جثمت على الأرض وراحت تئن طلبا للسماح. وقد أوجعه أن يسمع أنينها «تعالي يا فتاتي العزيزة! يا عزيزتي فلو! لن يؤذيك سيدك. فلتأتي.» زحفت إلى قدميه ببطء شديد، متمددة على بطنها، وهي تبكي، ورأسها محني كأنها خائفة من النظر إليه. حين صارت على بعد ياردة منه أطلق النار، فتفجرت جمجمتها أشلاء.
بدا دماغها مثل المخمل الأحمر. هل هكذا سيبدو هو؟ فليكن القلب إذن، وليس الرأس. وصله صوت الخدم وهم يركضون خارجين من حجراتهم ويصيحون؛ لا بد أنهم قد سمعوا صوت الطلقة. هنا شق معطفه سريعا وسدد فوهة المسدس إلى قميصه. على امتداد حافة المنضدة كانت سحلية صغيرة، شفافة كأنها مخلوق جيلاتيني، تلاحق فراشة بيضاء. سحب فلوري الزناد بإبهامه.
حين اندفع كو سلا إلى الغرفة، لم ير من أول وهلة سوى جثة الكلبة. ثم رأى قدمي سيده، بالكعبين لفوق، بارزتين من وراء الفراش. فهتف بالآخرين لإبعاد الأطفال خارج الغرفة، فتراجعوا جميعا عن المدخل وهم يطلقون الصيحات. خر كو سلا على ركبتيه خلف جثة فلوري، في نفس اللحظة التي أتى فيها با بي مهرولا من الشرفة. «هل أطلق النار على نفسه؟» «أعتقد ذلك. اقلبه على ظهره. مهلا، انظر! فلتركض إلى الطبيب الهندي! اجر بأقصى سرعة!»
كان في قميص فلوري ثقب دقيق، لا يزيد عن الثقب الناتج عن مرور قلم رصاص في فرخ من الورق النشاف. كان واضحا تماما أنه جثة هامدة. تمكن كو سلا بصعوبة بالغة أن يجره إلى الفراش، فقد رفض الخدم الآخرون أن يلمسوا الجثة. وبعد عشرين دقيقة ليس إلا حضر الطبيب. كان قد تلقى خبرا مبهما بأن فلوري مصاب، فقاد دراجته صاعدا التل بأقصى سرعة رغم هبوب ريح ممطرة. ثم ألقى دراجته في حوض الزهور وأسرع بالدخول من خلال الشرفة. كان مقطوع النفس، غير قادر على الرؤية بنظارته. فخلعها، وحدق حاسر البصر في الفراش. قال مهتاجا: «ما الأمر يا صديقي؟ أين أصبت؟» ثم دنا أكثر، ورأى ما على الفراش، فأطلق صوتا مبحوحا. «آه، ما هذا؟ ماذا ألم به؟»
خر الطبيب على ركبتيه، ومزق قميص فلوري ووضع أذنه على صدره. ارتسم على وجهه الألم، وقبض على منكبي الرجل الميت وأخذ يهزه كأن الشدة وحدها تستطيع أن تعيده للحياة. سقطت إحدى ذراعيه بارتخاء على حافة الفراش. رفعها الطبيب مرة أخرى، ثم انفجر في البكاء فجأة، آخذا اليد الميتة بين يديه. كان كو سلا واقفا عند نهاية الفراش، وقد امتلأ وجهه الأسمر بالتجاعيد. نهض الطبيب، ثم فقد السيطرة على نفسه لوهلة، فاستند إلى عمود الفراش وبكى بكاء صاخبا بشعا، موليا كو سلا ظهره، وكتفاه السمينتان ترتجفان. وبعد قليل تمالك نفسه واستدار مرة أخرى. «كيف حدث هذا؟» «لقد سمعنا طلقتين. لقد أطلقهما بنفسه، هذا أكيد. لكنني لا أعلم لماذا.» «كيف عرفت أنه فعل ذلك عمدا؟ كيف عرفت أنها لم تكن حادثة؟»
على سبيل الإجابة، أشار كو سلا صامتا إلى جثة فلو. استغرق الطبيب في التفكير للحظة، ثم لف الرجل المحتضر في الملاءة وعقدها عند القدمين والرأس، بيدين خفيفتين متمرستين. مع وفاته، انطمست الوحمة في الحال، حتى إنها لم تبد سوى بقعة رمادية باهتة. «ادفن الكلبة على الفور. وأنا سأخبر السيد ماكجريجور أنها كانت حادثة بينما كان ينظف مسدسه. تأكد من دفن الكلبة. كان سيدك صديقي. لن أرضى أن يكتب على شاهد قبره أنه مات منتحرا.»
الفصل الخامس والعشرون
من حسن الحظ أن القس كان في كياوكتادا، فأمكنه، قبل اللحاق بالقطار في مساء اليوم التالي، أن يتلو مراسيم الجنازة حسب الأصول، بل أن يلقي خطبة قصيرة أيضا حول محاسن المتوفى. يصير كل الرجال الإنجليز صالحين حين يموتون. «الوفاة في حادث» كان هو الحكم الرسمي (فقد أثبت الدكتور فيراسوامي بكل مهاراته الطبية القانونية أن الملابسات تشير إلى حادث) وقد روعي نقش هذا على شاهد قبره. لكن لم يعن هذا أن أحدا صدق بالطبع. فقد كانت المرثية الحقيقية لفلوري هي التعليق، الذي تردد في حالات نادرة - فالرجل الإنجليزي الذي يموت في بورما سريعا ما ينسى - «فلوري؟ آه، كان رجلا ذا شعر أسود، وكانت لديه وحمة. لقد أطلق النار على نفسه في كياوكتادا عام 1926. قال الناس إنه من أجل فتاة. يا له من أحمق مسكين!» باستثناء إليزابيث، ربما لم يندهش أي أحد كثيرا لما حدث. فإن عدد حالات الانتحار بين الأوروبيين في بورما كبير إلى حد ما، ولا ينشأ عنها قدر كبير من الدهشة.
ترتب على وفاة فلوري نتائج كثيرة. أولها وأهمها أن الدكتور فيراسوامي قد قضي عليه، بل وعلى النحو الذي كان قد تنبأ به. فالشرف الذي تمتع به لكونه صديق رجل أبيض - الشيء الوحيد الذي أنقذه من قبل - تبدد. لم تكن علاقة فلوري بالأوروبيين جيدة قط، هذا صحيح؛ لكنه كان رجلا أبيض على كل حال، وكانت صداقته تمنح وجاهة ما. وبمجرد وفاته، صار سقوط الطبيب يقينا. انتظر يو بو كين المهلة اللازمة، ثم شن هجومه مرة أخرى، أشد من كل مرة. لم تمر ثلاثة أشهر إلا وكان زرع في رأس كل أوروبي في كياوكتادا أن الطبيب كان مجرما عتيدا. لم يوجه له اتهام رسمي مطلقا؛ كان يو بو كين شديد الحرص في هذا الشأن. إليس نفسه كان سيحتار أي رذيلة يرميه بها تحديدا؛ لكن ظل من المتفق عليه أنه كان وغدا. رويدا رويدا، تبلور الشك العام فيه في عبارة بورمية واحدة: «شوك دي.» كان يقال إن فيراسوامي رجل ضئيل ماهر فعلا؛ فهو طبيب بارع بالنسبة إلى كونه من أهل البلد، لكنه كان «شوك دي». المعنى التقريبي لعبارة «شوك دي» هو غير جدير بالثقة، وحين يصير مسئول «من أهل البلد» معروفا بأنه «شوك دي»، تكون نهايته.
وصل الهمز واللمز إلى شخصيات ما في المناصب العليا، فتراجع الطبيب إلى منصب مساعد جراح ونقل إلى مستشفى ماندالاي العام. ولا يزال هناك، ومن المرجح أن يظل كذلك. وماندالاي هي بلدة بغيضة بعض الشيء؛ فهي مغبرة وحرها لا يطاق، ويقال إن لديها خمسة أشياء رئيسية تتسم بها وهي المعابد والكلاب الضالة والخنازير والقساوسة والمومسات، كما كانت الأعمال الروتينية في المستشفى مضجرة. وقد أقام الطبيب خارج حرم المستشفى في كوخ أشبه بفرن صغير بسياج حديدي مضلع حول حدوده الصغيرة، وكان في المساء يعمل في عيادة خاصة لتعويض راتبه المنخفض. والتحق بنادي درجة ثانية يرتاده محامون هنود. كانت مفخرته الرئيسية عضو أوروبي وحيد؛ كهربائي من جلاسجو يدعى ماكدوجال، رفت من شركة «إيراوادي» لسكره، ويكسب الآن رزقا غير مستقر من العمل في ورشة. كان ماكدوجال شخصا أخرق بليدا، لا يهتم إلا بالويسكي والمولدات المغناطيسية. لكن الطبيب لم يكن ليصدق أبدا أن ثمة رجلا أبيض أحمق، فكان يحاول كل ليلة تقريبا أن يشركه فيما لا يزال يسميه «حديثا راقيا»: لكن النتائج كانت غير مرضية بالمرة.
অজানা পৃষ্ঠা