في الوقت ذاته، كان فلوري بذلك قد وقع على إهانة علنية في حق صديقه، وقد أقدم على هذا للسبب نفسه الذي جعله يفعل ألف شيء مماثل في حياته؛ لأنه كان يفتقر إلى ذرة الشجاعة اللازمة للرفض. فقد كان بإمكانه الرفض بالطبع إذا اختار ذلك؛ وبالطبع كذلك كان الرفض سيأتي بشجار مع إليس وويستفيلد. وآه، كم كان يمقت الشجار! الإزعاج وعبارات التهكم! كان مجرد التفكير في الأمر يجعله يرتد على عقبيه؛ فقد كان يواتيه شعور بجلاء وحمته على وجنته، وبشيء في حنجرته يجعل صوته رتيبا وشاعرا بإثمه. لكن كلا! من الأسهل أن يسب صديقه، مع علمه بأن صديقه سيسمع بالأمر حتما.
عاش فلوري خمس عشرة سنة في بورما، وفي بورما يتعلم المرء ألا يتخذ موقفا معاديا للرأي العام. بيد أن مشكلة فلوري كانت أقدم من ذلك؛ فقد بدأت وهو بعد في رحم أمه، حين وضعت الصدفة وحمة زرقاء على وجنته . جال بخاطره بعض الآثار المبكرة لوحمته. دخوله المدرسة لأول مرة وهو في التاسعة من العمر؛ نظرات التحديق، وما تلاها من صيحات الفتيان الآخرين بعد بضعة أيام؛ لقب ذا الوجه الأزرق، الذي استمر حتى جاء شاعر المدرسة (هنا تذكر فلوري ناقدا كتب مقالات جيدة نوعا ما في صحيفة «نيشن») ببيتي شعر قال فيهما:
الفتى الجديد فلوري يبدو مريبا؛ فوجهه يبدو بمؤخرة القرد شبيها.
وإثر ذلك تغير لقبه إلى مؤخرة القرد. وفي ليالي السبت في السنوات التالية اعتاد الصبية الأكبر سنا أن يقيموا ما أسموه محاكم التفتيش الإسبانية. وكان أسلوب التعذيب المفضل لدى أحدهم هو أن يحكم على الشخص قبضة موجعة جدا لم يخبرها سوى قلة من المستنيرين وتسمى «سبيشال توجو»، بينما يضربه شخص آخر بثمرة كستناء مربوطة بحبل. لكن فلوري كان قد قلل من وطأة «مؤخرة القرد» في نهاية الأمر. فقد كان كاذبا ولاعب كرة قدم ماهرا، وهما شيئان ضروريان جدا للنجاح في المدرسة. وفي الفصل الدراسي الأخير له شد مع فتى آخر قبضة «سبيشال توجو» على شاعر المدرسة بينما ضربه قائد فريق الكرة ست ضربات بحذاء الركض ذي المسامير لضبطه متلبسا بكتابة سوناتة. كانت تلك فترة تكوينية.
خرج فلوري من تلك المدرسة إلى مدرسة حكومية رخيصة من الدرجة الثالثة. وقد كانت مكانا فقيرا ورديئا، يحاكي المدارس الحكومية الكبرى في اتباع التقاليد الأنجليكانية ولعب الكريكيت ودراسة النصوص اللاتينية، وكان لديها أغنية مدرسية باسم «مباراة الحياة»؛ حيث يصور الرب على أنه الحكم الأكبر. بيد أنها كانت تفتقر إلى الفضيلة الرئيسية للمدارس الحكومية الكبرى؛ وهي أجواء دراسة الأدب. فقد كان الفتيان لا يتعلمون شيئا تقريبا. لم يكن عقاب الضرب بالخيزرانة هناك كافيا لجعلهم يبتلعون الهراء الكئيب في المناهج، ولم يكن المعلمون البؤساء ذوو الأجور القليلة من النوع الذي يتشرب منه الشخص الحكمة لا شعوريا. هكذا غادر فلوري المدرسة جلفا صغيرا همجيا. لكن حتى في ذلك الوقت كان يتمتع بصفات مبشرة، وكان يدرك ذلك؛ صفات قد تؤدي به إلى المتاعب بقدر ما يمكن أن تجنبه إياها. لكنه كبتها بالطبع. فلا يمكن لصبي أن يستهل حياته العملية بلقب مؤخرة القرد دون أن يتعظ.
لم يكن فلوري قد أتم العشرين حين جاء إلى بورما. فقد وجد له والداه، اللذان كانا من خيار الناس وكانا مخلصين له، مكانا في شركة أخشاب. وقد واجها صعوبة شديدة في العثور على وظيفة له ودفعا مبلغا باهظا يفوق قدراتهما؛ وقد كافأهما لاحقا بالرد على خطاباتهما بشخبطات يسطرها دون اكتراث كل عدة أشهر. قضى فلوري الأشهر الستة الأولى له في بورما في رانجون؛ حيث كان من المفترض أن يتعلم الجانب الإداري من عمله. وقد أقام في مسكن للعزاب مع أربعة شباب آخرين كانوا يكرسون طاقاتهم كلها للعربدة، وأي عربدة! فقد كانوا يسرفون في شرب الويسكي الذي كانوا يعافونه في قرارة أنفسهم، ويقفون حول البيانو ليصخبوا بأغان بذيئة وسخيفة لحد الخبل، ويبذرون الروبيات بالمئات على بغايا يهوديات مسنات بوجوه شبيهة بوجوه التماسيح. كانت تلك أيضا فترة تكوينية.
وذهب من رانجون إلى معسكر في الغابة، شمال ماندالاي، لاستخراج أشجار الساج. ولم تكن حياة الغابة سيئة، رغم المشقة والوحدة وما يكاد يكون أسوأ شيء في بورما؛ الطعام الملوث المتكرر. وقد كان صغيرا جدا آنذاك، صغيرا بما يكفي ليكون مغرما بمثل أعلى، وكان لديه أصدقاء من الرجال الذين في شركته. كان كذلك يمارس الرماية والصيد، وقد يذهب في رحلة سريعة إلى رانجون مرة سنويا؛ بحجة الذهاب إلى طبيب الأسنان. ويا لبهجة رحلات رانجون! حيث التهافت على مكتبة سمارت أند موكيردام من أجل الروايات الجديدة الواردة من إنجلترا، وتناول عشاء شرائح اللحم والزبد التي سافرت ثمانية آلاف ميل على الثلج في مطعم أندرسون، وجلسات الشرب الرائعة! كان صغيرا جدا ليدرك ما الذي كانت تعده له هذه الحياة. فلم ير السنوات وهي تتوالى موحشة وفاسدة وبلا أحداث.
تأقلم فلوري مع بورما وصار جسده متآلفا مع إيقاع المواسم المدارية الغريب. في كل عام من فبراير حتى مايو كانت الشمس تتوهج في السماء مثل إله غاضب؛ وفجأة تهب الرياح الموسمية غربا، في صورة عواصف عاتية في البداية، ثم أمطار غزيرة لا تنقطع تصيب كل شيء بالبلل حتى يبدو أن ملابس المرء لا تجف أبدا، ولا فراشه ولا حتى طعامه. بيد أن الجو كان يظل حارا حرارة خانقة معبأ ببخار الماء. وكانت مسارات الغابة السفلى تتحول إلى مستنقعات، وتصير حقول الأرز قفورا ممتلئة بمياه راكدة ذات رائحة آسنة مثل رائحة الفئران. وكان العفن يصيب الكتب والأحذية. ويأتي رجال بورميون عراة بقبعات عرضها ياردة مصنوعة من سعف النخيل ليحرثوا حقول الأرز، وهم يدفعون جاموسهم في مياه تصل حتى الركب. وبعد ذلك، تزرع النساء والأطفال شتلات الأرز الخضراء، فيغرسون كل نبتة في الطين بمذار صغيرة ذات ثلاث أصابع. وتهطل الأمطار لا تكاد تتوقف طوال شهري يوليو وأغسطس. ثم تأتي ليلة يسمع فيها صياح طيور غير مرئية، مرتفعا في الأفق؛ إذ تحلق طيور الشنقب جنوبا من وسط آسيا. وتتضاءل الأمطار حتى تنتهي في أكتوبر؛ فتجف الحقول، وينضج الأرز، ويلعب الأطفال البورميون الحجلة بحبوب الخيزران ويطيرون الطائرات الورقية في الرياح الباردة. تكون تلك بداية الشتاء القصير، حيث تبدو بورما العليا كأن أشباح إنجلترا سكنتها؛ تزدهر الزهور البرية في كل مكان، ليس مثل الزهور الإنجليزية تماما، لكن تشبهها إلى حد كبير؛ أجمة كثيفة من نبات صريمة الجدي، وورد حقلي برائحة حلوى قطرات الكمثرى، بل وزهور بنفسج في مناطق معتمة من الغابة. وتنخفض الشمس في السماء، ويصير البرد قارسا في الليل والصباح الباكر، مع تدفق ضباب أبيض في الوديان كأنه بخار منبعث من غلايات ضخمة. ويذهب الناس إلى صيد البط والشنقب. تتوفر طيور الشنقب بأعداد لا تحصى، وأسراب الإوز البري التي ترتفع من البركة مطلقة هديرا مثل قطار البضائع عند عبوره جسرا حديديا. ويبدو الأرز الناضج شبيها بالقمح، وقد بلغ مستوى الصدر وصار أصفر اللون. ويذهب البورميون إلى أعمالهم وقد غطوا رءوسهم وعقدوا أذرعهم فوق صدورهم، بوجوه صفراء قرصها البرد. في الصباح يسير المرء وسط خلاء أربد غير منسجم، وفسحات ابتلت حشائشها الشبيهة بالحشائش الإنجليزية، وأشجار جرداء جثمت القردة على فروعها العليا في انتظار الشمس. وفي المساء عند العودة إلى المعسكر عن طريق الممرات الباردة، تقابلك قطعان الجاموس والصبية يسوقونها إلى المنزل، وقرونها الضخمة تلوح في الضباب كأنها أهلة. كان الشخص يحصل على ثلاثة أغطية في فراشه، وفطائر من لحوم طيور الصيد بدلا من الدجاج الخالد. وبعد العشاء يكون الجلوس على جذع شجرة قرب نار المعسكر الهائلة، واحتساء الجعة، والحديث حول الصيد، بينما تتراقص ألسنة اللهب مثل نبات البهشية الأحمر، ملقية دائرة من الضوء على الطرف الذي قرفص عليه الخدم والعمال، يتملكهم حياء شديد من التطفل على الرجال البيض، لكنهم يتقربون إلى النار مثل الكلاب رغم ذلك. وعند الخلود للفراش كان بإمكان الشخص سماع تساقط الندى من الأشجار كأنه قطرات كبيرة من الأمطار لكنها رقيقة. كانت حياة طيبة والمرء شابا ولا حاجة به للتفكير في المستقبل أو الماضي.
كان فلوري في الرابعة والعشرين، وعلى وشك الذهاب إلى الوطن في إجازة، حين اندلعت الحرب. تهرب فلوري من الخدمة العسكرية، وهو ما كان أمرا سهلا ويبدو طبيعيا في ذلك الوقت. فقد كان المدنيون في بورما يعتنقون نظرية مطمئنة تفيد بأن «الالتزام بالوظيفة» هو أصدق أشكال الوطنية؛ حتى إنه كان ثمة عداء مستتر تجاه الرجال الذين تخلوا عن وظائفهم للالتحاق بالجيش. لكن الحقيقة هي أن فلوري تهرب من الحرب لأن الشرق كان قد أفسده بالفعل، ولم يرد أن يستبدل بالويسكي وخدمه وفتياته البورميات ضجر ساحة التدريب وإنهاك المسيرات القاسية. انقضت الحرب، مثل عاصفة وراء الأفق. أما البلد الحار الفوضوي، البعيد عن الخطر، فقد لفه شعور الوحيد المنسي. وأقبل فلوري على القراءة بنهم، وتعلم أن يعيش في الكتب حين تصير الحياة مضجرة؛ فقد صار راشدا، وفقد الاهتمام بالمتع الصبيانية، وتعلم أن يفكر لنفسه، تفكيرا يكاد يكون عشوائيا.
احتفل فلوري بعيد ميلاده السابع والعشرين في المستشفى وقد غطاه من رأسه لأخمص قدميه قرح بشعة تسمى قرح الوحل، لكنها كانت ناتجة غالبا عن الويسكي والطعام السيئ. وقد تركت في جلده ندبات صغيرة لم تختف قبل عامين. وعلى نحو مفاجئ تماما بدأ يشعر ويبدو عليه أن العمر قد تقدم كثيرا به. فقد انتهى شبابه؛ وتركت ثمانية أعوام من الحياة الشرقية والحمى والوحدة والشراب المتقطع بصمتها عليه.
অজানা পৃষ্ঠা