8

مع أنني قلت إنني لست بحاجة إلى شيء محدد، فثمة شيء أريده؛ صورة لك. آمل ألا يخطر ببالك أنني أتجاوز حدودي بطلبي هذا! لعلك مخطوبة لأحدهم، أو ربما لديك حبيب هنا تراسلينه كما تراسلينني! فأنت فتاة غير تقليدية، ولن يدهشني إذا سبق وخطب ودك أحد المسئولين. لكن الآن بعد أن تجرأت وسألت، لا يسعني أن أتراجع عن طلبي، وسأترك الأمر لك فلتظني بي ما تشائين.

كانت لويزا في الخامسة والعشرين من عمرها، ووقعت مرة واحدة في غرام طبيب تعرفت إليه في المستشفى، وبادلها الطبيب حبا بحب؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى أن خسر وظيفته. كان يحدوها شك شديد حول إن كان أجبر على الرحيل عن المستشفى، أم أنه رحل من تلقاء نفسه بعد أن أصابه السأم من تعقيد علاقته بها، فقد كان متزوجا ولديه أبناء. كان للخطابات دور فعال آنذاك أيضا. بعد أن رحل، لم تنقطع بينهما الخطابات، وراسلته مرة أو مرتين بعد أن سمح لها بالخروج من المستشفى، وبعدها طلبت منه ألا يراسلها ولبى طلبها، لكن انقطاع رسائله دفعها إلى مغادرة تورونتو وقبول وظيفة في مجال السفريات؛ ومن ثم بات الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لا يعتريها سوى مرة واحدة في الأسبوع كلما رجعت ليلة الجمعة أو السبت. كان خطابها الأخير حازما ومتحفظا، ولازمها شعور بأنها بطلة من أبطال القصص التراجيدية حيثما حلت في المدينة وهي تجرجر حقائبها صعودا وهبوطا على سلالم الفنادق الصغيرة، وتحدثت عن الأزياء الباريسية وقالت إن عينات قبعاتها كانت ساحرة، واحتست كأسها بمعزل عن الآخرين. لو كان لديها من تخبره، لسخرت من هذه الفكرة تحديدا؛ لو كان لديها من تخبره، لقالت إن الحب هراء، لقالت إن الحب خدعة، وإنها لمؤمنة بذلك. ولكن استشرافا للأحداث، ما زالت تشعر بهدأة تكتنفها، وقشعريرة تسري في أوصالها، ونكوص للحس، وإعياء شديد.

التقطت صورة لها ... كانت تعرف كيف تريد أن تظهر في صورتها. كم كانت تود أن ترتدي ثوبا فضفاضا، أبيض اللون، بسيطا في تصميمه. لم يكن لديها ثوب بهذا الوصف، بل إنها لم تر مثيلا له إلا في الصور. وكم كانت تحب أن تترك شعرها منسدلا، أو لو كان له ألا ينسدل، لكان يطيب لها أن ترفعه من غير إحكام بالمرة وتعقصه بحبات من اللؤلؤ.

بدلا من ذلك، ارتدت بلوزتها الحريرية الزرقاء، وعقصت شعرها كالمعتاد. رأت أن الصورة جعلتها تبدو شاحبة بعض الشيء وغائرة العينين، وكان تعبير وجهها أكثر حزما وتوجسا مما كانت تريد. أرسلتها إليه على أية حال.

إنني لست مخطوبة، وليس لدي حبيب. وقعت في الحب مرة واحدة، وكان علي إنهاء العلاقة. كنت مستاءة آنذاك لكنني كنت أعرف أنني يجب أن أتحمل الألم، والآن أعتقد أن قراري كان صائبا.

بالطبع حاولت جاهدة أن تتذكره. لم تكن تتذكر أنها نفضت الماء عن شعرها كما قال، أو ابتسمت لشاب بينما تناثرت قطرات الماء من شعرها على المدفأة. يجوز أنه رأى هذا المشهد في أحلامه، ولعل هذا ما حدث.

طفقت تتبع أخبار الحرب بطريقة أكثر تفصيلا مما سبق، لم تحاول أن تتجاهلها بعد ذلك. جابت الشارع وهي تشعر أن رأسها يعج بالمعلومات المثيرة والمزعجة التي تجول بخاطر الجميع؛ معركة سان كونتا، وآراس، ومونت ديدييه، وأميان، ومن بعدها ثمة معركة كانت تدور رحاها عند نهر السوم حيث وقعت بالتأكيد أحداث معركة أخرى من قبل. فردت على مكتبها خرائط الحرب التي كان محتوى الواحدة منها معروضا على صفحتين متقابلتين كما في المجلات. رأت تقدم الألمان إلى إقليم المارن الفرنسي مميزا بخطوط ملونة، وأول دفعة من الجنود الأمريكيين في شاتو-تيري. تطلعت إلى صور بنية اللون لأحد الفنانين، مرسوم عليها فرس يصهل خلال غارة جوية، وبعض الجنود في شرق أفريقيا يحتسون جوز الهند، وصف من الجنود الألمان الأسرى ورءوسهم أو أطرافهم ملفوفة بضمادات، وتعبيرات وجوههم تشي بالكآبة والتجهم. الآن شعرت بما يشعر به الآخرون جميعا؛ مخاوف وهواجس مستمرة، وفي الوقت نفسه شعرت بتلك الإثارة الشديدة. يمكن للمرء أن يرفع بصره لأعلى ويحس بالعالم وهو يتحطم من وراء الجدران.

يسعدني أن أعرف أنه ليس لديك حبيب ، ولو أنني أعرف أن هذا يعد أنانية من جانبي. لا أعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى! لا أقول ذلك لأن حلما راودني عما سيحدث في المستقبل، أو لأنني شخص متشائم يستشرف دائما السوء. جل ما في الأمر أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق في رأيي، ولو أنني لا أطيل التفكير فيه، وأبذل قصارى جهدي كل يوم كي أبقى على قيد الحياة. لا أحاول أن أصيبك بالقلق، ولا أحاول أن أستدر عطفك أيضا، كل ما هنالك أنني أشرح كيف أن فكرة أنني لن أرى كارستيرز مرة أخرى تجعلني أعتقد أن بإمكاني أن أقول ما أشاء. أعتقد أن حالتي هذه أشبه بالإصابة بالحمى؛ ولذلك سأقول إنني أحبك. أفكر فيك واقفة على كرسي بالمكتبة تضعين كتابا في مكانه، وأتخيل نفسي وأنا أتقدم نحوك، وأضع يدي على خصرك لأساعدك في النزول، فتلتفتين نحوي وأنا أطوقك بذراعي كما لو أننا اتفقنا على كل شيء.

ظهر أيام الثلاثاء، يلتقي نساء وفتيات الصليب الأحمر في غرفة الاجتماعات التي تفصلها الردهة عن المكتبة. وعندما كانت المكتبة تخلو لبضع لحظات، كانت لويزا تقطع الردهة وتدلف إلى الغرفة التي تعج بالنساء. كانت قد قررت أن تحيك وشاحا؛ تعلمت في المستشفى كيف تحيك غرزة عادية، لكنها لم تتعلم قط - أو لعلها نسيت - كيف تحيك السطر الأول أو الأخير من الغرز.

كانت السيدات الأكبر سنا منشغلات تماما بتعبئة الصناديق أو بقص ضمادات وطيها من أقمشة من القطن الثقيل المبسوط على الطاولات؛ لكن كثيرا من الفتيات على مقربة من الباب كن يأكلن الكعك المحلى ويحتسين الشاي، وكانت إحداهن تمسك بشلة من الصوف على ذراعيها كي تلفها أخرى.

অজানা পৃষ্ঠা