271

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

জনগুলি

- قَوْلُهُ (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ): هُوَ مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ.
وَفِي ظَاهِرِهَا إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفهَمُ مِنْهَا الكُفْرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ - رُغْمَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ بِشِرْكٍ أَصْلًا! - وَفِي الجَوَابِ عَلَيْهَا أَقْوَالٌ (١):
١) مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ الَّذِيْنَ يَأْخُذُوْنَ بِظَاهِرِ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ (٢)، فَيَرَوْنَ الخُرُوْجَ مِنَ الإِيْمَانِ بِهَذِهِ المَعْصِيَةِ، لَكِنَّ الخَوَارِجَ يَقُوْلُوْنَ: هُوَ كَافِرٌ، وَالمُعْتَزِلَةَ يَقُوْلُوْنَ: هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ، وَتَتَّفِقُ الطَائِفَتَانِ عَلَى أَنَّهُم مُخَلَّدُوْنَ فِي النَّارِ، فَيُجْرُوْنَ هَذَا الحَدِيْثَ وَنَحْوَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَنْظُرُوْنَ إِلَى الأَحَادِيْثِ الأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ إِيْمَانُ - وَإِنْ قَلَّ -، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ مَآلًا. وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ مِنَ الخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ مَرْدُوْدٌ مُخَالِفٌ لِلإِجْمَاعِ. (٣)
٢) أَنَّ هَذَا الوَعِيْدَ هُوَ فِيْمَنِ اسْتَحَلَّ هَذَا الفِعْلَ. (٤)
٣) أَنَّ نُصُوْصَ الوَعِيْدِ هَذِهِ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَعْنَاهَا، بَلْ يُقَالُ: هَكَذَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُوْلُهُ وَنَسْكُتْ، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيْرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ. (٥)
٤) أَنَّ هَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالنَّفْيُ المُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى المُقَيَّدِ، فَيُقَالُ: لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ دُخُوْلًا مُطْلَقًا - يَعْنِي لَا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ -، وَلَكِنَّهُم يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ دُخُوْلًا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ بِقَدْرِ ذُنُوْبِهِم - إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُم أَوْلًا -، ثُمَّ مَرْجِعُهُم إِلَى الجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصُوْصَ الشَّرِيْعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُلَائِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى القَوَاعِدِ وَأَبْيَنُ حَتَّى لَا تَبْقَى دِلَالَةُ النُّصُوْصِ غَيْرَ مَعْلُوْمَةٍ، فَتُقَيَّدُ النُّصُوْصُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. (٦)
٥) أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ حَرِيٌ أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِسُوْءِ الخَاتِمَةِ، فَيَمُوْتُ كَافِرًا، فَيَكُوْنُ هَذَا الوَعِيْدُ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُوْلُ حَالُهُ إِلَيْهِ. (٧)

(١) بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ وَزِيَادَةٍ مِنَ كِتَابِ (القَوْلُ المُفِيْدُ) (١٤/ ٢) لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِيْن ﵀.
وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ اُنْظُرْ شَرْحَ بَابِ (مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَمَا فِيْهِ مِنَ الكَلَامِ عَلَى بَعْضِ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ (مَسْأَلَةِ قَاتِلِ النَّفْسِ).
(٢) أَيْ: يُسَلِّطُونَهَا عَلَى أُصُوْلِ الشَّرِيْعَةِ وَيَجْعَلُوْنَهَا قَاضِيَةً عَلَيْهَا دُوْنَ تَوْجِيْهٍ لَهَا، فَيُبْطِلُوْنَ بِهَا عُمُوْمَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيْمًا﴾ (النِّسَاء:٤٨)، وَمِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ ﷺ (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجنَّةَ، .... وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٦٤٤٣) عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
(٣) قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ (٩٧/ ٢): (وَأَمَّا حُكْمُهُ ﷺ عَلَى مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِدُخُوْلِ النَّارِ؛ وَمَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِدُخُوْلِهِ الجَنَّةَ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ).
(٤) وَفِي الحَدِيْثِ (مُدْمِنُ الخَمْرِ؛ إنْ مَاتَ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ). صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (٢٤٥٣) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٦٧٧).
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ ﵀ فِي صَحِيْحِهِ (١٦٧/ ١٢): (يُشْبِهُ أَنْ يَكُوْنَ مَعْنَى هَذَا الخَبَرِ: مَنْ لَقِيَ اللهَ مُدْمِنَ خَمْرٍ مُسْتَحِلًّا لِشُرْبِهِ؛ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالَةِ الكُفْرِ).
(٥) وَلِأَنَّ تَأْوِيْلَهَا يُبْطِلُ مَفَادَهَا مِنْ وُقُوْعِ الزَّجْرِ فِي النُّفُوْسِ.
وَهَذَا القَوْلُ حَقِيْقَتُهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ هَذِهِ النُّصُوْصِ؛ لَا أَنَّهَا مَجْهُوْلَةُ المَعْنَى عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الخَوْضَ فِي بَيَانِهَا وَجَمْعِهَا مَعَ سَائِرِ النُّصُوْصِ مُضْعِفٌ لِأَثَرِهَا فِي الزَّجْرِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (الفُرُوْعُ) (٢١٣/ ١٠): (وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ النُّصُوْصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيْرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ).
وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيْدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ص٣٢٠): (قَوْلُهُ: (ثَلَاثةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ): هَذَا مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ الَّتِيْ كَرِهَ السَّلَفُ تَأْوِيْلَهَا، وَقَالُوا: أَمِرُّوْهَا كَمَا جَاءَتْ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنَ القَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ دُوْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ - المُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلَامِ -؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَشِيْئَةِ اللهِ، فَإِنْ عَذَّبَهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ العَذَابَ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَبِفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ).
(٦) قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (١١٣/ ١٦) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) -: (هَذَا الحَدِيْثُ يُتَأَوَّلُ بِتَأْوِيْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ القَطِيْعَةَ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ - مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيْمِهَا -؛ فَهَذَا كَافِرٌ يُخَلُّدُ فِي النَّارِ وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَبَدًا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ مَعَ السَّابِقِيْنَ؛ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ القَدْرَ الَّذِيْ يُرِيْدُهُ اللهُ تَعَالَى).
(٧) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ ﵀ (٣٢٤/ ٤): «ذِكْرُ خَبَرٍ تَاسِعٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا؛ أَنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ المُتَوَقَّعِ مِنَ الشَّيْءِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى البِدَايَةِ: (ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ قَالَ: (المِرَاءُ فِي القَرْآنِ كُفْرٌ).
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ (ابْنُ حِبَّانَ): (إِذَا مَارَى المَرْءُ فِي القُرْآنِ أَدَّاهُ ذَلِكَ - إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ - إِلَى أَنْ يَرْتَابَ فِي الآي المُتَشَابِهِ مِنْهُ، وَإِذَا ارْتَابَ فِي بَعْضِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الجَحْدِ، فَأَطْلَقَ ﷺ اسْمَ الكُفْرِ الَّذِيْ هُوَ الجَحْدُ عَلَى بِدَايَةِ سَبَبِهِ الَّذِيْ هُوَ المِرَاءُ».
قُلْتُ: وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ صَحِيْحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (٤٦٠٣) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (٦٦٨٧).

1 / 271