وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس. وتشددوا في الدين، فتركوا الغزو ولم تبق مكسبة سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، وإلى النجاشي بالحبشة. وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارا خلطاء. وبانوا بالديانة والتحمس، فحمسوا بني عامر ابن صعصعة. وحمسوا الحارث بن كعب، فكانوا- وإن كانوا حمسا- لا يتركون الغزو والسبي ووطء النساء، وأخذ الأموال، فكانت نجدتهم- وإن كان أنقص- فإنها على حال النجدة، ولهم في ذلك بقية.
وتركت قريش الغزو بتة. فكانوا- مع طول ترك الغزو- إذا غزوا كالأسود على براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النافذة.
أفليس من العجب أن تبقى نجدتهم، وتثبت بسالتهم، ثم يعلون الأنجاد والأجواد، ويفرعون الشجعان؟! وهاتان الأعجوبتان بينتان.
وقد علم أن سبب استفاضة النجدة في جميع أصناف الخوارج وتقدمهم في ذلك، إنما هو بسبب الديانة! لأنا نجد عبيدهم ومواليهم ونساءهم، يقاتلون مثل قتالهم، ونجد السجستاني وهو عجمي، ونجد اليمامي والبحراني والخوزي [وهم غير] عرب، ونجد إباضية عمان وهي بلاد عرب، وإباضية تاهرت وهي بلاد عجم، كلهم في القتال والنجدة، وثبات العزيمة، والشدة في البأس سواء. فاستوت حالاتهم في النجدة مع اختلاف أنسابهم وبلدانهم. أفما في هذا دليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال، وضروب كثيرة من هذا الفن؟!
وذلك كله مصور في كتبي، والحمد لله.
وقد تجدون عموم السخف والجهل والكذب في المواعيد، والغش في الصناعة، في الحاكة، فدل استواء حالاتهم في ذلك على استواء عللهم. ليست هناك علة إلا الصناعة؛ لأن الحاكة في كل بلد شيء واحد. وكذلك النخاس وصاحب الخلقان، وبياع السمك. وكذلك الملاحون وأصحاب السماد، أولهم كآخرهم، وكهولهم كشبانهم، ولكن قل في استواء الحجامين في حب النبيذ!
পৃষ্ঠা ১১১