আমার পাতা … আমার জীবন (প্রথম পর্ব)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
জনগুলি
بعد الغروب في القرية تهبط الظلمة، أخرج لأتمشى على جسر النيل، أشهد قرص الشمس ينحدر في الأفق البعيد، تنعكس صورته في الماء، تتلون السماء، تتجسد السحب بأشكال لا حدود لها، وألوان بلا نهاية، تتغير وتذوب حتى آخر قطرة، يهبط الظلام كالعباءة السوداء تخفي القرية.
أحيانا أرتدي المعطف الأبيض وأمر على البيوت مع الممرضات والحكيمة زينات، نجلس مع الرجال على المصاطب، أو مع النسوة في مدخل الدار، إذا أردت التنكر أرتدي جلابيب الفلاحات، أربط رأسي بمنديل أسود من حوله الطرحة السوداء، أمشي في الأزقة لا يتعرف علي أحد، يواصل الرجال أحاديثهم فوق المصاطب دون أن يقطعوا الحديث أو ينهضوا وقوفا هاتفين: «يا ألف مرحب بالضكطورة، اتفضلي، الدنيا نورت، هات الشاي يا ولد، حصلت لنا البركة.» كنت أحب هذه الجولات الحرة، أملك الطريق، لا يستوقفني أحد، لا يعرفني أحد، أمشي كما يحلو لي المشي، بلا اسم، يداي فارغتان أفتحهما، ذراعان أفردهما عن آخرهما، أعانق بهما جسمي والكون، لحظات الحرية والسعادة، أنسى من أنا وماذا أكون، وأتذكر كل شيء، فأعرف من أنا وماذا اكون، كأنما الذاكرة كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
المدرسة في الوحدة كان لها ناظر اسمه الأستاذ عبد المنعم، أشيب الشعر قصير القامة، يرتدي بدلة إفرنجية وطربوشا، في أيام الإجازات يرتدي الجلباب، فوقه العباءة في الشتاء وكوفية رمادية، يتحدث عن أبي باحترام وإجلال: السيد بيه السعداوي راجل عظيم لو كان فيه عشرة زيه في البلد كان التعليم انصلح.
الاختصاصي الاجتماعي حسب اللائحة كان المسئول الإداري عن الوحدة، اسمه الأستاذ خير الله، له صلعة كبيرة يحوطها شعر أسود خشن على شكل دائرة فوق منتصف رأسه، بشرته تميل إلى الشحوب أو الصفرة، له أنف كبير مقوس، شاربه أسود يمتد فوق شفته العليا، يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، كرجال المباحث السرية.
لم تكن الصحف والمجلات تصل إلا بالبريد، متأخرة شهرا أو شهرين، لا أعرف ماذا يدور في العالم إلا راديو صغير بالبطاريات، تقول عنه أم إبراهيم «الراديون» تذكرني بستي الحاجة حين تقول: افتحي الراديون يا ضكطورة عاوزة أسمع أم كلثوم، كانت مثل ستي الحاجة تحب أغنية: مدام تحب بتنكر ليه ده اللي يحب يبان في عينيه.
سألتها كما سألت جدتي وأنا طفلة: هل عرفت الحب؟ رمقتني بعينيها السوداوين الغائرتين تحت جبهة عريضة سمراء حرقتها الشمس: «أيوه يا ضكطورة حبيت زي كل الناس.» كانت واقفة عند باب الشرفة تحمل طفلتي بين ذراعيها، تهدهدها، صوتها المرح يغني مع أم كلثوم، طويلة فارعة القوام مملوءة بالشباب، ذراعاها قويتان ترفعان الطفلة حتى السماء دون عناء، جلبابها الطويل من الكستور المشجر ينسدل فوق جسمها الممشوق حتى القدمين. - حبيتي مين يا دادة أم إبراهيم؟ - حبيت ربنا سبحانه وتعالى وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب وستنا مريم العدرا. - قصدي الحب التاني يا أم إبراهيم. - الحب التاني أنهوه يا ضكطورة؟ - اللي بتغني له أم كلثوم.
توقف جسمها عن الحركة فجأة، عيناها كستهما سحابة، تجاعيد ظهرت فوق جبهتها العريضة، تقلصت الابتسامة فوق شفتيها، شدت منديلها حول رأسها، عقدته ثلاث عقدات عند منتصف الجبين، بدت في الخمسين مع أنها لا تزال في الثلاثين أو الأربعين. - وراني المر يا ضكطورة خمسة وعشرين سنة، خلفت منه الولدين والبنتين، لولا ربنا أخده كنت ضربته بالفاس وخلصت منه. - وراكي المر إزاي يا أم إبراهيم؟ - «كان يضربني كل ليلة، لا يمكن تفوت ليلة من غير ما يضربني بفلقة الحمارة، من غير سبب والله يا ضكطورة، أصل الضرب ده عادة في بلدنا من ليلة الدخلة لازم العريس يضرب عروسته عشان تعرف إن الله فوق وجوزها تحت، وراني المر يا ضكطورة من أول ليلة لآخر ليلة خمسة وعشرين سنة، كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، بزازي ما طلعوش، والعادة ما جاتنيش، ويا لا هوب مسكوني وجوزوني أبو إبراهيم، وهربت منهم في الجرن، لكن الولية الداية الآرحة مسكتني هي وأمي وخالتي وعمتي، وكتفوني زي الفرخة، وخبوا راسي بالبشكير عشان أبو إبراهيم ياخد وشي، نزف الدم يا ضكطورة وكنت هاموت وبدل الجوازة تبقى جنازة.»
صوتها يذكرني بالمرحومة جدتي، كنت طفلة أجلس إلى جوارها في صحن الدار وهي تنقي الغلة، اليوم أنا الطبيبة في القرية، لا تزال هذه العادة موجودة، ليلة الزفاف تفض بكارة العروس بإصبع الداية أو العريس، يشق بظفره المدبب غشاء البكارة، يتلقى الدم الأحمر فوق البشكير الأبيض، يرفعه عاليا لتراه العيون المجتمعة في الحفل، تنطلق الزغاريد من حلوق النساء، يرفع والد العروس رأسه في زهو، لم يعد له زهو في حياته المرة إلا دم ابنته العذراء، إن لم ينزف الغشاء ليلة الزفاف يضيع شرف الرجل، لا يسترد شرفه إلا بإراقة دم ابنته، منذ نشوء الزواج في التاريخ أصبح لدم المرأة دور ثلاثي تجاه شرف الرجل: (1) إثباته (2) إنكاره (3) استرداده. ليس للرجل دور فيما يخص شرفه، الرجل لا يعيبه إلا جيبه، إذا امتلأ جيبه بالفلوس أصبح شريفا، لا يتعلق شرف الرجل بسلوكه بل بسلوك بناته ونسائه: «يا أم إبراهيم لازم العادات دي تتغير.» - «يا ريت يا ضكطورة يا ما بنات نزفوا الدم ليلة الدخلة وبنت عمي ماتت موت، دفنوها ليلة فرحها، كله من الدايات يا ضكطورة.»
الدايات؟ رنت في أذني الكلمة، أضاءت نقطة ضوء، أيمكن الوصول إلى هؤلاء الدايات، كانت الداية هي الحكيمة في القرية، مثل حلاق الصحة، يقوم بعمل الجراحات الصغيرة، فتح الدمامل والخراريج ، خلع الأسنان، طهارة الأولاد، والداية تقوم بطهارة البنات، كلمة «الطهارة» باللغة العامية تعني «الختان».
في كلية الطب لم ندرس شيئا عن العادات الصحية الضارة المنتشرة في الريف والمدن منها عادة ختان الذكور والإناث، تخرجت طبيبة دون أن أعرف شيئا عن «البظر» أو غشاء البكارة، بدأت أعلم نفسي بنفسي، أحضر مع أم إبراهيم الأفراح والمآتم، أشهد حفلات الزواج، فض غشاء البكارة، ختان الأولاد والبنات، لم تكن الدايات وحلاقو الصحة يرحبون بوجودي، في يوم رأيت حلاق الصحة يعطي حقنة في فخذ امرأة فلاحة دون أن يرفع جلبابها «إزاي تعمل كده يا راجل؟» «أعمل إيه يا ضكطورة أصلها مكسوفة ومش عاوزة وركها يتعرى!» في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف، بقي بالقسم الداخلي حتى التأم الجرح، لكن القضيب ظل بلا رأس، في إحدى حفلات الزفاف ثقب ظفر العريس مثانة العروس وهو يفض بكارتها، حملوها فوق الحمارة بعد منتصف الليل، أتوا بها إلي وهي بين الحياة والموت.
অজানা পৃষ্ঠা