آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد
آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد
প্রকাশক
دار الكتاب والسنة،كراتشي - باكستان،مكتبة دار الحميضي
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م
প্রকাশনার স্থান
الرياض - المملكة العربية السعودية
জনগুলি
آثَار حجج التَّوْحِيد فِي مُؤَاخذَة العبيد
تأليف
مدحت حسن الفراج
تَقْدِيم
فَضِيلَة الشَّيْخ الْعَلامَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الجبرين - حفظه الله -
دَار الْكتاب وَالسّنة - مكتبة دَار الحميضي
অজানা পৃষ্ঠা
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله -
الحمد لله المنفرد بالخلق والإيجاد الذي توحيده على جميع العباد وأشهد أنه إله الحق المتعالي عن الأنداد وأنه أرسل الرسل لإقامة الحجج وختمهم بمحمد ﷺ وعم برسالته الحاضر والباد.
أما بعد فقد تصفحت هذا الكتاب الذي بعنوان (آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد) فوجدته كتابًا قيمًا في موضوعه: إقامة الحجة وقطع المعذرة وأن الله تعالى قد نصب له الآيات والبراهين ما تعرف به إلى عباده وأعطاهم من الأدلة والبينات ما يعرفون به ربهم وإلههم وما خلقوا له وما يجب أن يتعبدوا به ومع ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان ما خلق الخلق له بالتفصيل وبذلك قامت حجة الله على العباد وانقطعت المعذرة ومع أنه تعالى ما كلف العباد إلا بما يطيقون وما في وسعهم وما شهدت فطرهم وعقولهم بحسنه وملاءمته ولا شك أن من تأمل شرائع الأنبياء واعتبر ما جاؤوا به وأمعن النظر في الأحكام والأوامر والنواهي تحقق وتيقن أنها تنزيل من حكيم حميد وبعيدة عن أحكام البشر وقوانينهم واقتراحاتهم فلهذا صلحت للحاضر والماضي والمستقبل ولم تحتج إلى تغيير أو تجديد رغم طول الزمان وتتابع القرون وإنما أنكرها أو تركها من فسدت فطرهم وتغيرت عقولهم وتلوثت أفكارهم بالاقتراحات الغربية والقوانين الوضعية ولقد أحسن هذا الكاتب في استيفاء النقول التي انتقاها من كلام فحول العلماء من المفكرين والعقلاء والجهابذة المشهورين فكلل الله جهده ونفع بهذا الكلام وهذه الرسالة المسلمين.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
عضو الإفتاء
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد:
لا جرم أن الصراع الأبدي القائم بين معسكري الإيمان والكفر لم يكن صراعًا قط بين: أسماء بلا مسميات، ولا بين أشكال بلا مضامين، ولا بين انتساب مزور للمنتسب إليه ... وإنما حقيقة الصراع الأبدي الرهيب قائمة وسط: حقائق، ومسميات، ومضامين. فالصراع مشتعل بين: حقيقتي التوحيد والشرك؛ وملتهب بين: مضموني الإيمان والكفر؛ ومتأجج بين مسمى الحق والباطل.
وبجلاء هذه الحقيقة الغائبة التائهة نلمس ونتيقن: علة استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم وسط جماهيره الغفيرة - والتي يُستعصى حصرها على العادّين - دون تحريك ساكن، أو تسكين متحرك، اللهم إلا الشجب والإدانة! تلك الألفاظ الرنانة التي تعرت عن معانيها
1 / 7
ولوازمها، والتي حرم عليها مجاوزة محلها من صفحات الجرائد والمجلات، وتمتمات رجال الإذاعة والتلفاز!
قال ﷺ: "وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها" (١).
فأول هذه الأمة لما قاموا بحقائق التوحيد ومقتضياته: علمًا، وعملًا، واعتقادًا، وسلوكًا؛ أظلتهم الرحمة، وغشيتهم العافية، وضمن لهم مولاهم ﵎: النصر، والعلو، والتمكين، ولو اجتمع عليهم من بأقطار المعمورة حتى يسبي بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا.
وآخر هذه الأمة لما غفل كثير من المنتسبين إليها عن: معنى التوحيد وأركانه وشروطه، وضاع فرقانه بينهم، واختلطت أعلامه بأعلام ضده ونقيضه من الشرك والإلحاد، ومن ثم عاد مختزلًا بينهم: تارة في النطق فقط، وتارة في الاعتقاد دون العمل، وتارة في الانتساب المزيف، وتارة في إرث موروث بلا بينة ولا برهان، وتارة في شهادات الميلاد وبطاقات الرشد وجوازات المرور ...
وترتب على تلك الغفلة:
* تسلط الأعداء ومعاينة البلاء حتى صار أمرنا كالغنم المائجة على وجهها هربا من ذئاب رعاتها وأعدائها، لا تدري لماذا الفرار ولا أين القرار.
* ضياع الأمانة الملقاة على عاتق الأمة.
* قلب الموازين والقيم.
* تأمين الخائن والزنديق.
* تخوين المؤمن الأمين.
* ترئيس العتاة المتكبرين.
* العمل على استئصال الموحدين المخلصين.
* السعي على ظهور وعلو المفسدين الضالين.
* رفع رايات الإلحاد والعلمانية.
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/ ١٦١، ١٩١) والإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة برقم: ٤٦، والنسائي في البيعة وابن ماجه في الفتن.
1 / 8
* إخماد راية التوحيد والإيمان.
* موالاة المشركين والكافرين.
* البراءة من حزب الله الموحدين.
* تنحية شرائع الرحمن.
* تحكيم شرائع الشيطان.
* الدعوة إلى التوحيد الصافي أصبحت جريمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام.
* الدعوة إلى الإلحاد والتشكيك في أصول الاعتقاد غدت مستندات الحياة الآمنة الرغدة الهنيئة ...
إن في الأفق ملامحًا أكيدة، وقرائن عديدة، وخطوطًا عريضة: منذرة ومحذرة بقرب وقوع المعركة الفاصلة بين: المسلمين الموحدين، وبين قوى الكفر قاطبة على اختلاف مللهم ونحلهم وعقائدهم. إن كفار اليوم قد صفوا كافة حساباتهم بينهم، وغضوا الطرف جانبًا عنها، ريثما يتم التخلص من المسلمين والقضاء على دينهم.
إن كفار اليوم قد أعدوا العدة وشحذوا الهمم، وامتطوا الجياد، وسلوا السيوف، وصفوا الصفوف ...
وما زال كثير من الدعاة والمربين والمصلحين مصرين: على وضع الغمامة على أعينهم، وعلى جعل أصابعهم في آذانهم، خشية تشخيص الداء القتال الذي يفتك بجسد الأمة، ويوهن صلبها، ويسلمها صيدًا ثمينًا لأعدائها، ينهشون لحمها، ويقطعون أوصالها، ويرتوون من دمائها، ويجتمعون على موائد المكر والفتك بدينها.
وبعد هذه المقدمة أضع نصب أعين الدعاة والمربين والمصلحين: حقيقة راسخة ناطقة بأنه لا عود لهذا الدين مسيطرًا ومهيمنًا ومتحديًا، إلا بتجريد التوحيد والتربية عليه، والقضاء على الشرك بكافة صورة وألوانه.
* إن التوحيد هو الحبل الوحيد الممدود بين الأمة وربها.
* إن التوحيد هو المستمسك الرصين الكفيل بالقضاء على كافة ألوان الشرك
1 / 9
والإلحاد المتمثلة في الوطنية، والقومية العربية، والعلمانية، والحداثة ...
* إن التوحيد هو الشعار الخالص والعلم الفريد الذي يضمن للأمة وحدتها وتفردها وعلوها.
* إن التوحيد هو الفرقان الفارق، والحد الفاصل بين المسلمين والمشركين.
* إن التوحيد هو ثمن الجنة، ومهر الزحزحة عن النيران ولا سبيل للنجاة بدونه.
* إن التوحيد هو الحصن الحصين والمأمن الأمين من مكائد وفتن مردة الطغاة والشياطين.
* إن التوحيد هو المطهّر الفعال لصفوف المسلمين من آفات المنافقين والزنادقة.
* إن التوحيد هو السبيل المعصوم للبراءة من البدع ومحدثات الأمور.
* إن التوحيد هو البيان العملي والتجسيد الفعلي لدعوة الكتب الربانية ولرسالة الرسل الإلهية.
* إن التوحيد هو حائطة الصد الشامخ الذي تتهاوى عليه كافة الضربات المتلاحقة من سائر الكفار والملاحدة.
ولعظم هذه القضية - التي تطابقت وتصادقت عليها: الكتب الربانية، والرسالات الإلهية - جاء هذا المؤلف، وأعد لها.
وقد قمت في هذه الرسالة ببيان:
بعض الحجج المأخوذة لإفراد الله بالعبادة والبراءة من عبادة ما سواه، والمتمثلة في: الميثاق، والفطرة، والعقل، والآيات الكونية؛ وهي الحجج المذكورة في كتابي الأول "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي" فقد عزمت مستعينًا بالله على إخراج كل باب منه في بحث مستفيض مستقل. والله المستعان، وعليه التكلان، وهو الهادي إلى سواء الصراط.
وقد قسمت هذه الرسالة إلى أربعة فصول:
1 / 10
الفصل الأول: في حجية الميثاق. وتحدثت فيه عن: محتواه، وعلته، وأنه حجة مستقلة في: إفراد الله بالربوبية والألوهية، وكذا في بطلان الشرك، وأنه ليس بحجة مستقلة في وجوب العذاب في الدارين حتى تقوم الحجة الرسالية.
الفصل الثاني: في حجية الفطرة. وذلك فيه على أن الفطر والإيجاد يوجب عبادة الفاطر، وأن الفطرة قد قطعت: كافة الأسباب الداعية إلى الشرك، وأنها أسبق من سائر المعاذير الساقطة والحجج الداحضة التي يحتج بها المشركون على فعلتهم الخبيثة، المتشخصة في: عبادة غير الله.
الفصل الثالث: في حجية العقل. وأوضحت فيه أن أوجب شيء في العقول هو: حسن التوحيد؛ وأن من أرسخ مرتكزاته؛ قبح الشرك؛ وكذا فيه البراهين الباهرة والأدلة الدامغة على مقتضى الفطرة والميثاق؛ وضمنته حديثًا عن: حجية الآيات الكونية، وشهادتها على إفراد الله بالتأله، وعلى بطلان تأله ما سواه. وختمته بمبحث عن: حكم التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع، وحررت فيه مذهب أهل السنة وجماهير فحو سلف الأمة، وعريت فيه سوءات ومخازي كل من حاد عن الصراط في هذه المسألة الفاصلة بين براهين التوحيد وزيف الشرك والإلحاد.
الفصل الرابع: وفيه "آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد".
وبرهنت فيه على أن: حكم الشرك ثابت لمن عبد غير الله، وإن كان جاهلًا ولم تقم عليه حجة البلاغ؛ وأن الشرك والفواحش ذنوب ومعاصي ولو لم يأت الخبر بحرمتها، ويجب على أصحابها التوبة والانخلاع منها بعد بلوغ الخطاب وقيام البرهان. ثم إن الله الرحمن الرحيم لحبه العذر وقف إنزال العقوبة على فعل الشرك والفواحش حتى يبعث الرسل لتزيح علل الكفار؛ وانتفاء العقوبة لانتفاء شرطها، لا لانتفاء سببها. فسببها قبل الرسالة موجود ومقتضاها قائم، إلا أن العذاب عليها مشروط بقيام الحجة وبلوغ الخطاب.
1 / 11
وختامًا أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرفع علم الجهاد بجحافل التوحيد، وأن يضع بهم أهل الشرك والفساد.
اللهم تقبله مني، واغفر لي خطئي وزللي، واجعله ذخرًا لي في الدنيا وعتقًا من النيران في الآخرة.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج.
1 / 12
الفصل الأول
حجية الميثاق
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك.
المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك وتلك علة أخذه.
المبحث الثالث: عموم حجية الميثاق على كافة البشر.
1 / 13
بين يدي حجية الميثاق
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١)، يخبر المولى جل في علاه عن استخراجه ولد آدم، من صلبه، ومن أصلاب آبائهم، وإقرارهم بتوحيده بالألوهية، وبطلان ألوهية ما سواه.
وجعل الحكيم الخبير أثر هذا الميثاق ومقتضاه من لوازم النفوس وحقائقها التي لا انفكاك لها عنها ألبتة ما دامت باقية على استقامة خلقتها.
"فالعلم الإلهي فطري ضروري وهو أشد رسوخًا في النفس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تُعرض عنها أكثر الفطر وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة" (٢).
ولهذا كان علم التوحيد هو الحقيقة البديهة التي انبثقت منها كافة العلوم، وسائر القواعد والأصول، وعامة المعارف والأدلة.
ومن ثم أصبج الشك في هذا العلم الشريف - فضلا من جحده وإنكاره - تشككا في أصل ذات الإنسان، وعلة وجوده وتكريمه وتشريفه على سائر المخلوقات، بل - والذي نفسي بيده - إنه ليؤول إلى التشكك في سائر حقائق الوجود بأسرها.
وقد علل المولى ﵎ هذا الأخذ والميثاق، وذاك العلم الفطري
_________
(١) سورة الأعراف، الآيات: ١٧٢ - ١٧٤.
(٢) مجموع الفتاوى لابن تيمية (٢/ ١٥: ١٦) بتصرف بسيط.
1 / 15
الضروري بقوله (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
فدل ذلك على احتجاج المشركين الغافلين والمقلدين بتلك الحجتين الساقطتين، وتعللهم بذينك العلتين الباطلتين، إن لم يؤخذ عليهم ذلك الميثاق مع وجود أثره ومقتضاه في فطرهم وعقولهم.
وعليه أستطيع الجزم والحزم بأن: الميثاق، والفطرة، والعقل، حجج مستقلة في دفع وبطلان حجتين هما ركيزتا وساقا الشرك والمشركين على اختلاف نحلهم، وعقائدهم، ومشاربهم دائمًا وأبدًا: -
الأولى: الجهل والغفلة. وتلك حجة علية القوم والملأ والسادة الذين أخذوا على عاتقهم سن المعتقدات، وتقويم السبل - بزعمهم -، وإحداث النظم والدساتير، وحد الحدود ونسبتها إلى الله افتراء عليه. قال تعالى في حقهم: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (١).
الثانية: الاتباع والتقليد (٢) وتلك حجة الخلوف والأتباع فاقدي البصائر والعاجزين عن تحديد المصائر، القائلين بلا حياء ولا استخزاء: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٣).
_________
(١) سورة ص، الآيتان: ٦ - ٧.
(٢) التقليد المحض الفاقد للبرهان والحجج مذموم على أية حال، فالمشركون عبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، بل وفي الفطر السليمة خلاف ذلك.
أما الموحدون فقد عبدوا ربهم ببراهين نقية، وحجج بهية منبثقة من: الميثاق والفطرة والعقل والنقل التي خرجت جميعا من مشكاة واحدة قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) [هود: ١٧] وقال سبحانه (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: ٣٥] أي: نور الوحي المطابق لنور الفطرة والعقل، والأخير هو البينة من الله في نفس الموحدين.
(٣) سورة الزخرف، الآية: ٢٣.
1 / 16
وبهذا تكون حقيقة الميثاق وعلته قد بدت جلية لذوي العقول، وحصحصت لذوي الأبصار، فهو حجة مستقلة لدحض ومحق مرضي التعطيل والشرك.
فالقول بإثبات الصانع: علم فطري ضروري لا تنفك عنه أي نفس، وهذا العلم الفطري الضروري يبين بطلان الشرك في التأله، وهو التوحيد الذي شهدت به الذرية. ومن المعلوم أن مقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه في كل شيء؛ إذ كان هو الذي أنشأه ورباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه. فإذا احتج المشركون بهذا، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقضه ويبطل تقوله، لقالوا: إنما الذنب ذنب آبائنا المشركين ونحن ذرية لهم بعدهم اتبعناهم على جهل منا بسوء طريقتهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم ...
فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به: من وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، وقامت عقولهم شاهدة بصحته، وناطقة بجرم ضده، كان معهم: ما يبين بطلان الشرك.
فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء؛ كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية السابقة لهذه العادة الأبوية.
وهذا يقتضي أن العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك؛ لا يحتاج ذلك إلى بلوغ الرسالة وإقامة الحجة، فإن الله جعل ما تقدم حجة عليهم بدونها.
وبنقض الميثاق يكون قد قام بصاحبه ما يستوجب العذاب، إلا أن الله لكمال رحمته، وسمو إحسانه قضى أن لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وإن كان قد قام بناقضه ما يستحق به الذم والعقاب.
1 / 17
فلله على عباده حجتان قد أعدهما عليه، لا يعذبه إلا بعد قيامهما:
إحداهما: ما فطره وجبله عليه، وصبغ عقله بصحته وبرهانه من أن: الله وحده هو ربه ومعبوده، وحقه عليه لازم.
ثانيتهما: إرسال رسله إليه للتذكير بذلك وتفصيله وتقريره: فيقوم عليه شاهدا الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان من الكافرين: قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (١).
وهذا هو فصل الخطاب في تلك المسألة التي صال وجال حولها كثير من اللغط والمنازعات، وإلى الله المآب للفصل بين العباد بميزان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والله المستعان.
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢).
أي: "إلى الحق، ويتركون ما هم عليه من الباطل، وقيل: يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه، والمآل واحد." (٣).
وقوله تعالى (يَرْجِعُونَ) دل على أن مرض الشرك محدث وطارئ على الفطرة ودخيل عليها، وليس بمحل للعبد لكي يحط رحله فيه؛ بل محل العبد وقراره في تجريد العبودية لفاطره ومالكه. فأولى وأحرى بكم أيها المشركون أن تحلوا في محلكم، وتقطعوا غربتكم، وتقروا في قراركم.
* * *
_________
(١) سورة الأنعام، الآية: ١٣٠
(٢) سورة الأعراف، من الآية: ١٧٤
(٣) فتح البيان في مقاصد القرآن للسيد صديق حسن خان. (٣/ ٤٥٨).
1 / 18
تنبيهات
* للعلماء في تفسير هذه الآية - آية الميثاق - مذهبان:
أحدهما: وهو مذهب جمهور المفسرين وعامة أهل الأثر: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر، وركب فيهم عقولًا تعقل بها ما يعرض عليها، وأخذ عليهم الميثاق بأنه ربهم المعبود، وحقه عليهم لازم، وأنهم عبيده المربوبون؛ فأقروا بذلك، ووقعت الشهادة عليهم به، ثم أخرجهم إلى الدنيا بفطرة مجبولة على مقتضى الميثاق ولازمه، وبعقل يقيم برهانه، ويجاهد دونه. وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه لمجيء الآثار الصحيحة عن الصحابة مرفوعة وموقوفة عليه. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
الثاني: أن المراد بهذا الإشهاد: هو فطر ذرية بني آدم على التوحيد مع الشهادة به - حالًا، لا مقالًا - بما ركب الله فيهم من العقول، وبما نصب لهم من عظيم خلقه، وغرائب صنعه، ودلائل وحدانيته التي تضطرهم اضطرار إلى العلم بأن للكون خالقًا لا يعبد إلا إياه.
قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي تعليقا على التفسيرين:
"قلت: ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة.
الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم ﵇، وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (١)، وهو الذي قاله جمهور المفسرين ﵏ في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
_________
(١) سورة الأعراف، الآية: ١٧٢
1 / 19
الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه ﵎ فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (١). وهو الثابت في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار والأسود بن سريع ﵃ وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل، وأنزل به الكتب تجديدًا للميثاق الأول وتذكيرًا به (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (٢). فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته - التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول - فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقا لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد.
ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول؛ بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوّده أبواه، أو نصراه، أو مجساه؛ فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته: فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب؛ نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب بهذا الميثاق كان مكذبا بالأول فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال: (بَلَى) جوابا: لقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" (٣) أ. هـ.
* يذكر كثير من العلماء ساعة التحدث في تأويل هذه الآية: حجية
_________
(١) سورة الروم، الآية: ٣٠.
(٢) سورة النساء، الآية: ١٦٥
(٣) معارج القبول (١/ ٩٢: ٩٣).
1 / 20
الرسالة، وما ترتب عليها من تذكير العباد بمقتضى ما أخذ عليهم من الميثاق، ثم يتبعون هذا بانقطاع الحجة وحلول النقمة واستحقاق العذاب. وعليه ظن البعض: أن الميثاق لا يستقل بحجة في بطلان الشرك.
وفي هذا الظن الخاطئ من الفساد ما الله به عليم. إذ يلزم من هذا:
أن كل من مات مشركًا قبل نزولها لم تقم عليه حجتها، وكذا كل من عبد غير الله ومات على ذلك دون أن يقرع أذنه خبرها بعد نزولها؛ ولكان لزامًا على النبيين التحدث بها مع أقوامهم توّ تكليفهم بالبلاغ؛ ليقيموا حجتها، ويقطعوا عذر المتلبسين بنقيضها!!!
والحق الذي لا ينبغي العدول عه ولا تعدي حده: أن الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك، وليس بحجة مستقلة في استحقاق العذاب. والأخير على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو الذي تقتضيه القواعد الكلية والنصوص الشرعية.
* أخذ الميثاق وإرسال الرسل قطعا الاحتجاج وأوجبا العذاب.
* بعض أهل العلم ينص على أن الميثاق كان في الربوبية، ولا يذكر مقام الألوهية؛ وذلك لأن الربوبية تستلزمها، وهي حجتها وبرهانها. فالرب لا بد أن يكون، إلها، ومن فقد الربوبية بطل تألهه واستحال.
قال تعالى مبرهنًا على استحقاقه التأله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١)، وقال تعالى مبرهنا على بطلان تأله كل ما يعبد من دونه: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢).
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٢١.
(٢) سورة الفرقان، الآية: ٣.
1 / 21
وتارة لا يذكرون مقام الألوهية لأن "الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ) (١) وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك ...
إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (٢). وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) (٣)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (٤)، فالربوبية في هذا هي الألوهية وليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة" (٥).
دليل ما سبق - وهو على سبيل المثال لا الحصر - يراجع قول الإمام القرطبي في آية الميثاق، وقوله في قوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (٦).
تجده في الأولى ذكر أن الميثاق في الربوبية، وفي الثانية نص على أنه في الربوبية والألوهية. وسيأتي ذكر ذلك في فصل "حجية الميثاق" بمشيئة الله وعونه.
* اتفق العلماء - بلا خلاف بينهم - على ثبوت حجة مستقلة عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لمن عبد غير الله تعالى.
_________
(١) سورة الناس، الآيات: ١ - ٣.
(٢) سورة الحج، الآية: ٤٠.
(٣) سورة الأنعام، الآية: ١٦٤.
(٤) سورة فصلت، الآية: ٣٠.
(٥) تاريخ نجد/ ٢٥٩ نقلًا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀.
(٦) سورة الروم، الآية: ٣٠.
1 / 22
فمنهم من جعلها: الميثاق، ومنهم من جعلها: الفطرة، ومنهم من جعلها: العقل، ومنهم من قال بجميعهم: وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا مجاوزة عَلَمَه.
ودليل ما سلف: إطباقهم على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن تلبس بعبادة غير الله ولو لم يأته نذير في الدنيا ولم يسمع للرسالة بخبر.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:
"بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم" أ. هـ. (١).
وقال الإمام الشنقيطي: "اعلم أولا أن من لم يأذته نذير في دار الدنيا وكان كافرًا حتى مات، اختلف العلماء فيه. هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير" أ. هـ (٢).
وبهذا وجب ثبوت حجة مستقلة بذاتها عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لأهله، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق. وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على عدم وقوع التكليف به لأنه ظلم والله منزه عنه.
وعدم التكليف بما لا يطاق "هو قول الجماهير من جميع طوائف المسلمين وإجماع العترة، والشيعة، والمعتزلة، ورواه ابن بطال في شرح البخاري عن الفقهاء أجمعين" (٣).
_________
(١) حكم تكفير المعين - الرسالة السادسة من كتاب: عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين/ ١٥١.
(٢) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب/ ١٨٠.
(٣) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني/ ٣٢٥.
1 / 23
الفصل الأول
حجية الميثاق
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).
المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك:
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان [لك] ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول نعم. قال فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" (٢) متفق عليه.
وقال الإمام السيوطي (٣): "أخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده في كتاب الرد على الجهمية واللالكائي وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ - إلى قوله - بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
قال: جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا،
_________
(١) سورة الأعراف، الآيات: ١٧٢ - ١٧٤.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند (٣/ ١٢٧) وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء - باب خلق آدم وذريته حديث رقم: ٣٣٣٤، وفي كتاب الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب - حديث رقم: ٦٥٣٨ وأخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم: ٢٨٠٥.
(٣) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٣/ ١٥٤ - ١٥٥).
1 / 25
ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، وأشهد عليك أباكم آدم؛ أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا، اعلموا: أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا، ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك. قال: إني أحببت أن أُشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة أن يبلغوا وهو قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ) (١). وهو قوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (٢). وفي ذلك قال: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (٣). وفي ذلك قال: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (٤).
قال: فكان في علم الله يومئذ من يكذب به ومن يصدق به؛ فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم فأرسله الله إلى مريم في صورة بشر فتمثل لها بشرا سويا. قال أبي: فدخل من فيها" (٥).
_________
(١) سورة الأحزاب، الآية: ٧.
(٢) سورة الروم، الآية: ٣٠.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ١٠٢.
(٤) سورة الأعراف، الآية: ١٠١
(٥) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي - المستدرك (٢/ ٣٢٤) وصحيح إسناده الشيخ أحمد شاكر - تفسير الطبري (١٣/ ٢٣٩). وقال الألباني: سنده حسن موقوف، ولكنه في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي - مشكاة المصابيح (١/ ٤٤) كتاب الإيمان/ باب الإيمان بالقدر، قلت: وهذا الأثر من الصحابي الجليل أبي ن كعب ﵁ في حكم المرفوع وإن لم يرفعه، إذ لا مجال فيه للرأي، بل في تفسير يتعلق بسبب نزول آية. وقال السيد صديق حسن خان معلقًا عليه: وهو في حكم المرفوع، وإن لم يرفعه، لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد أ. هـ. الدين الخالص (١/ ٤٠٨).
وقال الحاكم: ليعلم طالب هذا العلم: أن تفسير الصاحبي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند. أ. هـ. المستدرك (٢/ ٢٥٨).
وقال الإمام السيوطي مقيدًا قول الحاكم: فذاك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية كقول جابر: "كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة: ٢٢٣] الآية. رواه مسلم، أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي ﷺ ولا مدخل للرأي فيه. أ. هـ. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (١/ ١٩٣).
1 / 26