بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية رحمه الله تعالى .
فصل
في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة والقرآن ، وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر من كل وجه ، وأنه كلما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه.
الصلاة قرة عيون المحبين وهدية الله للمؤمنين(1)
فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عيون المحبين ، ولذة أرواح الموحدين ، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين ، ومحك أحوال الصادقين ، وميزان أحوال السالكين ، وهي رحمة الله المهداة إلى عباده المؤمنين .
هداهم إليها ، وعرفهم بها ، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين ، رحمة بهم ، وإكراما لهم ، لينالوا بها شرف كرامته ، والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم ، بل منة منه ، وتفضلا عليهم ، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا ، وجعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما ؛ وهو إقباله على ربه سبحانه ، وفرحه وتلذذه بقربه ، وتنعمه بحبه ، وابتهاجه بالقيام بين يديه ، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده ، وتكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا وباطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.
পৃষ্ঠা ১
ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه ، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والتحف والخلع والخلع والعطايا ، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات ، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة ، لذة ومنفعة ومصلحة ووقار لهذا العبد ، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة ، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرا لمذموم كان يكرهه بإزائه ، ويثيبه عليه نورا خاصا ، فإن الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه ، ومحبة في العباد له ، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض ، وجبالها وأشجارها ، وأنهارها تكون له نورا وثوابا خاصا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وقد أشبعه وأرواه ، وخلع عليه بخلع القبول ، وأغناه ، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة ، قد ناله من الجوع والقحط والجذب والظمأ والعري والسقم ما ناله ، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه .
تشبيه القلب بالأرض
ولما كانت الجدوب متتابعة على القلوب ، وقحط النفوس متواليا عليها ، جدد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيا ، طالبا إلى من بيده غيث القلوب ، وسقيها مستمطرا سحائب رحمته لئلا ييبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان ، وكلأ الإحسان وعشبه وثماره ، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب ، فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائما ، يشكو إلى ربه جدبه ، وقحطه ، وضرورته إلى سقيا رحمته ، وغيث بره ، فهذا دأب العبد أيام حياته.
পৃষ্ঠা ২
فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ، فالغفلة هي قحط القلوب وجدبها ، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك ، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة ، فإذا تمكنت الغفلة منه ، واستحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ، وسنته جرداء يابسة ، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسمائم.
فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات ، والثمار وغيرها ، وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها وثمارها من الماء ، فإذا منعت من الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها ، وحبست ثمارها ، وربما يبست الأغصان والشجرة ، فإذا مددت منها غصنا إلى نفسك لم يمتد ، ولم ينقد لك ، وانكسر ، فحينئذ تقتضي حكمة قيم البستان قطع تلك الشجرة وجعلها وقودا للنار .
পৃষ্ঠা ৩
القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله فكذلك القلب ، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، ونار الشهوات ، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها ، والانقياد إذا قدتها ، فلا تصلح بعد هي والشجرة إلا للنار { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر :22] ، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة ، كانت الأغصان لينة منقادة رطبة ، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك ، وأقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه ، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح ، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر ؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح ، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية ، ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه ، وطاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها وهيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، وأريد منها ، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة ، وباع نفسه لله بأربح البيع.
والصلاة وضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعا لقيام القلب بها وهذا رجل عرف نعمة الله فيما خلق له من الجوارح وما أنعم عليه من الآلاء ، والنعم ، فقام بعبوديته ظاهرا وباطنا واستعمل جوارحه في طاعة ربه ، وحفظ نفسه وجوارحه عما يغضب ربه ويشينه عنده.
والثاني : من استعمل جوارحه فيما لم تخلق له ، بل حبسها على المخالفات والمعاصي ، ولم يطلقها ، فهذا هو الذي خاب سعيه ، وخسرت تجارته ، وفاته رضا ربه عز وجل عنه ، وجزيل ثوابه ، وحصل على سخطه وأليم عقابه.
পৃষ্ঠা ৪
والثالث : من عطل جوارحه ، وأماتها بالبطالة والجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خلق للعبادة والطاعة لا للبطالة .
وأبغض الخلق إلى الله العبد البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة.
بل هو كل على الدنيا والدين ، بل لو سعى للدنيا ولم يسع للآخرة كان مذموما مخذولا ، وكيف إذا عطل الأمرين ، وإن امرء يسعى لدنياه دائما ، ويذهل عن أخراه ، لا شك خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول ، كرجل أقطع أرضا واسعة ، وأعين على عمارتها بآلات الحرث ، والبذر وأعطي ما يكفيها لسقيها وحرثها ، فحرثها وهيأها للزراعة ، وبذر فيها من أنواع الغلات ، وغرس فيها من أنواع الأشجار والفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط ، ولم يهملها بل أقام عليها الحرس ، وحصنها من الفساد والمفسدين ، وجعل يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسد منه ، ويغرس فيها عوض ما يبس ، وينقي دغلها ويقطع شوكها ، ويستعين بغلتها على عمارتها.
والثاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض ، وجعلها مأوى السباع والهوام ، وموضعا للجيف والأنتان ، وجعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد ومؤذ ولص ، وأخذ ما أعين به من حرثتها وبذارها وصلاحها ، فصرفه وجعله معونة ومعيشة لمن فيها ، من أهل الشر والفساد.
والثالث : بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل الماء ضائعا في القفار والصحارى فقعد مذموما محسورا.
فهذا مثال أهل اليقظة ، وأهل الغفلة ، وأهل الخيانة.
أهل اليقظة والغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة ، والاستعداد لما خلقوا له.
والثاني : مثال أهل الخيانة.
والثالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول : إذا تحرك أو سكن ، أو قام أو قعد ، أو أكل أو شرب ، أو نام ، أو لبس ، أو نطق ، أو سكت كان كله له لا عليه ، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد .
পৃষ্ঠা ৫
والثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له ، وكان في طرد وإبعاد وخسران .
والثالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط .
فالأول : يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة.
والثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي ، فإن الله لم يملكه ما ملكه ليستعين به على مخالفته ، فهو جان متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقب على التنعم بها في غير طاعته.
والثالث : يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة والهوى ونهمة النفس وطبعها ، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى والتقرب إليه ، فهذا خسرانه بين واضح ، إذ عطل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارات .
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس ، رحمة منه بهم ، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.
পৃষ্ঠা ৬
ما هو سر الصلاة ؟ وتمثيل لذلك وكان سر الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله ، وحضوره بكليته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه وزلله مستمطرا سحائب جوده وكرمه ورحمته ، مستطعما له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما وصل إلى باب الملك ، ولم يبق إلا مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا وشمالا ، أو ولاه ظهره ، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، وأقله عنده قدرا عليه ، فآثره عليه ، وصيره قلبة قلبه ، ومحل توجهه ، وموضع سره ، وبعث غلمانه وخدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه ويعتذروا عنه ، وينوبوا عنه في الخدمة ، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم والأتباع ، فيصيبه من رحمته وإحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السهمان من الغانمين ، وبين الرضخ لمن لا سهم له : { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون }[الأحقاف :19] ، والله سبحانه وتعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه واختصه له ، وخلق كل شيء له ، ومن أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي ، وخلقت كل شيء لك ، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له " .
وفي أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببا موصلا إلى قربه ، ومناجاته ، ومحبته والأنس به .
পৃষ্ঠা ৭
ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة ، والإعراض والزلات ، والخطايا ، فيبعده ذلك عن ربه ، وينحيه عن قربه ، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته ، ليس من جملة العبيد ، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره ، وغله ، وقيده ، وحبسه في سجن نفسه وهواه .
فحظه ضيق الصدر ، ومعالجة الهموم ، والغموم ، والأحزان ، والحسرات ، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة ، مختلفة الأجزاء ، والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد ، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية .
الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ، ويقدم على ربه متطهرا ، والوضوء له ظاهر وباطن :
فظاهره : طهارة البدن ، وأعضاء العبادة.
وباطنه وسره : طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة ؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتظهرين }[ البقرة : 222] وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمتطهر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : "اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين " .
فكمل له مراتب العبدية والطهارة ، باطنا وظاهرا ، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ، وبالتوبة يتطهر من الذنوب ، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل ، والوقوف بين يديه ، فلما طهر ظاهرا وباطنا ، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق.
وبمجيئه إلى داره ، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه ، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.
পৃষ্ঠা ৮
من تمام العبودية الذهاب للمسجد والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه ، قد عطل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ، فإذا وقف بين يديه موقف والتذلل والانكسار ، فقد استدعى عطف سيده عليه ، وإقباله عليه بعد الإعراض عنه .
عبودية التكبير " الله أكبر ".
وأمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه ، ويستقبل الله عز وجل بقلبه ، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض ، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه ، وألقى بيديه مسلما مستسلما ناكس الرأس ، خاشع القلب مطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ، وطرفة عين ، لا يمنة ولا يسرة ، خاشع قد توجه بقلبه كله إليه.
وأقبل بكليته عليه ، ثم كبره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء ، وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه ، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دل على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره ، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله ، وكان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله ، معظما له ، مجلا ، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير ، أخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية ، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله ، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حق قوله : الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين ، اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله تعالى.
عبودية الاستفتاح
فإذا قال : " سبحانك اللهم وبحمدك" وأثنى على الله تعالى بما هو أهله ، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها ، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله.
وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له وتمهيدا ، وكان ذلك تمجيدا ومقدمة بين يدي حاجته.
পৃষ্ঠা ৯
فكان في الثناء من آداب العبودية ، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه ، ورضاه عنه ، وإسعافه بفضله حوائجه
حال العبد في القراءة والاستعاذة
فإذا شرع في القراءة قدم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته ، فهو أحرص شيء على صرفه عنه ، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب ، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطله ، وألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى ، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه ، ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيده الذي هو سبب حياة قلبه ، ونعيمه وفلاحه ، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
ولما علم الله سبحانه وتعالى حسد العدو للعبد ، وتفرغه له ، وعلم عجز العبد عنه ، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ، ويلتجئ إليه في صرفه عنه ، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته ، وكأنه قيل له : لا طاقة لك بهذا العدو ، فاستعذ بي أعيذك منه ، واستجر بي أجيرك منه ، وأكفيكه وأمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية لابن القيم
وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يوما : إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ، ومدافعته ، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ، ويكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه .
পৃষ্ঠা ১০
فأفضى القلب إلى معاني القرآن ، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول ، واستخرج من كنوزه وذخائره ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وكان الحائل بينه وبين ذلك ، النفس والشيطان ، فإن النفس منفعلة للشيطان ، سامعة منه ، مطيعة فإذا بعد عنها ، وطرد ألم بها الملك ، وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن ، فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته ، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه ، بأن يناجيه ويخاطبه ، وقلبه معرض عنه ، ملتفت ، إلى غيره ، فإنه يستدعي بذلك مقته ، ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا ، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك ، وقد ولاه قفاه ، أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة ، فهو لا يفهم ما يقول الملك ، فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين.
حال العبد في الفاتحة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة ، ينتظر جواب ربه له ، وكأنه يسمعه وهو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : { الحمد لله رب العالمين}.
فإذا قال : { الرحمن الرحيم } وقف لحظة ينتظر قوله : " أثنى علي عبدي ".
فإذا قال : {مالك يوم الدين } انتظر قوله : " مجدني عبدي ".
فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا بيني وبين عبدي ".
فإذا قال : {اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي ولعبدي ما قال ".
ومن ذاق طعم الصلاة علم أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها ، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها ، فلكل عبوديته من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل في غيرها ، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها لا يوجد في غيرها.
পৃষ্ঠা ১১
فعند قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كلل كمال للرب ووصفا واسما ، وتنزيهه سبحانه وبحمده عن كل سوء ، فعلا ووصفا واسما ، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه ، منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه.
فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك ، وأوصافه كلها أوصاف كمال ، ونعوت جلال ، وأسماؤه كلها حسنى.
من معاني الحمد
وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة ، والسموات والأرض ، وما بينهما وما فيهما ، فالكون كله ناطق بحمده ، والخلق والأمر كله صادر عن حمده ، وقائم بحمده ، ووجوده وعدمه بحمده ، فحمده هو سبب وجود كل شيء موجود ، وهو غاية كل موجود ، وكل موجود شاهد بحمده ، فإرساله رسله بحمده ، وإنزاله كتبه بحمده ، والجنة عمرت بأهلها بحمده ، والنار عمرت بأهلها بحمده ، كما أنها إنما وجدتا بحمده.
وما أطيع إلا بحمده ، وما عصي إلا بحمده ، ولا تسقط ورقة إلا بحمده ، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده ، فهو سبحانه وتعالى المحمود لذاته ، وإن لم يحمده العباد.
كما أنه هو الواحد الأحد ، وإن لم يوحده العباد ، وهو الإله الحق وإن لم يؤلهه ، سبحانه هو الذي حمد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال على لسان نبيه : سمع الله لمن حمده".
فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده ، فإنه هو الذي أجري الحمد على لسانه وقلبه ، وأجراؤه بحمده فله الحمد كله ، وله الملك كله ، وبيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، علانيته وسره .
فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد ، وهي نقطة من بحر لجي من عبوديته.
পৃষ্ঠা ১২
ومن عبوديته أيضا : أن يعلم أن حمده لربه نعمة منه عليه ، يستحق عليها الحمد ، فإذا حمده عليها استحق على حمده حمدا آخر ، وهلم جرا.
فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها في حمد ربه على نعمة من نعمه ، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك ، وأضعاف أضعافه ، ولا يحصي أحد البتة ثناء عليه بمحتمده ، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكل نعمة من ربه ، يحمده عليها ، فإذا حمده على صرفها عنه ، حمده على إلهامه الحمد.
قال الأوزاعي : " سمعت بعض قوال ينشد في حمام لك الحمد إما على نعمة وإما على نقمة تدفع".
ومن عبودية الحمد : شهود العبد لعجزه عن الحمد ، وأن ما قام به منه ، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك ، فهو محمود عليه ، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه ، ولولا الله ما اهتدى أحد.
ومن عبودية الحمد : تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها وباطنها على ما يحب العبد منها وما يكره ، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلهم ، برهم وفاجرهم ، علويهم وسفليهم ، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة ، وإن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ، وما يستحق الرب تبارك وتعالى من الحمد على ذلك والحمد لله : هو إلهام من الله للعباد ، فمستقل ومستكثر على قدر معرفة العبد بربه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : " فأقع ساجدا فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ".
عبودية {رب العالمين}
ثم لقول العبد : : { رب العالمين} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية وحده ، وأنه كما أنه رب العالمين ، وخالقهم ، ورازقهم ، ومدبر أمورهم ، وموجدهم ، ومغنيهم ، فهو أيضا وحده إلههم ، ومعبودهم ،وملجأهم ومفزعهم عند النوائب ، فلا رب غيره ، ولا إله سواه.
পৃষ্ঠা ১৩
عنوان : عبودية { الرحمن الرحيم} ولقوله : { الرحمن الرحيم } عبودية تخصه سبحانه ، وهي شهود العبد عموم رحمته.
وشمولها لكل شيء ، وسعتها لكل مخلوق وأخذ كل موجود بنصيبه منها ، ولاسيما الرحمة الخاصة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه : أقم قلانا ففق بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانا ، وأنم فلانا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه ، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته ، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده ، فرحمته وسعت كل شيء ، كما أن حمده وسع كل شيء ، وعلمه وسع كل شيء ، { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [ غافر :7] ، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصة فهو منفي عنها.
عنوان عبودية { مالك يوم الدين}
ويعطى قوله { مالك يوم الدين } عبوديته من الذل والانقياد ، وقصد العدل والقيام بالقسط ، وكف العبد نفسه عن الظلم والمعاصي ، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرد الرب في ذلك بالحكم بين خلقه ، وأنه يوم يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر ، وذلك من تفاصيل حمده ، وموجبه كما قال تعالى : { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}[الزمر:75].
ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار ، عدلا وفضلا ، ولما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}.
إخبارا عن حمد عبده له قال : حمدني عبدي.
ما معنى ( الثناء ) (التمجيد)
ولما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة وتكريرا لأوصاف كماله قال : " أثنى علي عبدي " ، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد ، وتعداد أوصاف المحمود ، فالحمد ثناء عليه ، و{ الرحمن الرحيم } وصفه بالرحمة.
পৃষ্ঠা ১৪
ولما وصف العبد ربه بتفرده بملك يوم الدين وهو الملك الحق ، مالك الدنيا والآخرة ؛ وذلك متضمن لظهور عدله ، وكبريائه وعظمته ، ووحدانيته ، وصدق رسله ، سمى هذا الثناء مجدا فقال : " مجدني عبدي " فإن التمجيد هو : الثناء بصفات العظمة ، والجلال ، والعدل ، والإحسان .
عبودية { إياك نعبد }
فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } انتظر جواب ربه له : " هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ".
وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما ، وميز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى ، والكلمة التي للعبد ، وفقه سر كون إحداهما لله ، والأخرى للعبد ، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إياك نعبد } والتوحيد الذي تقتضيه كلمة { وإياك نستعين } ، وفقه سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما ، والدعاء بعدهما ، وفقه تقديم { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } ، وتقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخرا أوجز وأخضر ، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة .
تقديم العبادة على الاستعانة
قلت : أراد تقديم العبادة وهي العمل على الاستعانة ، فالعبادة لله والاستعانة للعبد ، فالله هو المعبود ، وهو المستعان على عبادته ، فإياك نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي ، وهو يتضمن العمل الصالح الخالص ، والعلم النافع الدال على الله ، معرفة ومحبة ، وصدقا وإخلاصا ، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه ، والاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره ، وهي القول المتضمن قسم العبد.
فكل عبادة لا تكون لله وبالله فهي باطلة مضمحلة ، وكل استعانة تكون بالله وحده فهي خذلان وذل.
وتأمل علم ما ينفع العباد وما يدفع عنهم كل واحد من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعا ودفعا وكيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية.
পৃষ্ঠা ১৫
القرآن مداره على هذه الكلمة وتأمل علم كيف يدور القرآن كله من أوله إلى آخره عليهما ، وكذلك الخلق ، والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة ، وكيف تضمنتا لأجل الغايات ، وأكمل الوسائل ، وكيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر ، دون ضمير الغائب ، وهذا موضوع يستدعي كتابا كبيرا ، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطناه ، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب : "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " وفي كتاب " الرسالة المصرية ".
ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصراط المستقيم }
ثم ليتأمل العبد ضرورته وفاقته إلى قوله { اهدنا الصراط المستقيم } الذي مضمونه معرفة الحق ، وقصده وإرادته والعمل به ، والثبات عليه ، والدعوة إليه ، والصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.
ولما كان العبد مفتقرا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه ، بل وفي جميع ما يأتيه ، ويذره من :
أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد
* أمور فعلها على غير الهداية علما وعملا وإرادة ، فهو محتاج إلى التوبة منها وتوبته منها هي من الهداية.
* وأمور قد هدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
* وأمور قد هدي إليها من وجه دون وجه ، فهو محتاج إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم ، وأن يزداد هدى إلى هداه.
* وأمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.
* وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقادا صحيحا.
* وأمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه ، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل ، وتثبت فيه ضده.
* وأمور من الهداية : هو قادر عليها ، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها ، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.
পৃষ্ঠা ১৬
* وأمور منها : هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها ، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.
* وأمور منها : هو غير قادر عليها ولا مريد لها ، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها والإرادة لها لتتم له الهداية.
* وأمور : هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا وإرادة ، وعلما وعملا ، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها ، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات ، وفاقته إليها أشد الفاقات ، ولهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كل يوم وليلة في أفضل أحواله ، وهي الصلوات الخمس ، مرات متعددة ، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب.
* ثم بين أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال ، وهو اليهود ، والنصارى وغيرهم .
فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية :
منعم عليه : بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم ، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.
وضال : لم يعط هذه الهداية ولم يوفق لها .
ومغضوب عليه : عرفها ولم يوفق للعمل بموجبها.
فالضال : حائد عنها ، حائر لا يهتدي إليها سبيلا.
والمغضوب عليه : متحير منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ، ودين الحق علما وعملا واعتقادا والضال عكسه ، منسلخ منه علما وعملا.
والمغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا ، عارف به علما منسلخ عملا ، والله الموفق للصواب.
ولولا أن المقصود التنبيه على المضادة والمنافرة التي بين ذوق الصلاة ، وذوق السماع ، لبسطنا هذا الموضوع بسطا شافيا ، ولكن لكل مقام مقال ، فلنرجع إلى المقصود.
عبودية التأمين ورفع اليدين
وشرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلا بإجابته ، وحصوله ، وطابعا عليه ، وتحقيقا له ، ولهذا اشتد حسد اليهود للمسلمين عليه حين سمعوهم يجهرون به في صلاتهم.
পৃষ্ঠা ১৭
ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله ، وزينة للصلاة ، وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح ، واتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حلية الصلاة ، وزينتها وتعظيم لشعائرها.
ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن ، كالتلبية في انتقالات الحاج ، من مشعر إلى مشعر ، فهو شعار الصلاة ، كما أن التلبية شعار الحج ،(مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده. )
عبودية الركوع
ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعا لعظمة ربه ، واستكانة لهيبته وتذللا لعزته.
فثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه ، ويضع له قامته ، وينكس له رأسه ، ويحني له ظهره ، ويكبره معظما له ، ناطقا بتسبيحه ، المقترن بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب ، وخضوع الجوارح ، وخضوع القول على أتم الأحوال ، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه ، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض ، فإن الخضوع وصف العبد ، والعظمة وصف الرب .
وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ، ويتضاءل لربه ، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كل تعظيم فيه لنفسه ، ولخلقه ويثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له .
إذا عظم القلب الرب خرج تعظيم الخلق
وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب ، وقوى خرج منه تعظيم الخلق ، وازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ، والقصد والجوارح بالتبع والتكملة.
ثم شرع له أن يحمد ربه ، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته ، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم ، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.
পৃষ্ঠা ১৮
عبودية القيام ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء ، واقفا في خدمته ، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك ، ولهذا شرع له من الحمد والمجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.
ولهذا الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب ، ويخصه سوى ذوق الركوع وحاله ، وهو ركن مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواء.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيله كما يطيل الركوع والسجود ، ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد ، كما ذكرناه في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته وكان في قيام الليل يكثر فيه من قول : " لربي الحمد ، لربي الحمد " ويكررها.
عبودية السجود
ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخر ساجدا ، ويعطي في سجوده كل غضو من أعضائه حظه من العبودية ، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه ، مسندة راغما له أنفه ، خاضعا له قلبه ، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض ولاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفرا له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيده ، راغما أنفه ، خاضعا له قلبه وجوارحه ، متذللا لعظمة ربه ، خاضعا لعزته ، منيبا إليه ، مستكينا ذلا وخضوعا وانكسارا ، قد صارت أعاليه ملوية لأسافله.
وقد طابق قلبه في ذلك حال جسده ، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله ، وقد سجد معه أنفه ووجهه ، ويداه وركبتاه ، ورجلاه فهذا العبد هو القريب المقرب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه وهو ساجد .
وشرع له أن يقل فخذيه عن ساقيه ، وبطنه عن فخذيه وعضديه عن جنبيه ، ليأخذ كل جزء منه حظه من الخضوع لا يحمل بعضه بعضا .
فأحر به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه ].
পৃষ্ঠা ১৯
ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة ، كما قيل لبعض السلف :
هل يسجد القلب ؟
الصلاة مبناها على خمسة أركان
قال : " أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل ".[هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/287) (23/138) ]
إشارة إلى إخبات القلب ، وذله ، وخضوعه ، وتواضعه وإنابته وحضوره مع الله أينما كان ، ومراقبته له في الخلاء والملأ ، ولما بنيت الصلاة على خمس : القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر .
سميت باسم كل واحد من هذه الخمس :
فسميت " قياما " لقوله : { قم الليل إلا قليلا} [ المزمل :2] ، وقوله : {وقوموا لله قانتين} [البقرة :238].
و"قراءة" لقوله : {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء :78] ، {فاقرءوا ما تيسر منه } [المزمل :48].
وسميت " ركوعا " لقوله : { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة :43] ، { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}[المراسلات :48].
و" سجودا " لقوله : { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} [ الحجر : 98] ، وقوله { واسجد واقترب} [العلق :19].
و"ذكرا " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله} [ الجمعة :9] ، { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون :9].
وأشرف أففعالها السجود ، وأشرف أذكارها القراءة ، وأول سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة { اقرأ باسم ربك } افتتحت بالقراءة ، وختمت بالسجود ، فوضعت الركعة على ذلك ، أولها قراءة وآخرها سجود.
পৃষ্ঠা ২০