فعلت نبرات الرجل واخشوشنت وهو يقول: إنها زوجتي يا عربيد، فتأدب وإلا سويت بك الأرض!
وفزع الإخوة وأولهم أدهم؛ لدرايتهم ببطش أبيهم الجبار، ولكن إدريس كان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرا كأنه مجنون يهاجم نارا مندلعة، فصاح: إنك تبغضني، لم أكن أعلم هذا، ولكنك تبغضني دون ريب، لعل الجارية هي التي بغضتنا إليك، سيد الخلاء وصاحب الأوقاف والفتوة الرهيب، ولكن جارية استطاعت أن تعبث بك، وغدا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء. - قلت لك اقطع لسانك يا ملعون. - لا تسبني من أجل أدهم، طوب الأرض يأبى ذلك ويلعنه، وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحواري!
فصاح الجبلاوي بصوت صك الأسماع في الحديقة والحريم: اغرب بعيدا عن وجهي! - هذا بيتي، فيه أمي، وهي سيدته دون منازع. - لن ترى فيه بعد اليوم، وإلى الأبد ...
واكفهر الوجه الكبير حتى حاكى لونه النيل في احتدام فيضانه، وتحرك صاحبه كالبنيان، مكورا قبضة من صوان، وأيقن الجميع أن إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساة جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتا. كم من سيدة مصونة تحولت بكلمة إلى متسولة تعيسة! وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحا يحمل على ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص والدم يطفح من فيه وأنفه. والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عز جانبه عند الغضب. لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهى. حتى إدريس بكري الواقف ومثيله في القوة والجمال قد انتهى. وتقدم الجبلاوي خطوتين أخريين وهو يقول: لا أنت ابني ولا أنا أبوك، ولا هذا البيت بيتك، ولا أم لك فيه ولا أخ ولا تابع، أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبا بغضبي ولعنتي، وستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محروما من عطفي ورعايتي!
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدمه وصاح: هذا بيتي، ولن أغادره!
فانقض عليه الأب قبل أن يتقيه، وقبض على منكبه بقبضة كالمعصرة، ودفعه أمامه والآخر يتراجع متقهقرا، فعبرا باب السلاملك، وهبطا السلم وإدريس يتعثر، ثم اخترق به ممرا تكتنفه شجيرات الورد والحناء مفروشا بالياسمين حتى البوابة الكبيرة فدفعه خارجا وأغلق الباب. وصاح بصوت سمعه كل من يقيم في البيت: الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها!
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخرى: وطالقة ثلاثا من تجترئ على هذا!
2
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير. وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه. وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة وسياسة، فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاكسة وفظاظة، وكانت شروط الواقف سرا لا يدري به أحد سوى الأب، فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته، حتى إدريس - على قوته وجماله وإسرافه أحيانا في اللهو - لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من إخوته. كان شابا كريما حلو المعشر حائزا الود والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئا من الإحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدا منهم لم يعلن هذا ولا اشتم منه في كلمة أو إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن كثيرا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر، بين قوتهم ورقته، بين سمو أمهم ووضاعة أمه، ولعله عانى من ذلك أسى مكتوما وألما دفينا، ولكن جو البيت المعبق بشذا الرياحين، الخاضع لقوة الأب وحكمته، لم يسمح لشعور سيئ بالاستقرار في نفسه، فنشأ صافي القلب والعقل.
وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف: باركيني يا أمي، فما هذا العمل الذي عهد به إلي إلا امتحان شديد لي ولك.
অজানা পৃষ্ঠা