقد كان جامدا مثل الورق المقوى ، مع تشقق الجلد المدبوغ وتغير لون الفراء بل وتآكلت أجزاء منه. كما كانت رائحته كريهة ببشاعة. كان كأنه حول إلى قطعة من النفايات بدلا من دبغه. «مهلا يا دكتور! أي عبث هذا الذي فعلوه به! كيف حدث هذا بحق الشيطان؟» «آسف جدا يا صديقي! كنت على وشك الاعتذار. كان هذا أفضل ما في وسعنا. لا يوجد في السجن الآن من يعرف كيفية دبغ الجلود.» «سحقا، كان هناك ذلك السجين الذي اعتاد دبغ الجلود دبغا جميلا!» «أجل. لكنه رحل عنا منذ ثلاثة أسابيع، للأسف.» «رحل؟ كنت أعتقد أنه سيقضي سبع سنوات؟» «ماذا؟ ألم تسمع يا صديقي؟ كنت أعتقد أنك تعلم من الذي كان يدبغ الجلود. إنه نجا شوي أو.» «نجا شوي أو؟» «المجرم الذي هرب بمساعدة يو بو كين.» «سحقا!»
ارتاع فلوري من الحظ العاثر بشدة. لكنه في عصر اليوم، بعد أن تحمم وارتدى بذلة نظيفة، ذهب إلى منزل آل لاكرستين، نحو الساعة الرابعة. كان الوقت مبكرا جدا على الزيارات، لكنه أراد أن يضمن اللحاق بإليزابيث قبل أن تذهب إلى النادي. وقد استقبلته السيدة لاكرستين، التي كانت نائمة وغير مستعدة لاستقبال زائرين، بقلة ذوق، دون أن تطلب منه الجلوس حتى. «أخشى أن إليزابيث لم تنزل بعد. إنها ترتدي ملابسها للخروج لركوب الخيل. ألن يكون من الأفضل أن تترك رسالة؟» «أفضل أن أراها، إذا لم يكن لديك مانع. لقد أتيت لها بجلد النمر الذي اصطدناه معا.»
تركته السيدة لاكرستين واقفا في حجرة الاستقبال يعتريه شعور ببلادة وثقل غير عادي كما يحدث للمرء في مثل هذه الأوقات. إلا أنها جاءت بها، وانتهزت الفرصة لتهمس لها خارج الباب قائلة: «تخلصي من ذلك الرجل الكريه بأسرع ما يمكن يا عزيزتي. فإنني لا أطيق وجوده في المنزل في هذا الوقت من اليوم.»
অজানা পৃষ্ঠা