هب أن الفضيلة في الإبادة، وأن الأقوى من الإنسان أولى بالوجود من سواه، فما بالكم تصطفون أقوى الرجال للهلاك، من الجنود المدربين، والقواد الماهرين؟ لقد أخطأتم والله المرمى، وكيف تقتلون القواد، وتعزلون الأمراء، من الأمم التي تقاتلونها، وتخلفونهم على أممهم؟ فهلا عشتم بسلام، وراقبتم الحكمة الناموسية، فإنها سترسل على الأرض جنودها، وتستهلك بالوباء والأمراض ما لا يصلح للوجود، فأما أنتم فإن نظامكم قضى بقتل الأقوياء في القتال، وبقاء الضعفاء مع ربات الحجال، فما أجهل الإنسان! ألم تروا الحيوان! أما قرأتم صحيفة الأكوان!
جهلتم والله أقبح جهل، ساء مثلا ما كنتم تفعلون، لكل أمة من أمم النمل وأمم النحل وأمم كلاب البحر وأمم الغربان وغيرها قواد وأمراء من أنفسهن، ولم يدع الناموس العام هذه الأمم بلا رئيس يقوم عليها، وحافظ يتولى شئونها، الوجود محكم، وما ظالم إلا الآدميون.
يدعي الأغبياء منكم أن أمة كذا لا تصلح لحكم نفسها، وقد شاهدوا النحل والزنابير في الخرابات التي خربوها قائمة بنظام جمهوري.
فقلت له: إن الحكمة التي ألهمت النحل والنمل أن تعيش جماعات، هي التي أوحت إلى عقلاء الأمم فساقتهم إلى احتلال بلاد الضعفاء. فقال: أف لكم! وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، أنتم عكستم القضية، إن الحياة بين الإنسان خاصة مشتركة فوق سطح الكرة الأرضية، فوجب أن تتحاب الأمم الشرقية والغربية ويكون لهم ناموس عام وقانون واحد وصحبة عامة، ذلك هو الذي أوجبته الحكمة، ولو احتاج نوع من الحيوان لذلك النظام، ما تأخرت جماعاتها عن الاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنكم اليوم حرمتم نعمة حياة الحيوان، ولم ترتقوا إلى غرفات سعادة الإنسان، فأنتم كالمتدين الذي خرج عن التقليد، وحرم فضيلة الحكمة، فأضحى حائرا، فلا هو من العامة المقلدين، ولا هو من الحكماء المحققين، فهكذا أنتم اليوم، فلا بقيتم مع الحيوان في راحة، ولا ارتقيتم إلى مراتب الإنسان وسعادته، فأنتم اليوم عن المعالي مبعدون، وفي عذاب جهنم الخزي والعداوة جاثمون، صم، بكم، عمي فهم لا يتقدمون ولا يرجعون.
حياة العصفور بجسم الجرادة، وجسم العصفور حياة الباشق، وليس في قتل الإنسان حياتك، أنت تحيا بصناعة وتجارة وعلم وحكمة، وما من أمة من أمم الإنسان إلا وهي متعلمة عما قبلها معلمة لما بعدها، فإذا أكل الحيوان جسم الحيوان، فللإنسان بعد موت أخيه أن يرث علمه وحكمته، ويقرأ قضايا التشريح في داخل جسمه، فللإنسان عن أخيه المائت حكمته وعلمه، وللحيوان جسمه.
وما مثل الأمة الفاتكة بغيرها إلا كمثل رجل يملك ثورا به يحرث الأرض، ويسقي الزرع، فأغراه طمعه، ودفعه جشعه، وأوحى إليه جهله، أن يعجل بالفائدة المرغوبة جزافا دفعة واحدة، فذبحه وأكله هو وأولاده، ففرح يومين، وحزن عامين.
إن أممكم اليوم قصيرو النظر، لا يعلمون العواقب، وإني ما رأيت جنسا في العالم الكوكبي أسوأ سيرة منكم، ولا أقل فضيلة، لا تنظرون للعواقب، ولا تدخرون الأخ للنوائب، وذلك لنقص تعليمكم في المدارس، وتحريفكم كلم النواميس الطبيعية عن مواضعها، ومغادرتكم فطرتكم العالية، وانخفاضكم إلى أسفل الدركات وأدنى الدرجات، ألا ساء مثلا الإنسان الأرضي، ألا إنهم هم الغافلون.
أولا تعلمون أن الإنسان كلما كثرت أفراده زادت ثمراته، على نسبة الأعداد المضاعفة التصاعدية المسماة «المتوالية الهندسية المتصاعدة». فكلما زاد العدد كثر المدد، وبتكاثر الأمم تتكاثر الخيرات، ولو أن أمة أبادت أمة أو أوقفت علمها وأضعفت حركتها فإنها تقطع من جسم الإنسانية العام شريانا نابضا، أو عضوا عاملا، فتبطئ الإنسانية قرونا، حتى تلد لكم بدلها فتعيشون ناقصين، فربما نشأ فيها من العقول والآراء والصناعات ما تعم بركاته الكرة كلها.
ومن عجب أن أممكم لا يدركون بعقولهم أن اهتضام أمة منهم لأمة أخرى نقص لمجموعهم، وقلة في ثمراتهم وسوء في أخلاقهم، وقدوة لشبانهم، وحزن لشيوخهم، وعقلائهم وحكمائهم.
فإذا سطا الحيوان على الحيوان فأكله فقد علمت حكمته ونظامه، ولا ترى حيوانا آخر يساعده، إذ لا حكمة في ذلك، ولا نظام يقتضيه، والإنسان يرى أخاه واقعا في التهلكة، فلا يعينه إلا لشهوة يملؤها أو جوعة يسدها.
অজানা পৃষ্ঠা