আগাস্টিন: খুব ছোট একটি ভূমিকা
أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا
জনগুলি
وكما افترض اليونانيون، بشيء من المنطق، أن أحدا لم ينافس هوميروس في كتابة الشعر، أو كتب التاريخ بطريقة تضارع هيرودوت وثوسيديديس، أو فلسفة لم تكن محض سلسلة من الحواشي لكتابات أفلاطون وأرسطو والرواقيين وإبيقور؛ نسب الرومانيون مكانة النموذج الكلاسيكي لساداتهم السابقين؛ شيشرون للنثر والخطابة، وفيرجيل وهوراس للشعر. على أيام أوغسطينوس، كان هناك رجال متعلمون يحفظون خطب كاملة لشيشرون وكافة أعمال فيرجيل عن ظهر قلب. ونظرا لأن اختراع الطباعة جعل الكتب أقل تكلفة نسبيا من المخطوطات، فقد بدت قدرات الاستظهار تلك غير ذات جدوى، وتكاد تكون مستحيلة بالنسبة إلينا في عصرنا هذا، ولكن في العالم القديم وفي العصور الوسطى استند الكثير من التعليم المدرسي إلى التعليم بالاستظهار في سن يمكن التأثير فيها بسهولة. انطبع نثر شيشرون وشعر فيرجيل بشدة على عقل أوغسطينوس لدرجة أنه لم يستطع أن يكتب عدة صفحات دون أن يسترجع أعمالهما أو يلمح إليها لفظا. وفي شبابه، قرأ أيضا بإعجاب شديد تاريخ الجمهورية الرومانية المظلم لسالوست والأعمال الكوميدية لتيرانس. وكانت هذه الأعمال أيضا جزءا من الهواء الأدبي الذي تنسم نسائمه بطبيعة الحال. وفي أعماله النثرية كان كثيرا ما يورد عبارات هنا وهناك بتصرف مستقاة من الأدب اللاتيني الكلاسيكي. ولم يتم العثور على تلك الإشارات الضمنية إلا مؤخرا نسبيا، ومن المؤكد أن هناك المزيد منها بانتظار إماطة اللثام عنه.
لم يكن أوغسطينوس متفردا في عصره من حيث امتلاكه لهذه الثقافة الأدبية العالية؛ فخلفيته الثقافية كانت خلفية أفريقية رومانية، وتحديدا ثقافة الأقاليم المستعمرة الثرية التي طالما تمتعت بالسلام والرخاء وقطنها أناس مثقفون جدا زينوا فيلاتهم بالفسيفساء والتماثيل البديعة، كتلك التي يستطيع المرء أن يراها في متحف باردو بتونس. منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، بعد وفاة أوغسطينوس بأكثر من 200 عام، انتمى الجانبان الشمالي والجنوبي للبحر المتوسط إلى عوالم ثقافية - إن لم تكن تجارية - منفصلة، وتكلم أهلهما لغات مختلفة، فيما خلا فترة الهيمنة الفرنسية القصيرة نسبيا خلال العصور الحديثة. في عصر أوغسطينوس، انتمى الشمال والجنوب إلى عالم واحد، وتكلما وكتبا بلاتينية فصيحة تحدث بها الأفارقة بلكنة إقليمية مميزة. وأمد شمال أفريقيا إيطاليا بالجزء الأغلب من غلالها. وكانت الرحلة الصيفية من قرطاج أو هيبو إلى بوتسوولي أو أوستيا جولة بحرية قصيرة يقوم بها عدد من السفن كل أسبوع، وكان الاتصال بإيطاليا متواترا وسهلا يسيرا. وكانت ثروات أفريقيا الرومانية غالبا تتجاوز ثروات إيطاليا حتى بين العائلات الميسورة الحال، وكان لدى الأقاليم الأفريقية إحساس قوي باستقلالها وبرغبتها في صنع قراراتها بنفسها.
أفرزت أفريقيا الرومانية كتابا مميزين: ففي القرن الأول، كتب مانيليوس دليلا نثريا عن علم الفلك؛ وفي القرن الثاني صعد نجم فرونتو معلم الإمبراطور ماركوس أوريليوس؛ وأبوليوس ابن مدينة مداوروش الكاتب الأكثر بيعا، لا لكتابه «الحمار الذهبي» (التحولات) وحسب بخليطه المميز من السحر والدين والجنس، ولكن أيضا لكتيباته المسهبة المؤثرة حول الفلسفة الأفلاطونية؛ وأولوس جيليوس مؤلف «ليالي أتيكا»، وهو دليل مختصر نوعا ما لتبادل أطراف الحديث بفعالية أثناء حفلات العشاء. وعاصر أوغسطينوس الكاتب اللاتيني ماكروبيوس، الذي أمست تعليقاته على «حلم سيبيو» (الكتاب السادس من «الجمهورية») مصدرا رئيسا للمعلومات المتعلقة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة للغرب في العصور الوسطى. وعاصر أوغسطينوس أيضا مارتيانوس كابيلا الوثني باختياره الذي ألف، ربما بعد وفاة أوغسطينوس، كتاب «الزواج بين فقه اللغة وعطارد (رسول الآلهة)» ليعلم قراءه عناصر الفنون الحرة السبعة، وليبين كيف لدراستها أن ترتقي بالإنسان إلى الفردوس.
وخلال القرن الثاني، أقامت إرسالية مسيحية نشطة في شمال أفريقيا عددا كبيرا من الأبرشيات التي ترجم الإنجيل الإغريقي إلى اللاتينية من أجلها. كان من بين المهتدين شخصيات رائعة مثل ترتليان الذي لمع نجمه في نهاية القرن الثاني، وهو مؤلف مفردات اللاهوت الغربي وأستاذ في الجدل الساخر الموجه ضد النقاد الوثنيين أو المهرطقين الخطرين. وهناك قبريانوس أسقف قرطاج الذي انتخب فور تعميده بفترة وجيزة، واستشهد بعدها بعشر سنوات عام 258 مصرا على التمسك بالطهارة الطقسية للكنيسة الكاثوليكية والسلطة القضائية للكهنوت الرسولي. وفي عصر قسطنطين العظيم في بداية القرن الرابع، كتب أفريقيان مسيحيان دفاعات عن عقيدتهما ضد النقاد الفلسفيين؛ ودان أرنوبيوس ولاكتانتيوس نوعا ما بالفضل إلى المؤلفين اليونانيين المسيحيين السابقين لهما.
كانت التركيبة السكانية لأفريقيا الرومانية مختلطة جدا؛ ففي المزارع، كان الفلاحون مزيجا من البربر والفينيقيين الذين يتكلمون البونيقية. وفي موانئ مثل قرطاج وهيبو، كان كثير من التجار يتكلمون اليونانية وتربطهم علاقات وثيقة بصقلية وجنوب إيطاليا، وهي المناطق التي كان في تلك الحقبة (ومن بعدها لفترة طويلة) يتحدث أهلها اليونانية على نطاق واسع. لكن اللاتينية كانت لغة المتعلمين والجيش والإدارة، وكانت ثقافة أوغسطينوس المنزلية والمدرسية لاتينية كليا، ولو أن أمه مونيكا كانت تحمل اسما بربريا.
كانت مدينة قرطاج الرومانية القديمة مدينة تجارية بارزة، ولم يكن سكانها يميلون وحسب إلى المصارعات بين الحيوانات والمصارعين من البشر في المسرح المدرج، بل نزعوا كذلك إلى الأنشطة الأقل دموية كالمسابقات الشعرية والمسرحيات الراقية بالمسارح. وكانت المدينة تتمتع بقضاة وأطباء ومعلمين للأدب بارعين عرفوا باسم «الرياضيين». لم يولد أوغسطينوس ولم يترعرع في هذا العالم المدني، بل كان فتى من فتيان الريف الإقليمي حيث ولد في بلدة جبلية داخلية تعرف باسم «طاغست» بإقليم نوميديا التي تعتبر مفترق طرق، وسوقا تعرف الآن في شرق الجزائر باسم سوق أهراس. وهنالك كان والده باتريك يمتلك فدادين قليلة من الأرض وأمة أو أمتين، لكنه لم يكن ثريا على الإطلاق. توفي باتريك عندما بلغ أوغسطينوس مراهقته. وكان لأوغسطينوس شقيق وشقيقة، لكن ليس هناك دليل إن كان هو الابن الأكبر أم الثاني أم الثالث. التعليم بالمدرسة المحلية بطاغست، كما في كل البلدات الصغيرة المثيلة، كان يوكل لمعلم واحد فقط. ووجد أوغسطينوس المعلم أكثر فعالية بعصاه فيما يتعلق بإلهام تلاميذه الاهتمام بدراساتهم. وسرعان ما انتقل إلى معلم آخر بمنطقة مداوروش الدانية. وبعد وفاة باتريك، انتقل أوغسطينوس إلى قرطاج بتمويل من جاره الثري رومانيانوس.
لاحقا، نظر أوغسطينوس إلى الأيام التي أمضاها بالمدرسة باعتبارها تجربة بائسة، ولا قيمة لها إلا كتدريب على صراعات ومظالم وخيبات أمل حياة الرشد. ولما كان صبيا شديد الحساسية واسع الاطلاع، أحس أوغسطينوس بأنه ثقف نفسه بنفسه باطلاعه على أعمال المؤلفين العظماء. فالعقوبات التي تحملها الأطفال، مهما كانوا يستحقونها، لم تنفع إلا الذين كانوا نزاعين أساسا للانتفاع بها، وخلقت ممن سواهم جيلا ساخطا وأكثر معاداة للمجتمع من قبل. لم يكتب قط أوغسطينوس بإعجاب أو امتنان عن أي من معلميه.
بدأ أوغسطينوس، بينما كان صبيا بالمدرسة، يتعلم اليونانية. ورغم أنه كره عناء الدراسة واللغة، فإنه سرعان ما استطاع استخدام كتاب مكتوب باليونانية كلما استدعت الحاجة ذلك، وعندما نضج أمسى على درجة من الكفاءة تسمح له بترجمة نصوص فلسفية موغلة في فنياتها. لكنه لم يحلم قط بأن يتقن أعمال هوميروس والأدب اليوناني كما فعل عدد من الأرستقراطيين الرومانيين المتأخرين. وصرح بشعور لم يكن غريبا على الغرب اللاتيني العتيق؛ ألا وهو أن الغرب حري به الآن أن يتمتع بكبرياء فكرية. لقد كان بحاجة لأن يقف على قدميه ولا يكتفي وحسب بالتكيف مع الأعمال اليونانية النادرة لخطباء لاتينيين ثانويين. لم يكن الناس يعرفون آنذاك أو يريدون الإقرار بأن بطلهم فيرجل يدين بالكثير لهوميروس. لكنهم كانوا رغم ذلك على دراية بأن الإغريق كانوا، وما برحوا، أساتذة الفلسفة الكبار؛ فقد ألف شيشرون وسينيكا حوارات و«رسائل» بما يلائم النقاشات الفلسفية اليونانية لتعليم الرومانيين. وكانت الحوارات الفلسفية لشيشرون منجما لمعلومات منظمة بشكل واضح عن النقاشات الدائرة بين المدارس المختلفة، وفي عشرينياته تمكن أوغسطينوس من الإحاطة بمحتواها إحاطة تامة.
رغم أنه لم يكن جاهلا باليونانية، كان أوغسطينوس دوما أكثر أريحية مع النسخة اللاتينية إن وجدت. وكان على دراية بمقولات أرسطو التي كانت متاحة له باللاتينية، وأبحاث قوانين الاستنباط السليم. وكانت المشكلة المعقدة - «العوارض المستقبلية» - الوارد نقاشها في الفصل التاسع الشهير من أطروحة أرسطو عن «التفسير» مألوفة له أيضا. واتفاقا مع الأفلاطونيين الجدد المعاصرين له، استخدم أوغسطينوس اللغة التي تكتنف الشكوك المتعلقة بالمستقبل، والتي كانت أكثر حتمية مما راق لأتباع أرسطو؛ حيث أراد أن يقول إن الأحداث التي تكون بالنسبة إلينا «عارضة» (أي إنها لم تكن لتحدث إلا إذا حدث أمر فترتبت عليه) ليست مشكوكا فيها بالنسبة إلى الرب (ردا على فاوست). وبتعبير آخر، رغم أن عقولنا التي نملكها محدودة جدا فلا يتسنى لها رؤيته، فإن المستقبل يستحيل تغييره شأنه شأن الماضي. كان أوغسطينوس مهتما تحديدا بالمنطق الرواقي والتأكيدات الأخلاقية. وكان مفتونا بمسألة إلى أي مدى تستطيع اللغة توصيل المعنى المتعلق بالواقع. وكان قادرا على إجراء تحليل دقيق للمشكلات الواردة في المحاجة الأبيقورية المنسوبة إلى مذهب المتعة والقائلة بأننا نعني بال «الخطأ» و«الصواب» في حقيقة الأمر «الممتع» و«المثير للاستياء».
ومن المفارقة أن المفكر الإغريقي الذي تشربت أفكار أوغسطينوس بأفكاره أكثر من غيره بكثير كان أفلاطون، الذي لم يكن متاحا من أعماله باللاتينية سوى النذر اليسير جدا. ولقد ترجم شيشرون قرابة نصف محاورة «طيماوس»، وألف كالسيديوس في القرن الرابع تعليقا مدروسا كان من الممكن أن يعرفه أوغسطينوس (لكنه لم يحط به علما على الأرجح). ولم يكن من الصعب بالنسبة إليه أن يجد نسخا يونانية من الحوارات الأفلاطونية، سواء في قرطاج أو في روما، حيث تلقى العلم لفترة من الوقت؛ فقد كان بعض مواطني المدينتين يتحدثون اللغة اليونانية. لكن يبدو أنه لم يبادر بدراسة النص الأصلي دراسة مباشرة.
অজানা পৃষ্ঠা