আমার পাতা … আমার জীবন (প্রথম পর্ব)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
জনগুলি
توقف عن الكلام حين سمعنا الصوت ينبعث في الميكرفون يقول: اربطوا الأحزمة ستهبط الطائرة في مطار لندن، هيثرو. - أنا أعيش في لندن منذ ثلاثين عاما، زوجتي إنجليزية وهي أستاذة في الجامعة تدرس الفيزياء، شعرها أبيض مثلك وهي في جنيف الآن تحضر مؤتمرا نسائيا، إنها فيمينيست من الموجة الأولى، وهي تحب النساء أيضا، حب بريء، وليس مثل ابنتنا الصغرى في لوس أنجلوس، ثم ضحك، وسألني، هل أنت فيمينست؟! - هذه كلمة إنجليزية، وفي لغتنا العربية نستخدم كلمات مختلفة، وإن كان المعنى هو تحرير النساء، بالطبع أنا مع تحرير النساء وتحرير الرجال أيضا؛ فالمشكلة تتعلق بالنظام الأبوي منذ نشوء العبودية وحتى اليوم.
هبطنا من الطائرة، كانت الساعة في لندن السابعة صباحا، أخرجت ساعتي الصغيرة من حقيبة يدي، كانت لا تزال حسب التوقيت في «ديرهم» متأخرة عن لندن سبع ساعات. حركت الوقت إلى الأمام بإصبعين اثنين سبع دورات، رأسي يدور دائما في تلك اللحظة حين أهبط من الطائرة وأحرك الوقت إلى الوراء أو إلى الأمام، يبدو الوقت لعبة أو أكذوبة دولية أو كونية مثل قرارات الأمم المتحدة. أترنح قليلا في مشيتي مع الدوران في رأسي أو في الأرض تحت قدمي، ربما بسبب الساعات الطويلة في الجو داخل الطائرة النفاثة، لكن ما هي إلا لحظة ويعود رأسي ثابتا في مكانه، والأرض ثابتة تحت قدمي. أدب بقوة على بلاط الممر اللامع الذي يشبه الرخام الأبيض، كعب حذائي مربع متين يشبه كعوب أحذية الرجال، لا ألبس الكعب الأنثوي الرفيع العالي، خطواتي واسعة سريعة، في يدي حقيبة جلدية صغيرة، وهو يمشي إلى جواري بالخطوة الواسعة السريعة، جسمه ممشوق وشعره أبيض غزير، عيناه يكسوهما بريق طفولي، يتلفت حوله في دهشة كأنما يرى مطار هيثرو للمرة الأولى، توقف أمام بوتيك صغير يبيع البطاقات والهدايا التذكارية. - ما رأيك بأن أشتري لك هدية صغيرة من لندن؟ - أشكرك، ليس عندي وقت. - متى تقلع طائرتك إلى القاهرة؟ - الساعة الرابعة مساء. - أوهوه! الساعة الآن السابعة صباحا، أمامك أكثر من ثماني ساعات انتظار، أنا لا أطيق الانتظار في المطارات، وأنت؟ - أنا لا أطيق الانتظار أيضا، لكن معي رواية جديدة كنت أنوي قراءتها في الطائرة. - ضيعت وقتك في الكلام؟! - أبدا، لقد استمتعت بالحديث معك. - فاتت سبع ساعات مثل سبع دقائق، لم أشعر بالوقت. - الوقت أكذوبة كونية مثل قرارات مجلس الأمن.
أطلق ضحكة طفولية، مددت يدي لأودعه لكنه تراجع خطوة إلى الوراء وقال: ولماذا تودعيني الآن وأمامك ثماني ساعات؟! ما رأيك في فنجان قهوة كابيتشينو وقطعة كرواسان؟ لا أحد ينتظرني في البيت وليس عندي عمل بعد الاستقالة، ويمكن أن أبقى معك قليلا إن شئت.
دخلنا إلى الكافيتيريا، نكهة القهوة تملأني بالانتعاش، أتشمم النكهة، أملأ بها صدري في شهيق عميق، ألامس بطرق لساني رغوة اللبن المغلي الممزوج بالبن، يحترق طرف اللسان من شدة السخونة، مع ذلك لا أغتاظ ولا أتوقف عن تكرار ارتشاف السطح الملتهب، كما كنت أفعل في طفولتي، أرشف الشاي واللبن المغلي، يتصاعد البخار إلى أنفي، أتلقاه فوق وجهي، تمتصه مسام بشرتي، أضم قطعة الكرواسان كأنما هي الفطيرة التي كانت أمي تخرجها من الفرن، وهو يرمقني بعينين يكسوهما البريق، كأنما رأيت هذا البريق وهاتين العينين في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئا، كأنما أنا أجلس في هذه الكافيتريا في مطار هيثرو منذ زمن بعيد، منذ وعيت الحياة وأصبح عندي ما يسمى الوعي، كأنما سأبقى جالسة هكذا في مكاني إلى آخر الزمن، حتى يتسرب مني الوعي وأموت.
بعد لحظة واحدة أفيق إلى أنني أجلس إلى رجل غريب، تصادف أن جلس إلى جواري في الطائرة من نيويورك إلى لندن، إنني أجلس معه في الكافيتيريا داخل صالة الترانزيت، أقرأ كلمة «الترانزيت » باللغة الإنجليزية، أعرف أنها تعني الانتظار المؤقت الذي سوف ينتهي عاجلا بعد دقائق أو ساعات قليلة. - أنت شاردة تماما، فيم تفكرين؟! - هذه الحياة غريبة جدا، تصور أن ... - نعم أتصور أن الصدفة أغرب من الخيال. - عندنا مثل عربي يقول: رب صدفة خير من ألف ميعاد. - هي تبدو لنا صدفة، لكنها ليست صدفة، وقد ركبت آلاف الطائرات وجلس إلى جواري آلاف الرجال والنساء ... ومع ذلك لم أتبادل كلمة واحدة مع أي منهم، إنها ليست صدفة يا ... فجأة توقف عن الحديث، اتسعت عيناه بدهشة، تصوري لم أعرف اسمك حتى الآن! أنت عرفت اسمي من الجارديان، لكن أصدقائي ينادونني باسم «بيل». - اسمي نوال يا بيل. - نافال؟! - نوال، بالواو. - ناوال. - لا توجد ألف بعد النون، نوال. - نوال؟ - أيوه هذا صح! - يا له من اسم عجيب، نوال!
أصبح ينطق الاسم على نحو صحيح، لم تكن كلمة «نوال» سهلة النطق لمن لا يتكلمون اللغة العربية، أغلب أصدقائي الأجانب وصديقاتي ينطقون اسمي «نافال» أو ناوال، دائما بالألف بعد النون، لكنه أصبح يناديني نوال كأنما يعرف اللغة العربية. - هل تعرف بعض كلمات عربية يا بيل؟ - كلمات قليلة جدا مثل شوكرن. - شكرا وليس شوكرن. - شوكرا. - شكرا، بدون الواو بعد الشين. - شكرا. - أيوه هذا صح. - شكرا نوال. - الاسم يأتي أولا، نقول: نوال، شكرا، وليس شكرا نوال. - نوال، شكرا.
أطلق ضحكته الطفولية المعدية، ضحكت وأنا أعلمه النطق الصحيح، وهو ينطق الحروف بدقة كأنما سيتكلم اللغة العربية حتى الموت، وأنا أضحك كما كنت أضحك في المدرسة الابتدائية في منوف. - سأقول لك سرا يا نوال، لو قلت تعال معي إلى القاهرة سأشتري تذكرة وأركب معك الطائرة الساعة الرابعة، لكني أعرف أنك لن تقولي هذا؛ لأنك إنسانة عاقلة، وأنا أيضا عاقل ... لكن هذا العقل جعلني سجين الوظيفة ثلاثين عاما، هذا العقل قضى على سعادتي في الحياة، ولقد جاءتني بعض الفرص القليلة لأخرج من السجن لكني كنت أخاف، منذ عشرة أعوام تقريبا، قابلت إنسانة مثلك في مؤتمر الأمم المتحدة في جنيف عام 1986، كدت أترك كل شيء وأسافر معها إلى ريو دي جانيرو، لكني تراجعت وعدت إلى السجن، مثل المحكوم عليه بقرار مؤبد من قوة عليا مجهولة. - ربما هي مارجريت تاتشر. أطلق ضحكة ثم واصل الحديث: تقريبا كل عشر سنوات ألتقي بهذا النوع من الناس، نساء أو رجالا، هذا النوع من الصداقة النادرة التي لا تعرف الفروق المصنوعة بين البشر، لا الجنس ولا الجنسية ولا اللون ولا العرق ولا اسم العائلة، فقط الاسم الأول: نوال.
حين نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة والنصف، مضت ست ساعات ونصف ونحن نتكلم دون أن نشعر، كانت الكافيتيريا قد ازدحمت بالمسافرين، ناس يجيئون يجرون حقائبهم ثم يروحون، ويأتي غيرهم بحقائبهم ثم يمضون في حياتهم دون أن يتركوا وراءهم أثرا. أتأمل وجوه المسافرين، رجالا ونساء وأطفالا، كأنما رأيت هذه الوجوه من قبل في كل المطارات، وهذه الحقائب يجرونها فوق العجلات، وهذه الفتاة الجرسونة التي تحمل الصينية فوقها الصحون والأكواب وتجري بين الموائد، وصوت الملاعق، وفرقعات سدادات الزجاجات، وصوت الثلج داخل الكئوس، ورائحة الشواء والطواجن الخارجة من الفرن. - لا بد أنك جائعة وقد أتى موعد الغداء، أنا شخصيا أشعر بجوع غريب، ماذا تشربين قبل الغداء، جين تونيك؟!
حكيت له عن صديقتي بطة وأول مرة أسمع كلمة الجين تونيك منذ سبعة وثلاثين عاما في عيادتي الطبية، بميدان الجيزة عام 1959، بعد وفاة أبي. - أنت طبيبة يا نوال؟ - نعم، ولكني كرهت المهنة، أغلقت عيادتي منذ سنين طويلة. - وماذا تعملين الآن؟ - أكتب روايات وقصصا! - فانتاستيك! أنت مجنونة يا نوال، وأنا أحب هذا الجنون، أنجذب إليه لأني أفتقده، لقد فقدت جنوني ثلاثين عاما داخل السجن، أصبحت موظفا بالأمم المتحدة أشارك في مهنة السياسة الدولية دون أن أومن بها، وأخيرا بعد ثلاثين سنة أحرر نفسي، لكن بعد فوات الأوان يا نوال، كان حلم حياتي أن أكون موسيقيا مثل شوبان أو موتسارت. - ليس هناك شيء اسمه فوات الأوان، أنت لا زلت في ريعان الشباب يا بيل. - لكني أرى نفسي في المرآة كهلا عجوزا. - المرآة خادعة وكاذبة مثل قرارات الأمم المتحدة! ضحكنا ونحن نرشف الجين تونيك، ثم طلبنا زجاجة النبيذ الأحمر، مع السمك المشوي وطاجن أرز في الفرن، وسلاطة خضراء من الخيار والطماطم والخس.
ثم سمعنا الصوت يعلن في الميكرفون عن توجه المسافرين للقاهرة إلى باب الخروج رقم أربعة، سار معي حتى باب الخروج، توقف لحظة يصافحني، تظاهرت أنني لا أرى عينيه، ابتسمت وأنا أشد على يده وأقول: سنلتقي مرة أخرى يا بيل. - هذا أكيد يا نوال، سأكتب إليك، ومن يدري ربما ترينني في القاهرة قريبا جدا. •••
অজানা পৃষ্ঠা